الحضارات الكبرى التي نشأت واستشرى أمرها ضمّت في كينونتها ممالك ودولًا تعايشت معا وتفاعلت على فترات من تطورها .. وهكذا بدا العالم القديم وكأنّ قوة خفية تحركه وتدفعه من حيث لا يدري نحو وحدة إنسانية تتجدد دهراً بعد دهر .. فالحضارات تتعاقب وتهوي بعد أن تحاول كل منها أن تسهم على قدر طاقتها في وضع لمساتها على التاريخ .
بلغ الآراميون درجة عالية من المدنية فكانوا في سنة 1000 ق . م . يستعملون في كتاباتهم الحروف الهجائية التي أخذوها عن الفينيقيين . وهو أقدم أسلوب للكتابة، ومعروف انه استعملت فيه الحروف الهجائية وحدها . وأخذوا عن المصريين الاقلام والاحبار اللذين لا يستغني عنهما مطلقاً بالكتابة ، وكما حملت قوافل البابليين في العهود الأولى قطع الآجر المكتوبة بالخط المسماري إلى أطراف آسيا الغربية ،كذلك حملت إليها القوافل الآرامية قوائم حسابات التجار وسنداتهم المكتوبة بالحروف الهجائية فحلت الحروف الهجائية الآرامية الفينيقية محل الرموز المسمارية وانتشرت في جميع أنحاء آسية الغربية ثم جاوزت الانتشار إلى بلاد فارس وأواسط آسيا حتى بلغت أخيراً إلى الهند وصارت بعد مضي فترة من الزمن الكتابة الرئيسة للشعوب الشرقية ايضا
وحينما يتنّقل التجار الآراميون كانت لغتهم بالطبع تتنقل معهم الى المناطق التجارية المعروفة ، فلم يمر عليها زمن طويل حتى شاع استعمالها تدريجياً على تخوم البادية . وأصبح عدد المتكلمين بها في بلاد آشور نفسها يربو على المتكلمين بالآشورية . وعلى ضوء التعامل بالآجر المنقوش بين التجار يعمد التاجر الآرامي بالكتابة والتعليق على المضمون بالآرامية على حاشية الآجرة المكتوبة بالآشورية. وبعد مدة من الزمن أجمع الرأي العام على أن تدار الأعمال العامة باللغتين الآشورية والآرامية .
هذا من ناحية الشأن العام. وأما في الحكومة فإذا كان الكاتب آراميا كان يدوّن المحاضر بقلم على ملف البردي وإذا كان آشوريا كان يكتب على الآجر بقلم قصب صلد ومدبب الرأس. وأصبحت اللغة الآرامية لغة بلاد مابين النهرين فيما بعد . حتى أنها حلت محل العبرية الشمالية ، وهكذا صار هذا اللسان التجاري الآرامي بعد ذلك بقرون عديدة اللغة التي تكلم بها المسيح ومن عاصره من العبرانيين .
وكانت أولى نتائج ذلك انتشار لغتهم التي انصهرت لهجاتها المتعددة في لغة آرامية عامة . وهم لم يكتبوها بحروف مسمارية ، بل طبقوا عليها أبجدية مشتقة من الأبجدية الفينيقية . فحملت سهولة استعمالها الملوك الآشوريين على استخدام الكَتَبَة الآراميين المنتشرين هنا وهناك في إدارتهم ، للكتابة على البردي . وذهب الاخمينيون إلى ابعد من ذلك فجعلوا من الآرامية لغة إمبراطوريتهم الإدارية . وإذا ما أضفنا إلى ذلك نشاط الآراميين التجاري يتضح لنا كيف أن لغتهم قد عمَّ استعمالها وحلت محل لغات أخرى كثيرة . وتبين لنا نجاحاتها أسباب اضمحلال اللغات القديمة الخاصة في بلاد ما بين النهرين . فاصيبت العبرية بالشلل حتى في منبعها في اورشليم .
كانت الآرامية لهجة القبائل البدوية التي ذكرتها رسائل تل العمارنة في القرن الرابع عشر ق . م . والتي ذكرها الآشوريون في أحد نصوصهم وأطلقوا عليها اسم ( أكلامو) أو ( أخلامو) ، وكانت هذه القبائل تقيم في تخوم وديان دجلة والفرات . مع قلب الأزمنة ، واتساع رقعة سكن القبائل المذكورة ، ظهرت لهجات عديدة ، وأصبحت الآرامية تدل على تفرع اللغة السامية لتضم عدة لهجات .
اما مقارنة الآرامية مع عبرية كتاب العهد القديم ، تظهر آثار تطور اكبر أصاب هذه اللغة ، على صعيد نظامها الصوتي والحرفي ، وفيما يتعلق بالإعراب الذي فُقِدَ فيها تماماً في حين احتفظت العبرية ببعض مظاهره . وقد اكتسبت الآرامية عدداً من مفردات الألفاظ والأدوات ، واغتنت بالتوريات والجمل التابعة .
ويمكن تمييز مرحلتين أساسيتين في تاريخ اللغة الآرامية
المرحلة الأولى : سابقة لانقسام اللغة إلى لهجات متعددة ، وتمتد من القرن التاسع ق . م. وحتى موت الاسكندر الكبير عام 323 ق . م . وتعرف بمرحلة الآرامية الشائعة أو المشتركة .
المرحلة الثانية : تمتد من موت الاسكندر إلى يومنا هذا . وقد ظهرت في هذه المرحلة لهجات عديدة اصبح اغلبها من اللغات الأدبية .
ينقسم تاريخ الآرامية المشتركة إلى عدة مراحل . فهناك المرحلة القديمة وقد دونت بها كتابات القرنين التاسع والثامن ق. م. ، مثال نص إهداء ، من( بر هدد) إلى الإله( ملقارت) مطلع القرن الثامن ق. م. وكتابات ارسلان طاش ( قرابة القرن الثامن ق. م. ) وكتابات زاكر ( نهاية القرن التاسع الميلادي) والنقوش على القرميد التي عثر عليها في حماة ( القرنان التاسع والثامن ق. م. ) ومسلات السفيرة ( قرابة العام 75. ق . م. ) وكذلك سائر النصوص العائدة إلى العالم الآرامي السياسي ( جوزانا وشمبأل وارباد ودمشق) . هذه الكتابات دونت بالأبجدية الفينيقية ، مع فارق أن بعض الأحرف الحلقية والشبه صامتة استُعملت لترمز إلى الأحرف الصامتة ( الحركات ) .
وانتشرت الآرامية في القرن الثامن ق. م. بفضل الغزوات والحروب الآشورية والبابلية، فحلت مكان الأكدية كلغة دبلوماسية . وهذه الآرامية تسمى الآرامية الكلاسيكية المتأثرة بالأكدية . وآثارها في مسلات (النيرب) ، وألواح( تل حلف) ، وفي تعويذة آرامية لآشور ، وكتابات نمرود ،
ومن ثمَّ تمَّ استيلاء كورش على بابل عام 539 ق .م. وأسس إمبراطورية تمتد من بلاد فارس إلى النيل والهند . وكانت الآرامية هي اللغة الرسمية للأجهزة الإدارية التي كانت تشرف من( سوسة) على النظام السياسي المترامي . وكانت الآرامية في خدمة المبادلات التجارية والسياسية والثقافية . وقد تداخلت هذه اللغة مع اللهجات المحلية في مختلف المناطق ، محتفظة بقواعدها ومن دون أن تفسدها تلك اللهجات . ويطلق على هذه الآرامية اسم[ آرامية الإمبراطورية] . وقد عثر على عدد كبير من المخطوطات العائدة للحقبة الأمينية في جميع مرزبانات الإمبراطورية الفارسية ، من الأفغانيتان والهند شرقاً إلى مصر غرباً .وأشهر هذه الوثائق هي برديات ( يت ) ( الفنتين) التي تعود إلى القرن الخامس ق. م. والتي عثر عليها في احدى المعسكرات الاسرائيلية عن طريق الصدفة عند حفر اساس لمشروع بناء جديد .
تتكشف آرامية الإمبراطورية عن دلائل عديدة لتطورها الصوتي واللفظي. وقد تطعمت بعبارات فارسية من المصطلحات الإدارية والعسكرية المتداولة آنذاك ، وأتخذت الآرامية طابعاً صورياً رمزياً في الكتابات الفارسية استمر حتى العام 247ق . م. وذلك أن عدداً كبيراً من الكلمات كانت تُكتب بالآرامية وتحوَّل عند القراءة إلى مرادفها البهلوي .
وعندما غزا الاسكندر الكبير الشرق، حلَّت اللغة الإغريقية محل الآرامية ،وانقسمت الآرامية إلى لهجات عدة . أما الخط الآرامي، وابتداءً من القرن السابع ق. م. فقد تولدت منه خطوطاً جديدة ، منها الأحرف المربعة ( سترانجلو ) التي تبنّاها العبرانيون والأحرف النبطية والتدمرية والمندائية والسريانية .
وانقسمت الآرامية إلى فرعين رئيسيين : فرع غربي وآخر شرقي. ويحتوي الفرع الغربي على اللهجات التالية
أولا : آرامية الكتاب المقدس ــ الذي كتب في اورشليم ( القرنان الثالث ، والثاني ق. م) التي يطلق عليها خطأ اسم الكلدانية . وقد استعملت هذه اللهجة في سفر عزرا ثم في سفر دانيال ( 167 ــ 166) ق . م. وأصبحت لهجة محلية في اورشليم.
ثانيـا: اللهجة التدمرية
ثالثـا: اللهجة النبطية
رابعـا: اللهجة اليهودية الآرامية الغربية
خامسا: اللهجة السامرية
سادسا: اللهجة المسيحية الآرامية
سابعـا: اللهجة الآرامية الجديدة
أما الفرع الشرقي الذي تطور في بابل ، منذ العصر السلوقي في القرن الرابع ق .م. فهو ينقسم إلى اللهجات التالية ـــ
اولا:اللهجة المندائية
ثانيـا:اللهجة اليهودية الآرامية الشرقية [ كتب تلمود بابل ، باللهجة الآرامية المندائية مضافا اليه بعض العبارات من اللهجة اليهودية الآرامية الشرقية]
ثالثـا:اللهجة السريانية
رابعـا: اللهجات الآرامية الشرقية الحديثة
تراجعت الآرامية الشرقية والغربية أمام اللغة العربية التي انتشرت في معظم كامل المنطقة بعد الغزو الاسلامي للمنطقة ، فلم يسلم بعدها إلا لهجات ثلاث جماعات صغيرة من الشعوب الآرامية ، تتمثل إحداها في شعب( طور عابدين) في أعالي دجلة . وقد تبدلت البنية الآرامية القديمة تبدلاً كبيراً في هذه اللهجة فظهرت فيها صيغ فعلية جديدة مشتقة من المصدر حلت مكان صيغ الماضي والمضارع . واصبحت أداة التعريف تختلف باختلاف الجنس والعدد . وهناك لهجة ثانية هي السريانية الجديدة ، وثالثة هي لهجة الموصل . وهذه الأخيرة تقع بين لهجة طور عابدين ولهجة اورميا .
ومع آخر عهد الإمبراطورية الرومانية بعثت الثقافة الآرامية مجدداً ، وتراجعت اللغة الإغريقية أمام السريانية ، وظهر عدد كبير من الكتاب يستعملون إحدى اللغتين المذكورتين . ونشأت بطريركيتا,, أورشليم وإنطاكية,, .وظهرت مدارس انطاكية والرها ونصيبين ، ورهبان أمثال القديس سابا ، ونساك ، وعموديون أمثال القديس سمعان، ما أسهم إسهاماً كبيرا في الحقبة ما بين القرنين الرابع والسابع الميلاديين ، بترسيخ أسس العقيدة المسيحية . وقد تميزت العقيدة المسيحية بالعاطفة الدينية القوية والروح القومية المعادية لبيزنطة ، مما أدى إلى ظهور الكنائس الهرطوقية التي كانت تستعمل السريانية لغة لها ، ونشأت النسطورية في القرن الخامس انطلاقا من إنطاكية ، ولاقت اتباعاً لها في شرقي الفرات . إلّا أن مذهب الطبيعة الواحدة ، الذي دافع عنه سويروس بطريريك إنطاكية ويعقوب البرادعي مؤسس الكنيسة اليعقوبية ، تغلب على المذهب الأرثوذكسي الممثل من يومها بالكنيسة الملكية ، وبموارنة لبنان الكاثوليكيين ذوي الطقس السرياني . وتدخل هيراقليوس الأول في الجدل القائم ، ونتج عن ذلك تحديد جديد للمسيحية قائم على مذهب الإرادة الواحدة لدى المسيح .
والى يومنا هذا لم يتبق من الآرامية الا من يتحدث بها في بقاع صغيرة جدا من بلاد مابين النهرين ،فالآرامية الغربية والتي يعتقد انها لهجة المسيح ،بقيت محصورة فقط في قرية معلولة على اطراف دمشق ، والارامية الشرقية المطعمة بمفردات عربية ،والتي يتحدث بها اتباع الديانة المسيحية في بعض البلدات من الموصل واربيل ودهوك وكركوك في شمال العراق . اما الآرامية المندائية ، اقتصر تداولها في الكتب المقدسة لاتباع الديانة المندائية ، ويتم استعمالها فقط في اداء المراسيم والطقوس الخاصة بالمناسبات في العراق . اما في ايران ، فلا يتحدث بها الاّ عدد قليل من الافراد في الحياة العامة من اتباع هذه الطائفة …
المصادر
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ليو اونيهايم ــــ بلاد ما بين النهرين، ترجمة سعدي فيضي دار الرشيد 1981
هاري ساكزـــ عظمة بابل ترجمة د. عامر سليمان 1979
البير ابونا ـــ ادب اللغة الارامية، دار المشرق بيروت 1995
جورج رو ـــ العراق القديم، ــ لندن 1984