كشفت مصادر أميركية، قريبة من مطابخ صنع القرار وعارفة بما يجري فيه، وقائع مذهلة تتصل بتصرفات الرئيس أوباما خلال التعاطي مع مأساة سوريا، وبموقف كبير مستشاريه ومدير البيت الأبيض التنفيذي من السياسات التي يجب اتباعها فيها.
فالرئيس أوباما، الذي بدأ عهده بخطب بليغة عن حقوق البشر والمصالحة بين أميركا والعالم الإسلامي، يتابع خلال الاجتماعات الخاصة بسوريا ما هو مكتوب على «آيباده»، ويتلهى بالرسائل التي تصله على حسابه الشخصي في الـ«فيس بوك»، متجاهلا ما يقال حول سوريا، ناهيك عن المشاركة في رسم مواقف إدارته حيال كارثة سوريا الكبرى. هذا الموقف الذي يتخذه الرئيس الأميركي من مأساة إنسانية مرعبة نجد تفسيره في ما قاله نائب رئيس مجلس الأمن القومي السابق ومدير البيت الأبيض التنفيذي الحالي، وملخصه أن الصراع في سوريا يجب أن يستمر، بما أن الولايات المتحدة نجحت في جر إيران وتابعها حزب الله إليه، ومن المبكر إيقاف ما يلحقه بها وبأتباعها وعملائها اللبنانيين من خسائر، ويتيحه لواشنطن من آفاق تتصل بتوسيع وتعميق الورطة الإيرانية – الروسية، من دون نسيان واقعة مهمة هي أنه لم يكلف أميركا وإسرائيل قرشا واحدا، ولم يتسبب حتى الآن في مقتل أو إزعاج جندي واحد من جيشيهما، رغم أنه يحقق لهما كل ما يريدانه استراتيجيا في المنطقة العربية، ويضع مفاتيح مستقبلها في أيديهما.
ربما كان من حسنات الأميركيين أنهم لا يخفون شيئا من أفكارهم ومشاعرهم حيال الأشخاص والأحداث، ويتعاملون مع غيرهم بقدر من الاستهتار يقارب الازدراء، ويعترفون بين حين وآخر، ومن دون أي مواربة، بما يفعلونه أو يخططون له. ومع أنهم يحاولون دوما منع الآخرين من رؤية حقائق سياساتهم ووقائعها في قضايا ومسائل معينة، فإنهم يبادرون إلى الإفصاح عن بعض خفاياها بمجرد أن يشعروا بوجود ضرورة لذلك. من المعروف أن أميركا حاولت في بداية الثورة الظهور بمظهر من يستميت دفاعا عن حقوق الشعب السوري ومصالحه، لكن إعلاناتها الأخيرة تقول بوضوح إن ما أدلت به من تفوهات ضد النظام كان مجرد ألفاظ وكلمات، وأن غرضها كان تقطيع الوقت والضحك على ذقون السوريين حيثما وجدوا، وإيهامهم بأنها تريد إسقاط الأسد وتحقيق الديمقراطية في بلادهم، بينما هي لا تريد ولا تفكر في شيء من ذلك، وتحصر جهدها في إدارة صراعهم مع الأسدية باعتباره أزمة وحسب عليها استدراج خصومها إليها، لتصفي حساباتها معهم بدماء السوريين.
هذه الحقيقة كانت معروفة لكل مراقب نزيه منذ بدء الثورة. وقد عبرت مرات كثيرة عنها في ما كتبت، وقلت إن أميركا تنتهج سياسة تجعلها الرابح الوحيد من الصراع المحتدم داخل سوريا وخارجها، وإن وقائع سياستها تؤكد رغبتها في إدامة هذا الصراع وتوريط خصومها فيه والتحكم في مواقفهم: من روسيا إلى إيران فالعالم العربي والدول الإقليمية المختلفة. واليوم، يقول مسؤول أميركي رفيع جدا إن بلاده مسؤولة عن استمرار المأساة، التي لو أرادت لوضعت حدا لها من دون أن يتمكن أحد من مقاومتها، والدليل: مسارعة الروس إلى الانزواء جانيا وإعلانهم أنهم لن يخوضوا الحرب من أجل الأسد ونظامه، بمجرد أن وصلت بعض القطع البحرية الأميركية إلى شرق المتوسط خلال أزمة الكيماوي، ومسارعة نظام دمشق إلى تسليم سلاحه إلى إسرائيل، بعد ساعات من مطالبة رئيسها شيمعون بيريس بذلك. أما الدليل الآخر فهو رفض واشنطن طلبات قدمناها لها بعرض غزو حزب الله لسوريا على مجلس الأمن، حتى عندما ذكرناها بأنها اعتبرت حزب الله منظمة إرهابية، منذ عام 1995!
يعترف مستشار أوباما بأن لأميركا مصلحة استراتيجية في استمرار الصراع على سوريا وفيها، مكذبا بذلك الترهات السخيفة التي تحدثت عن انسحاب أميركا من الشرق الأوسط، وتراجع دورها فيه وتركه للروس والإيرانيين، ومبينا أن كل ما فعلته إدارته كان بتخطيط وتدبير، وأنه لم يستنفد أغراضه بعد، ومن الخطأ العمل على إنهائه قبل أن تصل الأمور إلى ما تبتغيه من أهداف بخصوص إيران وروسيا وحزب الله والمالكي وربما بلدان أخرى.
أين يمكن أن نضع هذه الاعترافات من «جنيف» ومسعى انعقاده؟ هل تتسلى أميركا به كما تسلت بالسوريين، بينما كانت تصارع خصومها بأبرد دم عرفه البشر على أرضهم؟ وهل هي جادة حقا في الوصول إلى حل سياسي يرضيهم وينهي مأساتهم؟ وإذا كانت جادة فلماذا تضيع وقتها ووقتنا في «جنيف»، مع أنها تستطيع فرض حل خلال ساعات، من دون أن تدخل في مماحكات مع الروس والإيرانيين، ومفاوضات مع مجرم يرفض السلام جملة وتفصيلا؟ أخيرا، هل سيكون «جنيف» مناسبة لإدامة صراع يستنزف الجميع، عدا أميركا وإسرائيل، يضمر فرصا جدية لكبح ثورة تطالب بنظام ديمقراطي ممنوع إسرائيليا، ولمزيد من تدمير دولة ومجتمع سوريا، التي تقول دلائل كثيرة إن واشنطن لا تخشى بقاء الأصولية فيها، لأن من شأن ذلك دفع الصراعات المتشعبة والعاتية عليها إلى حدود الجنون؟!
منقول عن الشرق الاوسط