د. اكرم هواس
اكاديمي عراقي … الدنمارك
يوم الأحد الماضي 27/10 أقيم في ستوكهولم يوم الثقافة الكوردية الفيلية برعاية الاتحاد الديمقراطي الكوردي الفيلي و شبكة المرأة الكوردية الفيلية …. الحضور الجماهيري الذين كان من بينهم السفير العراقي و الوزير المفوض و ممثلي احزاب كردية و عراقية استمتعوا بقصائد شعرية و موسيقى كوردية كما استمعوا الى محاضرتين كانت إحداهما مساهمة الدكتور عقيل الناصري سبقتها مساهمتي المتواضعة و كانت بعنوان ( القضية الفيلية: اشكالية المفاهيم المؤسسة للثقافة العراقية)..
فكرة محاضرتي هي محاولة لفهم آخر … غير سياسي او غير تسييسي… للمشكلة العراقية… الطائفية التي قسمت المجتمع العراقي بكل الاتجاهات … الطروحات المبررة للعنف و الظلم و الاضطهاد الذي طال و يزال يطال الكثيرين و منهم الكورد و خاصة فيما يتعلق بهذه المناسبة الكورد الفيليين… و أركان الهوية العراقية التي تستند الى هلاميات رغبوية أكثر مما تستند الى أسس واقعية..
في إطار هذه الإشكاليات حاولت من خلال محاضرتي أن افكك احجية قضية الكورد الفيليين التي يمكن وضعها في معادلة بسيطة لكنها تحمل عناصر تمس القيم الأخلاقية و العلاقة بين الدولة و المجتمع و مفهوم الدولة الحديثة و تناقضاتها التاريخية الجغرافية… الكورد الفيليين الذين أقتلعوا من بيوتهم و أرسلت نسائهم و اطفالهم عبر الحدود الى المجهول كما وضع رجالهم في الزنزانات قبل أن يتم تذويبهم في الأحماض الكيمياوية الحارقة ( التيزاب باللهجة العراقية) لإخفاء آثارهم نهائيا… نعم حصل كل المجزرة الرهيبة تحت عنوان سياسي بريء جداً و هو أنهم لا يحملون الجنسية العراقية رغم أنهم يسكنون هذه الأرض التي تسمى العراق الان منذ آلاف السنوات أي منذ أن انبثقت الحضارات الأولى في ارض الرافدين.. بل أكثر من هذا هو ما يؤكده بعض الدراسات الانثروبولوجية بأنهم … اي الكورد الفيلية…. يتبعون تلك الحضارات و خاصة فيما يتعلق باللغة و الملبس و التقاليد الاجتماعية …
المجزرة الرهيبة وصلت أوجها في الثمانينات من القرن الماضي و لكنها بدأت منذ نشوء الدولة الحديثة في العراق أثناء الاحتلال البريطاني الذي جاء كجزء من الحرب العالمية الأولى ضد ممتلكات الدولة العثمانية و بضمنها الأراضي التي أصبحت تشكل الدولة العراقية … و واحدة من اهم اشكاليات تكوين المجتمع العراقي هي هوية هذه الدولة التي على أساسها تم ارتكاب هذه المجزرة الرهيبة و مجازر كثيرة اخرى بحق مجموعات سكانية تنتمي الى ثقافات كانت تختلف منهجيا و قيميا عن ثقافة النخب الحاكمة في العراق الحديث..
واحدة من ملاحظاتي في المحاضرة كانت أن تلك المجزرة او المجازر عموما لم تقدم الثقافة العراقية تفسيرا منطقيا لها… بل تم اختزالها حتى من قبل معارضي النظام على اساس نمط تسييسي تهربي و من خلال شيطنة النظام وخاصة رئيسه صدام حسين و أركانه بل و حزب البعث عموما بانهم مجرمون و لا يمثلون القيم الاجتماعية العراقية.. هكذا حتى دون تحديد ماهية تلك القيم العراقية و علاقتها بالتطور الاجتماعي السياسي…
هذا الأطروحة الاختزالية تمثل في الحقيقة مسارا ثقافيا اعتدنا أن نسمعه و نقرؤه في أعمال اغلب المثقفين العراقيين الذين اكتفوا بأفكار سطحية عن القيم التاريخية و خاصة دور العلاقة بين ثلاث محطات رئيسية في التاريخ و هي الحضارات القديمة و الفتح الإسلامي و ارث الصراع بين الدولة العثمانية و الدولة الصفوية في تحديد الهوية السياسية و الاجتماعية و الجغرافية للعراق الحديث…
اشكالية عدم الترابط بين هذه المحطات الرئيسية و القيم و العناصر الكثيرة التي تحتويها كل محطة من هذه المحطات تجعل من الهوية العراقية شيئا تتحكم فيه عمليات الانتقاء المصلحي و الآني دون وجود أواصر جذرية و ضوابط استراتيجية … و بذلك فإننا أمام تساؤلات لا نجد لها تبريرا قانونيا او منطقيا… مثلا.. إذا كانت الحضارات القديمة تعني أي شيء للدولة الحديثة فلماذا جيء برجل من خارج هذه الحضارات ليكون ملكا لهذه الدولة الجديدة أي العراق..؟؟.. لماذا لم يتم اختيار شخص ينتمي الى الحضارات القديمة مثلا أن يكون صابئي مندائي او آشوري او كلداني او أزيدي او غيرهم..؟؟.. أما إذا كان ارث الدولة العثمانية هي المحدد الأول كما ينص قانون الجنسية العراقي فالسؤال هو هل يتم منح الجنسية العراقية لأبناء كل المناطق التي امتدت إليها الجغرافية العثمانية في أوروبا و أفريقيا بالإضافة الى آسيا..؟؟..
طبعا هذا لم يتم و لذلك يبدو أن هناك انتقائية في اختيار ارث الصراع العثماني الصفوي لكي يمثل الحدود الشرقية للعراق و لكن هنا أيضاً نجد مجموعة ملاحظات لابد ان نستوقف عندها…. اهمها أولا… أن تلك الحدود لم تكن يوما ثابتة حالها حال الحدود بين الامبراطوريات القديمة التي تتحرك وفق أهواء الحكام و القوة الفائضة لديهم… ثانيا.. أن الدولة الصفوية التي كانت امتدادا للحضارة الإيرانية ( كانت تسمى فارسية) كانت تشمل اغلب الأراضي التي تشكل منها العراق لاحقا من الشمال و حتى الجنوب ( اعتبارا من غرب الموصل في المال و حتى الحدود السعودية) أي ما كان خارج إطار الدولة الصفوية هي أراضى محافظة الرمادي في غرب العراق الآن)… ثالثا… أن الكورد الذين لعبوا دورا رئيسيا في قيادة الدولة الإسلامية في عهد صلاح الدين لعبوا أيضاً دورا في الدولة العثمانية كما أنهم كانوا عبر التاريخ جزء مهما و محركا لتلك الحضارة الفارسية قبل و بعد الإسلام .. بل أن الذي لا يعرفه الكثيرون هو أن حاكم منطقة إيلام و هي منطقة متاخمة للحدود العراقية كان يرى نفسه أولى أن يكون ملكا على ايران الحديثة عندما اختار البريطانيون شخصا عسكريا كي يكون ملكا عليها و هو رضا شاه.. و أن سلطة ذلك الحاكم الايلامي التقليدي كانت تمتد الى أراضي استقطعت لاحقا و تم إلحاقها بالعراق الحديث … إيلام هي ارض واحدة من اهم حضارات وادي الرافدين القديمة و شعبها هم الكورد الفيليون التي ارتكبت الحكومات العراقية المتعاقبة المجازر بحقهم ليس لشيء سوى لانه تم اعتبارهم غير عراقيين..!!..
و التساؤل المنطقي هنا… إذا كانت الهوية الإيرانية و بأثر رجعي تشمل كل المناطق التي امتدت الحضارة الفارسية اليها فلابد إذن أن يعتبر كل الشعوب التي تسكن جغرافية شاسعة تمتد من حدود الصين الى اليونان … أي بضمنها مناطق شمال الهند و باكستان و أفغانستان و طاجيكستان و أذربيجان و أرمينيا و جورجيا و تركيا و سوريا و مصر بالإضافة الى العراق و ايران و اليونان… كلها إيرانية الأصل و يجب اعتبارها إيرانية أي لا يمكن منح مواطنيها أية جنسية أخرى..؟؟..
لكن يبدو أن الحالة الانتقائية شكلت مركزية في مفهوم الهوية العراقية مبنية على فرضية تستند الى الفتح الإسلامي …. و هي المحطة الثانية كما ذكرنا… و لكن دون تحديد جغرافي او تاريخي… الفرضية و أن كانت تعترف بان الكورد كانوا مستوطنين في مناطق وسط و شمال مناطق العراق الحالي بالاف السنوات قبل الفتح الإسلامي الذي سجل الدخول للعرب الى تلك المناطق نتيجة أعمال عسكرية…. إلا انها اي الفرضية تنطلق من اعتقاد بان تلك المناطق أصبحت عربية بتأثير رجعي بسبب الشرعية الدينية في الفتح الاسلامي و على هذا الاساس اصبح الكورد دخلاء في ارض عربية رغم انهم كانوا متواجدين كما ذكرنا قبل أن يصل العرب الى تلك الأراضي بآلاف السنوات..!!..
ما يبنى على هذه الفرضية في ارض الواقع هو أن الأساس في دولة العراق الحديثة ليس مفهوم المواطنة و إنما مفهوم دولة المنتصرين التي تتناقض عموديا و أفقيا مع الواقع العراقي… تاريخيا… حضاريا… و ايضا ضمن اطار القيم الأخلاقية الإسلامية التي انتشرت مع قدوم العرب بالإضافة الى القيم الأخلاقية للمجموعات السكانية السابقة للإسلام او التي لم تدخل الإسلام…
اشكالية دولة المنتصرين تحوي عناصر كثيرة تتعارض مع الواقع الاجتماعي و من اهم تلك العناصر هو ثقافة الغنيمة التي تؤطر و تحدد كل أنواع العلاقات داخل المجتمع …. و مشكلة المثقفين العراقيين في هذا الاطار هي أنهم لم يقدموا مشروعا حضاريا بديلا لثقافة الغنيمة… لقد انشغل المثقفون أما بتمجيد لحظات الانتصارات العسكرية لتجربة الفتح الإسلامي … و هؤلاء كانوا قوميين عرب او إسلاميين تقليديين او مجددين او باحثين عن الأمل في خضم الانكسارات الكبرى أمام إسرائيل و القوى المتأمرة كما يسمونها….أخرون انشغلوا بتكبير صور المظلومية و جعلوا منها إلهاما لانتصار تاريخي سيأتي … و على نفس المنوال لكن على أسس مختلفة انشغل الماركسيون بانتصار فكرة نظرية التفسير المادي للتاريخ و بانتصار على الإمبريالية و الرأسمالية في لحظة تاريخية لا يعترف بها سوى تلك النظرية ذاتها… أما الواقع فلم يلتفت اليه إلا اؤلئك الذين حولوا التاريخ الى أغاني و مسرحيات و روايات جميلة لكنها غير قادرة على التغيير…
و هكذا تركت الساحة للفكر العسكريتاري ان يهيمن على التطور السياسي … و هكذا اصبحت المجازر تمر الواحدة تلو الأخرى و العراقيون أما يصفقون و يهتفون بحياة المنتصر و لو كان ظالما او أنهم يتراجعون و يلعنون في دواخلهم الظالم او المجرم … و نسق متوالي تجد ثقافة الغنيمة آليات جديدة و يستمر جهل الناس بحقيقة ما يجري و يزداد الإحباط و يزداد الرعب و فقدان الثقة بين المجموعات البشرية و هذا يفسر ما يجري الآن أيضاً تحت عناوين الطائفية و الفساد و الحرب ضد الإرهاب.. ما يمنع الفرقاء العراقيين الان على الاتفاق على مشروع وطني هو ليس مصالحهم الفئوية او الشخصية الضيقة فحسب و إنما في الأساس هو سعي كل فريق للانتصار على الآخرين … كما أن الاقتصاد يدار بشكل مباشر على أساس ثقافة الغنيمة … أي الاستيلاء على كل ما يمكن ان تصل اليه ايديهم لأنهم يعتبرون الموارد مجرد أموال قد تم استحصالها نتيجة الصراع مع المجموعات الأخرى و ليس أموال دولة و مجتمع يجب أن يتحمل الجميع المسؤولية تجاههما…
لابد ان نستدرك ايضا انه للأسف ليست هناك دولة في العراق بل هناك حكومة تقوم بما تشاء دون رقابة لان مؤسسات الدولة لم تتطور أبدا لكي تكون في تماس مباشر مع المواطن توفر له الخدمة و الأمان و الطمأنينة … هذا هو مبدأ الدولة الحديثة التي انبثقت في أوروبا ثم تم نشرها في العالم كله… و هذه الدولة الحديثة هي دولة المواطن و ليست دولة مجموعات بشرية معينة دون غيرها من أبناء الشعب… و على الأساس فهي ليست دولة منتصرين و لا دولة مهزومين… هي دولة لكل المواطنين… و هذا ما كان يجب أن يحصل عندما اعلن عن قيام الدولة العراقية..
كانت الدولة العراقية الحديثة يجب أن تقوم على أساس منح الجنسية لكل شخص راغب كان يتواجد في تلك اللحظة التاريخية ضمن الحدود الجغرافية للدولة الوليدة… و بشكل مواز كان يجب العمل على إنتاج مشروع حضاري يستوعب الجميع… لكن هذا لم يحصل للأسف…
ما حصل كان اتخاذ شروط تاريخية و بشكل تجزيئي و انتقائي و هو الامر لم يساهم إلا في عدم اندماج أبناء الشعب و بالتالي تواجد الناس بشكل منظومات اجتماعية شبه مغلقة تتعايش معا تحت ضغط تسلط الحكم و احتياج الناس الى بعض الخدمات.. و لذلك و بمجرد أن جاء الاحتلال الأمريكي و فكك من آليات تسلط الحكم المباشر حتى انفضت الشراكة الإجبارية و تحول ما سمي بالمجتمع العراقي الى مجتمعات… او كما تسمى طوائف او أي شيء آخر… تحارب بعضها البعض و تسعى فيها كل فرقة الى الانتصار التاريخي… الذي لن يأتي أبدا بينما يستمر مسلسل المجازر اليومي …
اما المثقفون فظلوا بوعي او بغير وعي … في غيهم يعمهون… كما يقول القران… و الثقافة العراقية التي كان يمكن أن توحد العراقيين على أساس هوية مشتركة فهي ما تزال غابة و ربما لن تظهر أبدا..
أخيرا لا بد أن نذكر أن مشكلة الهوية تضمن عوامل كثيرة أخرى و الأطراف التي تعرضت للمجاور هم كثر منهم العرب و غير العرب و منهم المسلمون و غير المسلمين…. و في هذه الفوضى الأخلاقية و التنظيمية يسعى البعض للحفاظ على رفات التاريخ بشكل منتجات ثقافية … او هكذا تسمى…سعيا للحفاظ على الوجود …أمنياتي الخيرة للجميع… سنواصل