*ثقافة الدولة المتفوقة اقتصاديا وعسكريا تتصرف كثقافة متفوقة ومستعلية وقادرة على السيطرة وهذا في صميم فشل التطبيع بين الثقافة العربية والثقافة الاسرائيلية*
نبيل عودة
طرح ويطرح بتواصل، موضوع الحضارات والثقافات وقضايا التطبيع الثقافي بين الشعوب، وفي شرقنا الأوسط تحديدا التطبيع الثقافي بين العرب واليهود، بين الثقافة العربية والثقافة الاسرائيلية .
هذه النقاشات وصلت أحيانا لمستوى من الحدة تجاوزت حدود الحوار الى مستوى القاء الاتهامات بين المتحاورين، ولا ارى في ذلك أمرا غريبا، فالنقاش يتجاوز المفهوم الفكري المجرد الى قضايا أكثر عمقا وخطورة بالنسبة للمجتمعات العربية وآفاقها المستقبلية.
ضمن الرؤى السائدة، كانت رؤية ان اللقاء بين الحضارات او الثقافات هو لقاء ممكن، بينما اللقاء بين المصالح السياسية هو الصعب والمعقد. حدثت لقاءات سياسية واتفاقات سياسية، لبعضها كان أثرا سلبيا على الموقف السياسي العربي ـ مثل اللقاء والاتفاق الاسرائيلي المصري، الذي أخرج مصر من المواجهة وحولها الى وسيط، أحيانا لا قيمة ولا وزن لوساطتها ولمواقفها السياسية ولدورها العربي من النزاع مع اسرائيل… عمليا لم يعد لمصر دورا عربيا في أخطر قضية عربية. قد يكون تحييد مصر سبب مباشر وحاسم في اعاقة بناء استراتيجيات العالم العربي الاقتصادية والعلمية والثقافية والسياسية، حول قضايا عربية بالغة الأهمية والتأثير على تطور العالم العربي .. وقد تكون مأساة العراق وسوريا واليمن وليبيا وواقع لبنان وما يحيط به من مخاطر ، واستمرار المأساة الفلسطينية، وتحول الاسلام الجهادي الى عامل مدمر عربيا ودوليا، هو نتيجة غياب فعل سياسي عربي مؤثر وقادر على التعامل مع التحديات وخاصة اللحاق بحركة الحضارة والتنوير وبناء المجتمع العربي المتطور الديمقراطي.
اللقاءات والاتفاقات السياسية لم تنجح في التأثير كما يظهر حتى اليوم …على أخطر قوة عربية في المواجهة – الثقافة العربية .
الثقافة وقفت بمعارضة كل الاتفاقات، مثقفو الأنظمة لم يفلحوا في تحقيق تحول ثقافي الى جانب سياسة التطبيع السياسية للنظام المصري، وفيما بعد الاردني وأنظمة أخرى مارست التطبيع السياسي بالخفاء او بالعراء.
البعض رأى ان خوف العالم العربي/ الشعوب العربية، والأصح القول ممثلي الثقافة العربية … من التطبيع الثقافي مع اسرائيل، هو خوف مبالغ فيه، لا قاعدة منطقية له، وأن الثقافة العربية تملك أدوات متينة، تشكل قاعدة مثالية للتفاهم وحل الاشكالات الباقية والصعبة، خاصة وأن الثقافة العربية ذات جذور عميقة في الأرض ووراءها تاريخ عظيم وواسع وممتد من الانجازات التي لا يمكن هزيمتها بالمواجهة مع ثقافات اخرى، بالأساس مع الثقافة الاسرائيلية التي لا تزال ناشئة وبلا جذور عميقة .
استنتج البعض ان التطبيع الثقافي يجب ان يخيف الاسرائيليين الذين يضغطون ويتحمسون للتطبيع، ويرون فيه قاعدة من القواعد الأساسية والأكثر أهمية للتطبيع الشامل في الشرق الاوسط، لجعل التطبيع السياسي حقيقة قابلة للتعايش في الشرق العربي، تتسابق اليها سائر الدول العربية، والأهم ان قبول اسرائيل ثقافيا سيعزز حقيقتها الشرق اوسطية.
هذا الموضوع اثار اهتمام أوساط واسعة من الأدباء وأصحاب الفكر والرأي … لكن الكثيرين مع الأسف تحدثوا من منطلق سياسي عام أو عاطفي أو ديني. ما زال الموضوع يحتل حيزا من الكتابات والحوار في العالم العربي … ومراجعة لما نشر منذ التطبيع السياسي بين مصر واسرائيل يشير الى ان اكثرية المواقف انطلقت من قناعات سياسية ودينية وعاطفية، تفتقد للرؤية المتكاملة الموضوعية، أو لأي منطق فكري يمكن اعتماده كقاعدة للتعامل مع طروحات التطبيع التي تروجها بعض الاوساط السياسية والثقافية المرتبطة بأنظمة عربية متحمسة للتطبيع .
رؤيتي ان الموقف من التطبيع في اطار الاتفاقات المذلة، والظروف السائدة في الشرق الاوسط، لا يترك مجالا آخر غير الرفض، خوفا من ان تتحول ثقافة الأقوى اقتصاديا وعسكريا وعلميا الى الثقافة السائدة والمسيطرة والمقررة .
هذه وجهة نظر .. يمكن تطويرها أو الاضافة اليها، او رفضها ومعارضتها . الموضوع بالغ الأهمية والتركيب، مليء بالتداخلات المتناقضة والمتماثلة، كما برز حتى اليوم في كتابات الرافضين للتطبيع. ما استغربه هو غياب اصحاب الشأن من سائر ذوي الاختصاصات الأكاديمية والفكرية من الخوض في هذا النقاش، من منطلقات رؤية علمية للمخاطر أو الايجابيات، اذا وجدت ايجابيات …
يجب التأكيد على موضوع هام، وهو ان الثقافة ليست وقفا على الابداع الروحي فقط .. الثقافة تشمل الى جانب الابداع الروحي (من أدب وفنون) الابداع المادي للمجتمع أيضا، قد يكون خطر التطبيع اعظم شأنا على الجانب المادي في الثقافة – أي الانتاج الاقتصادي والتطور العلمي والاجتماعي للمجتمعات العربية … بتحويل العالم العربي الى سوق للإنتاج الإسرائيلي المادي، واضيف اني أرى ملامح سلبية في الاقتصاد والتطور الاجتماعي والعلمي في العالم العربي كلة وفي مصر على وجه الخصوص، طبعا لن نتحدث عن دول عربية تواجه التدمير الكامل لاقتصادها ومجتمعاتها وكانت تعتبر حتى وقت قريب دولا قادرة على المواجهة. السؤال الذي لا يطرح نفسه ما علاقة التطبيع السياسي بين مصر واسرائيل بما يدور من تدمير لدول عربية مركزية مثل العراق وسوريا؟ خاصة وانه أرجع الدول العربية المذكورة قرنا على الأقل الى الوراء وقد تتفكك هذه الدول الى دويلات او امارات متصارعة. التفكيك الكياني للعالم العربي قد يصل الى مصر وغيرها أيضا، اذا استمر الواقع الاجتماعي والاقتصادي والاداري الفاسد والهزيل للعالم العربي. بذلك يكون المشروع الصهيوني قد انجز دوره ليس في فلسطين فحسب وانما في الشرق العربي كله. المعنى ان العرب سيبقون خارج التاريخ لقرن او قرون عديدة اخرى، خاصة بسيادة الثقافة والحضارة الإسرائيلية – الروحية والمادية.
ما تكشفه التطورات المأساوية في الشرق العربي ان وعد بلفور لم يكن فقط لإقامة وطن قومي لليهود.. انما ابقاء العالم العربي خارج التاريخ.. كيانات تفتقد لهوية وطنية، تفتقد لنهج اقتصادي تطويري، تفتقد لأنظمة حكم ديموقراطية على قاعدة الفصل بين السلطات!!
ان موضوع الحضارة بحد ذاته هو مادة واسعة للغاية، هناك تضارب في مفاهيمنا الحديثة عن الحضارة، لكني اطرح وجهة نظري بتعميم وانا على قناعة ان الحضارة في جذورها هي “المدنية” وتشمل كما اوضحت وأكرر مجموعة الانجازات المادية والروحية، هناك دمج دائم بين مفهوم الحضارة والثقافة ومع ذلك نجد أن المعنى السائد في المجتمعات الدمقراطية الغربية عن الحضارة، هو كونها انجازات المجتمع المادية من علوم وتكنولوجيا ورقي اقتصادي واجتماعي، ويستعملون اصطلاح الثقافة للدلالة على القيم الروحية فقط – أي الابداع الادبي والفني والأخلاق .. لذلك من المهم ان نفهم ان صيغة صراع الحضارات تعني في المفاهيم الغربية الصراع بين التقدم الاجتماعي، العلمي، الاقتصادي والتكنولوجي العاصف ، وبين مجتمعات متخلفة بمراحل تاريخية مخيفة عن ركب التطور، وتعيش على هامش نظام العولمة – على هامش الحضارة، وبدل المساهمة الحضارية، تنشأ ثقافة روحية تبريرية متمسكة بالماضوية كطريق آخر في مواجهة المجتمعات الغربية المتطورة – أي ثقافة العجز، واليوم تطورت تلك الثقافة الى حركات ارهابية تحث صيغة الدين، ثقافة تقود الى العدائية والخوف من الرقي الحضاري. لا ابالغ بالقول ان ظاهرة العنف الدموي المقلقة والمؤلمة التي نشهدها في العالم العربي اساسا وطالت مختلف ارجاء العالم هي نتاج اغلاق الطريق امام المجتمعات العربية لتكون جزءا مشاركا في ثمار النهضة الحضارية.
البروفسور ادوارد سعيد، في كتابه الرائع “الثقافة والامبريالية” ربط بين التطور المادي والتكنولوجي للنظام الرأسمالي – الامبريالي وبين تطور الثقافة، رؤيته الهامة كانت ان الثقافة كلها هجينة وبمقدار هجينتها يكون ثراؤها. أي من الصعب الحديث عن ثقافة مجردة مستقلة نشأت خارج الحضارات. اذا كان هذا صحيحا تجاه الثقافة، فهو أكثر صحة تجاه الحضارة التي هي نتاج أولئك الذين اوجدوا الثقافة لتشكل مرآتهم الحضارية، لذا ليس بالصدفة، كما يستنتج … ان تطور الرواية (الثقافة الروحية) الانجليزية والفرنسية بهذا الشكل الواسع ارتبط مع نشؤ الامبراطوريتين الاستعماريتين القديمتين، انكلترا وفرنسا، بينما في امريكا بدأ التطور الروائي (الثقافي) مع بداية تطور الامبريالية الامريكية في القرن العشرين (ونفس الملامح يمكن ان نشاهدها في تطور الثقافة السوفياتية بعد ثورة اكتوبر) .. هذا يعني امرا هاما، بأن للثقافة دورها الاعلامي الشامل الداعم لدولها .. نفس الدور تلعبه ايضا الثقافة الاسرائيلية.. في جذر هذا الدور اظهار بدائية الاعداء وتخلفهم واظهار انسانية الاحتلال – الاستعمار والحضارة التي يبشرون بها الشعوب المستعمرة والمتخلفة … بالطبع ليس بلا ثمن، والنموذج الاسرائيلي قد يكون اقرب وابرز في اظهار “إنسانيته”!! وليس مستهجنا ان الخطاب السياسي الاسرائيلي له تغطية “حضارية” في الغرب .. والبكاء العربي على التاريخ والأطلال ليس غير مفهوم وممل، انما هو الحصة الني خصصت لهذا الجزء من العالم!!
رفض العرب للتطبيع الثقافي مع اسرائيل يجب ان يكون في جذوره تشخيص صحيح لحالة الضعف والوهن السياسي والاقتصادي والمدني/الحضاري والثقافي الذي يميز الحالة العربية غير القابلة للتغيير في ظل انظمة قبلية وطائفية تتحمل مسؤولية دفع العالم العربي الى حالة الدمار الدموي الراهن.
الظن ان الحضارة العربية، “الضاربة جذورها” بالأرض والتاريخ هي قوة للثقافة العربية هو وهم قاتل، ليس فقط لحالة الغربة بين الانسان العربي وثقافته، انما لاستفحال الجهل والبؤس الاقتصادي والعلمي والتكنلوجي والتخلف في التعليم. ان الفجوة الثقافية بين اسرائيل الصغيرة والعالم العربي آخذة بالاتساع .. يكفي ان اعطي نموذج صغير .. بعض الكتب في اسرائيل يباع منها اكثر من مائة وخمسين الف نسخة. هل يستطيع احد ان يشير الى كتاب عربي يوزع اكثر من عشر هذا الرقم، مع العلم ان الحديث يدور حول مقارنة بين عدد من السكان بحدود 8 اسرائيلي مقابل 400 مليون عربي؟! واكرر ما سجلته سابقا في احد مقالاتي، ميزانية ابحاث معهد واحد في اسرائيل (معهد وايزمان) تصل الى ملياري دولار سنويا .. ولا اتحدث عن التخنيون والجامعات الأخرى .. بينما كل الجامعات العربية لا تتعدى ميزانياتها، من المحيط الى الخليج .. ثمانمائة مليون دولار. قبل سنوات قليلة قرأت في الأهرام المصرية خبرا مزعجا .. بأن ميزانية فريق للبحث العلمي في جامعة القاهرة يصل الى 365 جنية مصري في العام الواحد، اي جنيه واحد كل يوم …فهل سنلحق بالركب الحضاري لإسرائيل حتى يستطيع العالم العربي ان يطبع ثقافته معها؟ أو بمفهوم آخر .. حتى يستطيع مواجهة الاستعمار الثقافي الاسرائيلي .. ليس بالأدب فقط ، انما بإنتاج الخيرات المادية والنهضة العلمية والفكرية، وبناء مجتمع الرفاه، كي يستطيع ايجاد تغطية حضارية لخطابه السياسي في المحافل الدولية ؟!
قديما رأى العلامة العربي ابن خلدون ما هو صحيح حتى اليوم ، قال: “لغة الأمة الغالبة – غالبة ولغة الأمة المغلوبة – مغلوبة”. أكثر من ذلك: اللغة العبرية اليوم أكثر طواعية من اللغة العربية ومليئة بالاصطلاحات المعاصرة التي اصبحت شائعة الاستعمال في العبرية، بينما في لغتنا العربية نستصعب ايجاد البديل العربي للاصطلاح الأجنبي، كما جاء في دراسة للبروفسور سليمان جبران رئيس قسم اللغة العربية في جامعة تل – ابيب عن التجديد والتقييد في اللغة العربية، وان الترجمة من الانكليزية الى العبرية اسهل بكثير من الترجمة من الانكليزية الى العربية، الى جانب ان تطور اللغة العبرية في المائة سنة الاخيرة تجاوز تطور اللغة العربية. وقد استعرضت هذه الدراسة الهامة في مقال آخر.. بعنوان “التجديد والتقييد في اللغة العربية المعاصرة”. لكنتي اضيف اني كمواطن في اسرائيل ومدير انتاج سابق في الصناعات المعدنية، اجد سهولة اكبر في استعمال اللغة العبرية في كل ما يتعلق بالعلوم والتقنية واصطلاحات العمل. حتى العمال البسطاء يجدون سهولة في فهم اصطلاحات العمل العبري، ولو حاولت تعريبها، وقد حاولت فعلا ذلك، لما فهموا ما اريد منهم.
اريد ان اذكر امرا هاما ومعبرا .. حاولت قراءة كتاب “الاستشراق ” لادوارد سعيد بالعربية، ترجمه البروفسور كمال ابو ديب .. عجزت عن فهم لغة المترجم، لحسن حظي وجدت ترجمة عبرية رائعة للكتاب واضحة ودقيقة. نفس المشكلة واجهتني مع “الثقافة والامبريالية” لنفس المترجم .. لغة المترجم العربية تحتاج الى ترجمة للعربية!! فهل يتوقع أحد ان يجد قراء عرب لهذه اللغة غير الميسرة ؟! هل يتوقع احد ان يؤثر الفكر المتنور لادوارد سعيد على المجتمعات العربية بلغة من الصعب ان يفهمها حتى المثقفين العرب ؟؟
اعرف ان عددا كبيرا من المثقفين العرب في اسرائيل قرأوا ادوارد سعيد اما باللغة الانكليزية او العبرية، واعرف عددا منهم فشلوا في قراءة الاستشراق بترجمته العربية، ويهمني ان اعرف ردود فعل قراء الكتاب بالعربية .
كيف نطبع مع من سبقونا في تطوير لغتهم ايضا ؟
ما أخافه ان يفرض التطبيع نفسه قبل نجاح العرب في خلق توازن مدني/ حضاري . ولن استهجن، في هذا الواقع المتردي والعاجز ان تواجه الحضارة العربية ما هو اسوأ من كارثة فلسطين كيانا، ثقافيا وحضاريا .
nabiloudeh@gmail.com
“الربيع الإسلامي” يواصل التطبيع / نبيل عودة
هل اللقاء بين الحضارات او الثقافات هو لقاء ممكن، بينما اللقاء بين المصالح السياسية هو الصعب والمعقد ؟!
حدثت لقاءات سياسية واتفاقات سياسية ، لبعضها كان أثرا سلبيا على الموقف السياسي العربي ـ مثل اللقاء والإتفاق الاسرائيلي المصري ، الذي أخرج مصر من المواجهة وحولها الى وسيط ، أحيانا لا قيمة ولا وزن لوساطتها ولمواقفها السياسية … بل أكثر من ذلك ،لم يعد لمصر دورا عربيا في أخطر قضية عربية ، وحتى بعد الربيع العربي ووصول الإسلاميين( أكثر فئة بدت معادية للتطبيع والاتفاقات مع اسرائيل) الى السلطة في مصر (وفي تونس وليبيا أيضا) ، مما حول الربيع العربي الى ربيع اسلامي في مضامينه وجوهره ، ظلت مصر على نهج السادات – مبارك في تعاملها مع العنجهبة العدوانية لإسرائيل، هذا دليل على ان ما يقلق الإسلاميين هو السيطرة على السلطة وليس التغيير، وليس فلسطين او الكرامة القومية او مستقبل الشعوب العربية، وهو ما نشهده اليوم من عملية دمج بين الإستبداد السياسي للنظام السابق والإستبداد الديني للنظام الحالي، اي ربيع تحول الى دمج بين الماضي والراهن . الأسلاميون ارادوا ربيعا عربيا باتجاه واحد يوصلهم للسلطة، بعدها سيفرضون نظاما أكثر استبدادا وحرمانا لحرية التعبير، نظاما فرعونيا، وهذا نشاهده اليوم باغلاق محطات تلفزيونية والتضييق على الصحافة المطبوعة، ومحاولات فرض نهجهم على القضاء، والعمل لإقرار دستور بفكر ماضوي لم يعد يتلاءم مع واقع مصر او واقع المجتمعات المدنية المعاصرة.. والحفاظ على التطبيع مع اسرائيل، اليس الأمر مستهجنا ومليئ بالمفارقات الغريبة؟؟ ووصل الأمر من احد قادة اخوان مصر ان يهدد الشعب المصري بسفك الدماء (الجهاد) دفاعا عن الرئيس مرسي. لو كان نظاما يحترم نفسه، لوضع ذلك الدموي البغيض وراء الأسلاك الشائكة ، لعزله عن البشر ولكن يبدو ان النظام راض عن هذه المواقف الدموية.
قد يكون تحييد مصر سبب مباشر وحاسم في اعاقة بناء استراتيجيات العالم العربي الاقتصادية والعلمية والثقافية والسياسية حول قضايا عربية بالغة الأهمية والتأثير على تطور العالم العربي، ان مأساة العراق وواقع لبنان وما يحيط به من مخاطر واستمرار المأساة الفلسطينية وظهور الاسلام الجهادي ، هو نتيجة غياب فعل سياسي عربي مؤثر وقادر على التعامل مع الواقع الدولي والعربي .
اللقاءات والاتفاقات السياسية لم تنجح في التأثير ، كما يظهر حتى اليوم …على أخطر قوة عربية في المواجهة – الثقافة العربية، من حق ممثلي الثقافة العربية رفض التطبيع في ظل استمرار النهج العدواني المتنكر لحقوق شعب عربي ( فلسطيني) واستمرار قمعه وحصاره وقتل ابنائه عشوائيا، الى جانب العربدة الحربية ضد لبنان ودول اخرى في الشرق الوسط.
الثقافة وقفت بمعارضة كل الاتفاقات ، مثقفو النظام لم يفلحوا في تحقيق تحول ثقافي الى جانب سياسة التطبيع السياسية للنظام المصري التي يواصها الرئيس محمد مرسي.
البعض رأى ان خوف العالم العربي / الشعوب العربية والأصح القول ممثلي الثقافة العربية … من التطبيع الثقافي مع اسرائيل ، هو خوف مبالغ فيه ، لا قاعدة منطقية له وأن الثقافة العربية تملك أليات متينة ، خاصة وأن الثقافة العربية ذات جذور عميقة في الأرض ووراءها تاريخ عظيم وواسع وممتد من الانجازات التي لا يمكن هزيمتها بالمواجهة مع ثقافات اخرى ، بالأساس مع الثقافة الاسرائيلية التي لا تزال ناشئة وبلا جذور عميقة .
استنتج البعض ان التطبيع الثقافي يجب ان يخيف الاسرائيليين الذين يضغطون ويتحمسون للتطبيع ويرون فيه قاعدة من القواعد الأساسية وألأكثر أهمية للتطبيع الشامل في الشرق الاوسط ، لجعل التطبيع السياسي حقيقة قابلة للتعايش في الشرق العربي ، تتسابق اليها سائر الدول العربية ، وألأهم ان قبول اسرائيل ثقافيا سيعزز حقيقتها الشرق اوسطية، بنفس سياساتها القائمة التي جعلت أكبر وأقوى دولة عربية تتحول الى وسيط ذليل لإسرائيل، كل دورها لا يتعدى تصريحات لا يهتز لها جناح طائرة حربية تقصف منازل المدنيين وتوقع قتلى من النساء والأطفال والشيوخ في غزة او جنوب لبنان.
موضوع التطبيع اثار اهتمام أوساط واسعة من الأدباء وأصحاب الفكر والرأي ولكن الكثيرين مع الأسف تحدثوا من منطلق سياسي عام أو عاطفي أو ديني ، ما زال الموضوع يحتل حيزا من الكتابات والحوار في العالم العربي … ومراجعة لما ينشر تشير الى ان اكثرية المواقف انطلقت من قناعات سياسية ودينية وعاطفية ، تفتقد للرؤية المتكاملة الموضوعية ولأي منطق فكري يمكن اعتماده كقاعدة للتعامل مع طروحات التطبيع التي تروجها بعض الاوساط السياسية والثقافية المرتبطة بانظمة عربية متحمسة للتطبيع .
رؤيتي ان الموقف من التطبيع في اطار الاتفاقات المذلة ، والحياد المصري والظروف السائدة في الشرق الاوسط ، لا يترك مجالا آخر للمثقفين غير الرفض . . خوفا من ان تتحول ثقافة الأقوى اقتصاديا وعسكريا وعلميا الى الثقافة السائدة والمسيطرة والمقررة.
الموضوع بالغ الأهمية والتركيب ، مليء بالتداخلات المتناقضة والمتماثلة مما برز حتى اليوم في كتابات الرافضين للتطبيع . استغرب غياب اصحاب الشأن من سائر ذوي الاختصاصات الأكاديمية والفكرية من الخوض في هذا النقاش من منطلقات رؤية علمية للمخاطر أو الايجابيات ، اذا وجدت ايجابيات …
الثقافة ليست وقفا على الابداع الروحي فقط ..وهنا الخطر. الثقافة تشمل كل الابداع المادي للمجتمع، قد يكون خطر التطبيع اعظم شأنا على الجانب المادي في الثقافة – أي الانتاج الأقتصادي والتطور العلمي والاجتماعي للمجتمعات العربية … بتحويل العالم العربي الى سوق للانتاج الاسرائيلي المادي .
أرى ملامح سلبية في الاقتصاد والتطور الاجتماعي والعلمي في العالم العربي كلة وفي مصر على وجه الخصوص ، بدأت تفرض نفسها ، ربما نتيجة للتطبيع السياسي بين مصر واسرائيل، او بتأثير لا يجوز الاستخفاف به للتطبيع واضيف ان تأثير هذا التطور السلبي سيطول ، أو طال بنسب معينة ، الفكر والابداع الثقافي المادي والروحي.
ان موضوع الحضارة بحد ذاته هو مادة واسعة للغاية ، هناك تضارب في مفاهيمنا الحديثة عن الحضارة ، لكني اطرح وجهة نظري بتعميم وانا على قناعة ان الحضارة في جذورها هي “المدنية ” وتشمل كما اوضحت وأكرر مجموعة الانجازات المادية والروحية ، هناك دمج دائم بين مفهوم الحضارة والثقافة . مع ذلك نجد أن المعنى السائد في المجتمعات الدمقراطية الغربية عن الحضارة هو كونها انجازات المجتمع المادية والتكنلوجية ولا يشملون الثقافة بتعريفهم ويستعملون اصطلاح الثقافة للدلالة على القيم الروحية فقط – أي الابداع الادبي والفني والأخلاق والدين .. لذلك من المهم ان نفهم ان صيغة صراع الحضارات تعني في المفاهيم الغربية الصراع بين التقدم الاجتماعي ، العلمي ، الاقتصادي والتكنلوجي العاصف ، وبين مجتمعات متخلفة بمراحل تاريخية مخيفة عن ركب التطور وتعيش على هامش نظام العولمة – على هامش الحضارة ، وبدل المساهمة الحضارية ، تنشأ ثقافة روحية تبريرية متمسكة بالماضوية كطريق آخر في مواجهة المجتمعات الغربية المتطورة – هي ثقافة العجز ، تقود الى العدائية والخوف وكل الظواهر المقلقة التي نشهدها في العالم العربي اساسا ودول اخرى تسودها نفس الثقافة ، تنعكس عالميا في صور بشعة من الدموية المنفلتة .
البروفسور ادوارد سعيد ، في كتابه الهام ” الثقافة والامبريالية “ربط بين التطور المادي والتكنلوجي للنظام الرأسمالي – الامبريالي وبين تطور الثقافة .. رؤيته الهامة كانت ان الثقافة كلها هجينة وبمقدار هجينتها يكون ثراؤها ، أي من الصعب الحديث عن ثقافة مجردة مستقلة نشأت خارج الحضارات .اذا كان هذا صحيحا تجاه الثقافة ، فهو أكثر صحة تجاه الحضارة .. التي هي نتاج اؤلئك الذين اوجدوا الثقافة لتشكل مرآتهم الحضارية، لذا ليس بالصدفة ، كما يستنتج … ان تطور الرواية ( الثقافة ) الانجليزية والفرنسية بهذا الشكل الواسع ارتبط مع نشؤ الامبراطوريتين القديمتين انكلترا وفرنسا ، بينما في امريكا بدأ التطور الروائي ( الثقافي ) مع بداية تطور الامبريالية الامريكية في القرن العشرين (نفس الملامح يمكن ان نشاهدها في تطور الثقافة السوفياتية بعد ثورة اكتوبر ) .. هذا يعني امرا هاما ، بأن للثقافة دورها الاعلامي الشامل الداعم لدولها .. نفس الدور تلعبه ايضا الثقافة الصهيونية ( الإسرائيلية) .. في جذر هذا الدور اظهار بدائية الاعداء وتخلفهم واظهار انسانية الاحتلال – الاستعمار والحضارة التي يبشرون بها “الشعوب المستعمرة والمتخلفة” .
النموذج الاسرائيلي قد يكون اقرب وابرز في اظهار ” انسانيتة ” !! ليس مستهجنا ان الخطاب السياسي الاسرائيلي له تغطية “حضارية ” في الغرب والبكاء العربي على التاريخ والأطلال غير مفهوم وممل ، وكلمتهم لا قيمة لها امام كلمة اسرائيل، يجب البحث عن السبب في الجانب العلمي والتكنولوجي!!
رفض المثقفين العرب للتطبيع الثقافي مع اسرائيل يجب ان يكون في جذوره تشخيص صحيح لحالة الضعف والوهن السياسي والاقتصادي والمدني / الحضاري والثقافي الذي يميز الحالة العربية غير القابلة للتغيير في ظل انظمة قبلية وطائفية.
الظن ان الحضارة العربية ، الضاربة جذورها بالارض والتاريخ هي قوة للثقافة العربية هو مجرد وهم ، ليس فقط لحالة الغربة بين الانسان العربي وثقافته ، انما لاستفحال الجهل والبؤس الاقتصادي والعلمي والتكنلوجي والتخلف في التعليم . ان الفجوة الثقافية بين اسرائيل الصغيرة والعالم العربي آخذة بالاتساع .. حسنا ، هناك دعم أمريكي، لكن اين تذهب الأموال العربية الفائضة ؟ هل يعجز العالم العربي ان يستثمر عشرة مليارات كل سنة في البحث العلمي ؟ هذا الأستثمار سيعود بربح مضاعف على المستوى المادي والمستوى الحضاري ، الإجتماعي والإقتصادي.
قديما رأى العلامة العربي ابن خلدون ما هو صحيح حتى اليوم ، قال : ” لغة الأمة الغالبة – غالبة ، ولغة الأمة المغلوبة – مغلوبة ” .
ما أخافه ان يفرض التطبيع نفسه قبل نجاح العرب في خلق توازن مدني / حضاري . ولن استهجن ، في هذا الواقع المتردي والعاجز ان تواجه الحضارة العربية ما هو اسوأ من كارثة فلسطين ثقافيا وحضاريا .
توسمنا بالربيع العربي خيرا، ولم نتوقع سيطرة قوى تعيش في الماضي وتعهمل لحمايته دستوريا وتبين من خطواتها الأولى، ان ما يشغلها تحويل السلطة الى احتكار،او جمهورية ملكية ورائية ثيوقراطية، والحفاظ على دور الوسيط الذليل لإسرائيل، دون ان نسمع الا لغوا لا تغطية له،لا يفسر على وجهين، اسرائيل هي ضمانة هامة لتعزيز السيطرة الماضوية على الحاضر العربي.
رغم الصورة شديدة السواد، الا ان انتفاضة اهل مصر ضد فرعون الجديد، تثلج الصدر حقا.
المستقبل الحقيقي لمصر ما زال في ميدان التحرير.
nabiloudeh@gmail.com