يطل على الجمهور العراقي، بين حين وآخر، صاحب عمامة، بيضاء وسوداء، من أهل الأحزاب والجماعات المسلحة، فكل معمم غدت لحزبه وزارة إعلام، يدلي عبرها بالتكفير والقتل بلا حسيب ولا رقيب، فمازال أنه حام للدين ناصر للمذهب، فمن يعرضه يُنعت بالملحد والخائن والعميل. هكذا تجري التهم مقدسةً مأثورةً، على ألسنة أصحاب العمائم، ولهم جمهورهم من الحاشية والمُستغَفلين.
أحدهم: حذر من خطر الملحدين، ومن المخدرات، وهو يعلم أن المخدرات تدخل من المنفذ الذي دخله حزبه مدججاً بالسلاح، بفضل الأميركيين. طالب مواجهتهم بالفكر والضرب بيد من حديد، وفقيه حزب آخر، صب خطبته ضد الإلحاد والملحدين، وقال: قتال هؤلاء أكثر واجباً من قتال الإرهابيين، ثم يستدرك: لا نقول لا يُقاتل هؤلاء، لكن حسب الأهمية فقتال الملحدين أولا. يصرخ إمام جمعة، وهو يتلفع الكفن، ضد الإلحاد والملحدين، بأن التواصل الاجتماعي وصل من إسفاف الملحدين والشاذين، حسب مفردته، ما لا يُطاق. قال قارئ منبر صراحة، قبل أعوام، أمام بحر مِن مسلوبي العقل، بقتل مَن سماهم شيوعيين.
نحن أمام أسراب بنغم واحد، وليست عمائم منفردة، وكل معمم يزيد في الطنبور نغمة. كنا نعرف في العقود الخوالي أن أصحاب العمائم روحانيون، إذا ميزنا بين الماديين والرُّوحانيين، أي السياسيين وفقهاء الدين، وذلك بزعم أن السياسة مادة دنيوية لا فكرة دينية، فلما طُلب من الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954)، وكان يُعد من أئمة الفقه الأحياء في مرجعية النجف، أن يتدخل في إضرام تمرد ضد الجيش العراقي، ويفتي بالتسلح والقتال، أجاب: «إنني بمركزي الروحاني ومقامي الدِّيني لا يجوز لي أن أتدخل في أي وزارة أو حزب، أو في أي شأن من شؤون السياسة، وإنما دخلنا من أجل الصالح العام، وتخفيف الحيف عن هذه الأمة البائسة، ولا نرى ذلك يتم إلا باتفاقكم وتفاهمكم أيها الفراتيون جميعاً.. إلى قوله: يجب عليكم الهدوء والسكون، ويُحرم عليكم المضاربة بينكم بل وبين غيركم، والسَّلام» (الحسني، تاريخ الوزارات).
ولما طُلب من الشيخ نفسه الإفتاء ضد الشيوعية، من قبل السفير البريطاني آنذاك (1953)، أجاب قائلاً: إنها نشأت بدعوى إزالة «المهلكات الثَّلاث: الجهل والفقر والمرض.. كافحوا هذه الأدواء وعالجوها تموت جرثومة ذلك الدَّاء قهراً، عاملوا الناس بالصدق والرفق واغرسوا جذور المحبة» (محاورة الإمام المصلح كاشف الغطاء للسفيرين البريطاني والأميركي). فلو أسقطنا جواب كاشف الغطاء على ظرف العراق الحالي، لوجدنا ما يشكوا منه أصحاب العمائم هو من فعلهم قبل غيرهم. فمن يدعي أن الإلحاد، منتشراً بين الشباب فعليه أن يُراجع نموذج الإسلام الذي يُقدم للمجتمع، عبر التدين بالتضليل والشعوذة، والفساد العارم.
هل راجع أصحاب العمائم، ممن يحرمون الغناء علانية ويستجيرون من انتشار الإلحاد والمخدرات، أنفسهم وسياسات أحزابهم، وأفعال ميليشياتهم، وماذا عن المغتالين بكواتم الصوت وأشباهها؟! هل نظروا إلى الصور المرفوعة على رؤوس البغداديين المبشرة لولاية غير العراق؟ ما ضخامة العقارات التي أُهديت بصفقات حزبية؟!
لماذا هذا الاستنفار وبسلاح الدين؟ وكأنها عودة لفتاوى (تموز 1963)، التي وضعها فقهاء ذلك الزمان للفتك بالخصوم، وحرصوا على أخذ «حصة الإمام» من أموال المعدومين، بعذر تطبيق الشريعة، بمن سموهم مرتدين واليوم ملحدين (العلواني، الردة والمرتدون)!
نعم، في هدى خطابكم، وحرصكم على التدين الهابط، وتشجيع السلوك الديني النفعي، يبدو الإلحاد، الذي تقولون عنه، خطيراً، وقد تحقق بفعل توريط الدين بمنافعكم. فإن نسيت لا أنسى المنافق الذي وقف بين من رمتهم الشدائد، السابقة واللاحقة، أشباحاً، يخطب لحملته الانتخابية: «يريدوننا أن نترك ديننا، يُريدوننا أن نترك مرجعيتنا»؟! هذا ما كان يُحاذر منه أماجد مثل كاشف الغطاء، لا فقهاء الفتن والطائفية.
ما نعلمه عن العمامة أن لها عند مبتكريها القدماء معنىً ودوراً، فـ«إذا قالوا (سيد معمم)، فإنما يريدون أن كلَّ جناية يجنيها الجاني من تلك العشيرة، فهي معصوبةٌ برأسه» (الجاحظ، البيان والتَّبيين). أقول: فهل تتحملون جنايات أحزابكم ومسلحيكم قبل التحريض على العزل، وسط العدد الهائل من المسلحين الدينيين!؟
لم يجعلكم الله تعالى «بوليس السماء»، بما وصف به الرصافي (ت 1945) من تعرض له من فقهاء وقته (العمري، حكايات سياسية). ففي الكتاب حماية وعصمة: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (يونس: 99). لا تقلقوا، فالعراق، من غابر الدهر، موطن الأديان، ألم يقل الدستور الذي شاركتم بكتابته، أنه: «موطن الرسل والأنبياء» (2005)؟ أي نتحدث عن خمسة آلاف عام، وها أنتم تضيعون الدين بأربعة عشر عاماً فقط. ما لكم مستفزون من فتية يحسبون الدين بما تعكسه عمائمكم السِّياسية؟!
*نقلاً عن “الإتحاد”