العيد القومي الآشوري.. رأس السنة الأشورية (اكيتو).. من ميثولوجيا الآشورية.. استقصاء تأثيراتها على ثقافة الأقوام والشعوب والأمم الأخرى
فواد الكنجي
الأول من نيسان عيد الطبيعة.. والآلهة.. والإنسان؛ هكذا توصف (الميثولوجيا الآشورية) شهر (نيسان)، ففي (الأول من نيسان) من كل عام، يحتفل (الشعب الآشوري) في (بلاد الرافدين – بلاد ما بين النهرين – العراق الحالي)؛ في هذا اليوم وأينما وجدوا في كل بقاع العالم بعد تشتيتهم اثر موجات الهجرة الكبيرة نتيجة الاستهداف المنظم والقمع المستمر ولأسباب (دينية) و(قومية) منذ سقوط الإمبراطورية (الأشورية) في عام 612 قبل الميلاد والى يومنا هذا؛ من قتل.. وإقصاء.. وتهميش.. وتميز.. وتهجير قسري، بعيد (رأس السنة الآشورية) والذي يسمى بعيد (اكيتو) من خلال إقامة احتفالات ومهرجانات شعبية تتخللها فعاليات فنية وتراثية متنوعة من غناء والرقص وارتداء ملابس تراثية وتقديم أكلات شعبية وغيرها من التقاليد القومية المهيبة، وفي الأغلب تقام هذه (الاحتفالات) في الطبيعة بين أحضان الزهور والورود وألوانها الزاهية التي تتزين بها الطبيعة في هذا الموسم الربيعي؛ حيث العشب الأخضر الخلاب الذي يسر الناضر، والتي تعبر عن أريج وعبق وعمق الحضارة (الآشورية).
فالتاريخ (الأول من نيسان) ليس مجرد تأريخ؛ بل يعتبر أول فكرة يتبلور مفهومها الفلسفي في ذهن الإنسان (الآشوري) لتدفعه لاستقصاء دلالات مهمة لضبط تقويم لحياته اليومية؛ ليشكل هذا التاريخ بداية لكتابة أول التقويم السنوي؛ بكونه يعتبر بداية حقيقية لتكوين ذاكرة الإنسان التاريخية. ومن هنا بداء (الإنسان الآشوري) يدون كل الظواهر الطبيعية التي تؤثر بشكل مباشر على الحياة ونشاطه الزراعي والتي تحدث في بيئته؛ بل وكل الحوادث الاجتماعية؛ ومن هنا بدأت مرحلةَ انعطاف هامة في حياة المجتمع (الآشوري) في تلك المرحلة؛ بتأسيس ذاكرة للتاريخ يؤرخ ويدون فيه مشاهداته لوقائع تحدث في بيئته؛ واستنتج من خلال متابعة لكثير من الظواهر الطبيعية والفلكية بأنها تحدث وتتكرر في أزمنه محددة؛ واستطاع تحديدها، فجاء تحديد بداية السنة (الآشورية) مع تجدد الحياة في الطبيعة وبداية دورتها وخصوبتها في (شهر نيسان)؛ وقد حدد الأول منه تاريخ لتعاقب الفصول الأربعة وعودها الدورية؛ وهكذا نظم (الآشوريين) حياتهم بنظام خاص حددوا بداية (السنة الآشورية) لتكون منطلقا لبداية رحلة الحياة اليومية .
ولما كان (الآشوريون) من أوائل الأقوام الذين ابتكروا الحروف الأبجدية لكتابة ما يريدون تدوينه وتعليم اللغة لأبنائهم، فقد أتقنوا وتفننوا في فن الكتابة والتدوين؛ وتم لهم تدوين الكثير من المعلومات عن العلوم.. والفلك.. والحوادث.. والوقائع؛ التي كانت تحدث في أيامهم؛ فكانوا يدونوها على (رقم طينية) التي كانت بمثابة صفحات لذاكرة الأمة، ونجد بان ملوك (الآشوريين) اهتموا بهذه الكتابات والرقم الطينية، وفي أيام الملك (الآشوري) العظيم (آشور بانيبال 668– 627 قبل الميلاد) الذي لم يكن أعظم أباطرة العالم القديم فقط بل كان أكثرهم تحضرا ووعيا وثقافة، وقد ورد عالم (الآشوريات) البروفسور (ليو أوبنهايم) ما كتبه هذا الملك بأنه كان بليغا وشديد الوضوح؛ ففي إحدى الرقم الطينية كتب كما ذكره (آشور بانيبال) عن نفسه، ببلاغة ووضوح، حيث يقول:
– ((..احتفظت بكل المعارف الأولية بدءاً من السومريين، ودرست حكمة (نابو) واكتسبت فن الكتابة ومعرفة معظم الحكماء، وتعلمت رماية القوس والفروسية وقيادة العربات. وهكذا استطعت قراءة النصوص السومرية الغامضة والأكيدة المعقدة وبحثت في الكتابة المسمارية على الحجر من قبل الطوفان..)) .
المكتبة الآشورية.. أول مكتبة في التاريخ
ومن اجل إنشاء هذه المكتبة قاما الملك (اشور بانيبال) بإرسال كتاب بلاطه إلى جميع أنحاء (بلاد الرافدين) لجمع كل ما يعثرون عليه في القصور الملكية لملوك وحكام وادي الرافدين القدماء والمعاصرين له؛ من ألواحٍ طينية مكتوبة باللغتين (السومرية) و(الأكدية)، وأمرهم بأن يعيدوا كتابة ما تلف منها، وأن يترجموا النصوص (السومرية) إلى اللغة (الآشورية) التي كان يتكلم ويكتب بها (الآشوريون)، وحفظ فيها آلاف الألواح الطينية التي كانت تمثل تراث حضارات ما بين النهرين في جميع فروع المعرفة، وقاموا بفهرستها وتبويب موضوعاتها، ووضعها على رفوف متجانسة ، و قد أنشأة هذه المكتبة في (القرن السابع قبل الميلاد) بعد إن جمع فيها كل ما أتيح له جمعه من ألواحٍ طينية وقد ضمت هذه المكتبة أكثر من (ثلاثين ألف لوح طيني)؛ وهذه المكتبة كانت تتكون من قسمين:
الأول.. في (قصر سنحاريب – وهو جد آشور بانيبال) وتحتوي أغلب الألواح الطينية التي كانت جاهزة للحفظ.
أما القسم الثاني.. فكان في (قصر آشور) حيث أسس فيه مكتبة ثانية جمع فيها ألواحا مختلفة عن الأولى.
وكان الملك (آشور بانيبال) يراجع على الدوام كلا القصرين، وهذه المكتبة في عام 612 ق. م تقريبا تعرضت للتخريب أثناء هجوم تعرضت له الإمبراطورية (الآشورية) وسقوطها على يد التحالف المتكون من (البابليين.. والسكوثيين.. والميديين)؛ فأضرموا النار في قصر الملك ما أدى إلى تسخين ألواح الطين وانصهارها بشكل كبير؛ إلا أن هذا الحدث ساهم في بقاء بعض من بقايا هذه الألواح وتم الثور عليها اثر أعمال التنقيب التي استغرقت أكثر من (ستين) عاما من الحفر والعمل وأكثر من ستة أجيال من تتابع خبراء وعلماء الآثار في التنقيب والبحث عن الآثار (الآشورية)، ولهذا فان الألواح الطينية التي تم العثور عليها لم تكن موجودة في القصر؛ بل وجد معظمها متناثرا هنا وهناك ومهشمة، لان الألواح وجدت وهي ملقاة بين الأنقاض وتحت الركام؛ ولم يتمكن علماء الآثار من ترميم معظمها؛ وهنا يذكر بان معظم اكتشافات هذه المواقع في (نينوى) تمت من قبل العالم الآثار البريطاني ( اوستن هنري لايارد ) حيث تم نقل معظمها إلى (بريطانيا)؛ واليوم تعرض بعض من بقايا المكتبة في مدينة (لندن) ومتحف (لوفر – فرنسا )، وخلال سنوات التنقيب والبحث عن الآثار تم بما تمكنوا من العثور عليه من هذه الرقم والألواح الطينية والحجرية إعادة تركيبها وقراءتها بشكل حرفي مدروس في ارقي مركز البحوث والتنقيب في جامعات العالم .
كيف حددت السنة الأشورية في التاريخ الآشوري
فعبر تلك المكتشفات من الآثار والمباشرة في البحث عنها من قبل البعثات العلمية من علماء الآثار القادمين من عديد الدول الغربية إلى منطقة الشرق الأوسط وتحديدا إلى بلاد (ما بين النهرين – العراق) قبيل منتصف القرن الماضي؛ أسفرت عن وجود دلائل بان سكان بلاد الرافدين وللفترة التاريخية المحصورة ما بين ( 8830 – 11240 ) عام كانوا قد ابتكروا فكرة بناء منزل مصنوع من الطين والحجر ليحتموا فيه من ظروف المناخية القاسية ومن الحيوانات المفترسة، وقد اكتشفوا باحثي الآثار عن مستوطنات زراعية في منطقة ( جرموا ) قرب مدينة (كركوك – اربخا سابقا)، وقد أجريت اختبارات عن طريق المسح بالاشعاء الكربوني لطبقات الأرض فوجدوا بأنها تعود للفترة لمحصورة ما بين ( 8830 – 11240 ) كما ذكرنا سابقا، وخلال الرقم الطينية المكتشفة في (جرمو) ومواقع أخرى من بلاد الرافدين وجدوا أسماء لسبعة عشر ملكا حكموا منطقة (جرمو) وكان الملك الخامس عشر من بين هؤلاء الملوك اسمه (اشبويا) كما ذكر في إحدى الرقم الطينية، الذي أمر ببناء بيتا ليكون بمثابة (هيكل الإله آشور) مبني من الحجر والطين وكتب بالخط المسماري على رقم حجري وضع فوق بوابة الهيكل (( انا ملك اشبويا بنيت هذا البيت للإله آشور)) وقد كتب وصية لكل من يأتي بعده من ملوك ليحكم المدينة، بعدم مساس هذا البيت، وأمرهم بان يعيدوا بناءه من جديد كل (مائتان وخمسون سنه) لكي يرسلوا رسالة إلى الإله (آشور) بأنه ما زال يعيش في بيت جديد، وفي فترة لاحقة اكتشفوا علماء الآثار لوحة طينية تعود إلى (القرن التاسع قبل الميلاد) أشير فيها بان احد ملوك (الآشوريين) أعاد بناء هذا الهيكل للمرة (22) للإله (آشور)، ومن خلال اكتشاف لهذا الرقم الطيني تم تحديد سنة ((4700 سنة ق.م )) فترة التي حكم فيها (الملك الأشوري – اشبويا) منطقة (جرمو).
وهكذا اعتمدت سنة ((4750)) وهي سنة التي تم بناء هيكل (الإله آشور) واعتبرت بداية لسنة (الآشورية)، وعليه سيكون تاريخ (السنة الآشورية) لهذا العام (2024 – ميلادي) هو (6774 – آشوري)، حيث تنطلق امتنا (الآشورية) باحتفالاتها بعيدهم القومي الذي يصادف في (الأول من نيسان) من ذلك التاريخ والى يومنا هذا؛ بعد إن تمكنوا من تحديد تقويمهم اليومي من خلال ملاحظاتهم عن التغيرات التي تحدث في الطبيعة بشكل دوري، فبعد إن أرخ (الأول من نيسان) بداية لتقويمهم السنوي؛ بكونه شهر الذي تتجدد فيه الحياة؛ وبعد أن تمكنوا من تدوين تاريخ ملوكهم بالتتابع ليصبح لـ(الآشوريين) تقويم يحددون فيه أيام أعيادهم واحتفالاتهم بتتابع الفصول.
ومن هنا يكون لـ( الأول من نيسان) مكانة خاصة كـ(بداية لسنه الآشورية) فاعتبر هذا اليوم رمزا عظيما في المجتمعات (الآشورية) القديمة باعتباره يوما من أيام (الطبيعة).. و(الآلهة).. و(الإنسان)؛ ولهذا فان (الأول من نيسان) يحمل دلالات فلسفية عميقة بما له من خصوصية تاريخية واجتماعية في الفكر الديني و القومي للأمة (الآشورية) بعد إن وجدوا في ظواهر الطبيعة تجسيدا للقوانين الإلهية؛ فأعطوها بعدا وظيفيا من خلال طَبع هذه الظواهر بغايات ومقاصد كان الإنسان آنذاك يربطها بالمناسبات والممارسات اجتماعية.. واقتصادية.. وسياسية.. في المجتمع؛ وحين نمعن وندقق في (الميثولوجيا الآشورية) والطقوس والشعائر الدينية التي كان يمارسها (الآشوريون) قديما في احتفالاتهم سنجد كل تلك تجليات واضحة فيها؛ فقد انطلقت نظرتهم إلى الوجود بتحليل ثلاث عناصر وهي (الطبيعة بمفهوم التكوين والخلق) و(الإنسان) و(الآلهة) وعن (سر الخلود والحياة الأبدية)، ومن هذه المنطلقات كتبت الأساطير وهي تبحث فيها عن هذه المعاني وتمعن النظر في إسرار الكون والوجود وما يدور من حولها من الظواهر الطبيعية.
فكانت أسطورة أو ملحمة (كلكامش) نموذجا راقي من الأدب لحضارة (بلاد الرافدين) ومن أقدم نصوص المكتشفة والتي تبحث عن سر الموت والخلود، فكان انطلاق (كلكامش) – و كلكامش هو اسم بطل أسطورة الخلود – في رحلة سفر طويلة يبحث فيها عن سر الخلود بعد موت صديقه (أنكيدو) بدافع حبه الشديد له وحزنه العميق على رحيله؛ متسائلا عن سر الخلود والحياة الأبدية، ولكنه فشل في الدخول إلى عالم الآلهة والوصول إلى الحقيقة المطلقة لحقيقة وسر الموت والحياة والخلود .
الميثولوجيا الآشورية جلها تبحث عن سر الموت والخلود
ومن هنا انطلقت معظم الأساطير القديمة في بلاد ما بين النهرين في (سومر.. وأكد.. وآشور) عن هذه الجدلية من خلال موت الآلهة وانبعاثها وربطها بسر سبات الطبيعة في فصل الشتاء وانبعاثها في فصل الربيع من جديد؛ وكذلك من خلال الصراع بين الخير والشر وعلاقات الحب والتزاوج بين الآلهة – كما وردت في أسطورة (تموز وعشتار) – إلى إن جاءت الديانات السماوية لاحقا، لتكمل رسم صورة الحياة الأبدية في الآخرة كما تخيلتها ذهنية الإنسان (السومري الأكادي الآشوري)؛ الذي سعى إلى معرفة حقيقة الوجود من خلال وضع تفسيرات محددة؛ تتغير من أسطورة إلى أخرى أو من حكاية إلى أخرى؛ بكونه كان يحتك بمحيط وجوده؛ فيحاول تفسيرها وفق رؤيته متجاوزا ذاته إلى الذات الإلهية، وقد تمحورت هذه الأبعاد بما كتبه في أسطورة ( الخلق – إينوما إيليش)؛ وهي أسطورة فيها الكثير من المضامين الدينية والميتافيزيقية لطقوس احتفالات (الآشوريين) قديما في نيسان بعيد (أكيتو – رأس السنة الآشورية) والتي تبدأ بطقوس أساسية لبناء محاور الأسطورة بدا بمراسيم احتفالات رأس السنة الآشورية والتي تبدا منذ اللحظة الأولى من اجتماع الآلهة، بعد أن أقرت على إدانة (الإله كنينو) بكونه مذنبا فحكم عليه سيدها (الإله مردوخ – وهو عند الأشوريين يسمونه الإله آشور) بالموت ذبحا ليخلق من دمه (الإنسان) بمعنى إن الخليقة قد جاءت بقرار إلهي وفي إطار تنظيم العالم أو الوجود الذي نشأ نتيجة انهيار قوى الظلام والشر.
(الميثولوجيا الآشورية) شكلت مساحة فكرية تركت بصماتها على مختلف العقائد الدينية التي برزت لاحقا في الشرق والغرب
ووفق ما ورد في محاور الميثولوجيا (الآشورية) فان طقوس أسطور الخلق (إينوما إيليش ) تنطوي على دلالات فلسفية عميقة وإبعاد فكرية رصينة تركت بصمات عميقة على معظم الفكر الديني والميثيولوجي للشرق القديم وللغرب أيضا؛ بكون (الميثولوجيا الآشورية) شكلت مساحة فكرية تركت بصماتها على مختلف العقائد الدينية التي برزت لاحقا في الشرق القديم؛ بكون اغلب الباحث المهتمين بدراسة الميثولوجيا والأساطير للشعوب القديمة يدركون مدى تأثير الميثولوجيا (السومرية – الاكدية – الآشورية )على معظم الفكر الديني الذي ظهر لاحقا في المشرق والغرب، لأننا لو أمعنا البحث في مدينة (أور– وهي من المدن الآشورية في العراق) سنجد إن هناك يتواجد معبد (إنانا – وهي إلهة الجمال والحرب) ومزار بيت النبي (إبراهيم الخليل – الأب الروحي للديانات الإبراهيمية ( اليهودية والمسيحية والإسلامية)، وهذا مؤشر واضح بكون هذه الديانات خرجت من رحم الميثولوجيا (السومرية الأكادية الآشورية) التي تبحث وتتناول عقائد وتصورات (للكون– الوجود) و(الإنسان) و(الآلهة) والتي كانت تلعب دورا عظيما وهاما وفي الحياة الاجتماعية.. والاقتصادية.. والسياسية .. وفي المناسبات الدينية في مجتمعات بلاد (ما بين النهرين بلاد أشور)؛ لان ملكة (العقل) عند الإنسان – بصورة عامة – دوما يسعى ويحاول تفسير كل ما حولها من الموجودات والعوالم ليفهم الإنسان أسرار الوجود، وهذا ما نلتمسه من خلال الأساطير التي دونها وبما يخص (الخلق) و(التكوين)؛ فكانت تلك الأساطير بمثابة وثائق بغاية الأهمية في الفكر الإنسان؛ اكتشفها علماء الآثار في (بلاد ما بين نهرين) وتم قراءة تلك الأساطير لاحقا والتي جلها تبحث عن قصة (الخلق) و(التكوين)؛ والتي تعود لحوالي ( 3000 سنة ق.م )، لنفهم حجم التطور الفكري والفلسفي عند أبناء (بلاد ما بين نهرين) وكيف تم بلورة أفكارهم وبنائها وحبكها في القصص.. والحكايات.. والأساطير بلاد الرافدين؛ التي تحاكي أحداث وقعت في التأريخ القديم – سواء كانت مجرد (خيال أم الحقيقة) – وساهم في إحداثها البشر والآلهة وهي أرث عرفه أبناء (بلاد ما بين نهرين) لدرجة التي – كما قلنا سابقا – والتي تنطوي على دلالات فلسفية عميقة وإبعاد فكرية رصينة تركت بصمات عميقة على معظم الفكر الديني والميثولوجي للشرق القديم؛ بكون (الميثولوجيا الآشورية) شكلت مساحة فكرية تركت بصماتها على مختلف العقائد الدينية التي برزت لاحقا في الشرق القديم .
فاليهود كتبوا (التوراة) وهم متأثرين بالفكر وفلسفة وأساطير (بلاد ما بين نهرين)، فاقتبسوا منهم الكثير من القصص.. والحكايات.. والأساطير الرافدينية؛ وخصوصا في (سفر التكوين).
وعن هذا الموضوع كتب بشكل مفصل في كتاب ((الأساطير الرافدينية في القصص التوراتية – الدكتور جمعة الطلبي – قسم الآثار– كلية الآداب – جامعة بغداد)) .
ويعود هذا التأثير من قبل اليهود بالأساطير وقصص الرافدينية نتيجة (السبي البابلي) سواء الذي حدث في زمن الملك الآشوري (شلمنصر الخامس) اوفي زمن الملك (سرجون الاشوري) والملك (سنحاريب) و(نبوخذ نصر) الذي السبي اليهود لأكثر من مرة.
اليهود خضعوا تحت السلطة الآشورية واقتيدوا أسرى إلى بلاد آشور والأكثر من مرة
فهذا تأثير بالعادات والتقاليد والميثولوجيا (الآشورية) من قبل (اليهود) الذين تواجد في (بلاد آشور) نتيجة الأسر ولفترة ليست بالقصيرة؛ فلا محال بأننا سنجد في كل أدبياتهم وعلومهم وثقافتهم هذا التأثر وبشكل ملحوظ كما نلتمسه في كتاب (التوراة) وربما في اغلب كتبهم الفكرية الأخرى؛ لا وبل سنجد هذا التأثر في طبيعة العادات والتقاليد مجتمعاتهم، لان وجودهم في (بلاد آشور) نتيجة الأسر وإخضاعهم ألقسري للسلطة ملوك (آشور) فهذا الأمر لابد إن يترك له أثار في طبيعة السلوك لمن يقع في الأسر لفترة طويلة ولأكثر من مرة سواء بإرادتهم أو بغير إرادتهم؛ كما تؤكد ذلك بحوث (علم النفس) و(علم الاجتماع)، فخضوع (اليهود) لملوك (آشور) هو بذاته يعكس سلبا في نفسية الإنسان (اليهودي) ويجعله تحت انقياد الأخر بفعل إرادي أو غير إرادي، ولتوضيح أمر هذا الخضوع فإننا نجده بصورة مجسدة مما تم اكتشافه اثر عمليات التنقيب التي كان يجريها الاثاري (هنري لايارد) عام 1849 لمدينة (النمرود – كالح) في مدينة (نينوى الآشورية)، حيث عثر على مسلة حجرية سميت باسم (المسلة السوداء) كونها كانت من الحجر المرمر الأسود تعود إلى الملك (الآشوري – شلما نصر الثالث 858 – 824 ق.م ) التي اليوم تتواجد في (المتحف البريطاني)؛ ويبلغ ارتفاعها ستة أقدام وهي منحوتة على هيئة برج مدرج نقشت بكتابة مطولة تؤرخ حملات الملك (شلمانصر)، وقد زينت هذه المسلة بخمسة انطقه من المنحوتات البارزة، في كل جانب من جوانبها تمثل مشاهد تقديم الخضوع والجزية من جانب الملوك والحكام والأمراء من مختلف الأقطار التي كانت تخضع للملك العظيم (شلمانصر) ومن ضمنهم كان ملك (إسرائيل – ياهو) في زمن الملك (الآشوري تجلات بليزر الثالث 744 – 727 ق.م) تضم نصف مملكة (إسرائيل) والتي ضمت إلى (الدولة الآشورية) وعين (هوشع) ملكا على (ألسامره) بصفته تابعا له .
وفي زمن الملك (الآشوري سركون الثاني 721 – 705 ق.م) وفي عام (710 ق.م) خضعت له (بلاد الشام) وأزال دولة (إسرائيل) من الوجود ونقل جميع اليهود أسرى وأسكنهم في (بلاد آشور) .
وفي زمن الملك (الآشوري سنحاريب 704 – 681 ق.م) حيث قام الملك في عام (701 ق.م) حملة عسكرية طوق مملكة (يهوذا) وحاصر عاصمتها (اورشليم) ولكن الجيش (الآشوري) لم يتمكن دخولها بسبب تفشي وباء بين أفراد الجيش فقرر الملك (سنحاريب) رفع الحصار عن (أورشليم) مقابل دفع جزية كبيرة من الفضة والذهب والنساء من بينهن بنات الملك كما جاء في حوليات الملك (سنحاريب)، ولكن الأمر لم ينتهي إلى هذا الوضع؛ فقد وصلت معلومات إلى الملك (سنحاريب)؛ بان (اليهود) في المملكة الشمالية التي كانت اسمها (مملكة إسرائيل) تقف وتساند وتدعم (الفراعنة) ضد مملكته مما أثار حفيظة الملك فقرر إخضاع تلك المنطقة إلى إمبراطوريته؛ فقام بحملة على (المملكة اليهودية الشمالية) في عام (697 ق.م) فحطم هيكلها وسبي أهلها وأخذهم سبيا إلى (بلاد آشور) وانتهى بذلك ذكر المملكة اليهودية الشمالية .
وفي زمن الملك ( نبوخذ نصر الثاني 604 – 562 ق. م) قام الملك باحتلال مملكة (يهوذا) وسبي أهلها وكان (السبي البابلي الأول لليهود) عام (597 ق. م) وتم قتل ملك مملكة يهوذا (يهوياكيم)، ثم حدث (السبي البابلي الثاني) عام (568 ق . م) بعد محاصرة (أورشليم) وذبح أولاد ملك (يهوذا – صدقيا) أمام عينيه ثم فقأت عيناه وأخذ مكبلا مع الأسرى (اليهود) الذين قدر عددهم بنحو أربعين ألف أسير إلى (بابل) ودمرت (أورشليم) ودكت معالم (هيكل سليمان) .
وهكذا كان سبي (آشوري) لـ(ليهود) يجرى بسبب مساندتهم للثورات والعصيان ونكث العهد الذي يعطونه للملوك الإمبراطورية (الآشورية)، وقد مكث اليهود في بلاد (بابل الآشورية) بعد السبي البابلي لهم إلى زمن (الدولة الفارسية الأخمينية) وعلى يد (قورش الأكبر) التي أسقطت (بابل) وقد خيروا (اليهود) الأسرى بين البقاء أو الرجوع إلى موطنهم في (أورشليم) وبذلك سمح لـهم بالعودة إلي (أورشليم) مرة أخرى .
سبي اليهود من قبل الآشوريين هو الذي جعلهم يتأثروا بالحضارة الآشورية فنحلوا وسرقوا الكثير من أساطيرهم وقصصهم وتراثهم
ومن هنا نستطيع القول بان وجود (اليهود) أنفسهم في (بلاد آشور) إثناء الأسر كان له الأثر الأعظم في تعرف (اليهود) عن حضارة بلاد (وادي الرافدين – العراق)، ومن هنا فان الباحثون يجمعون بان (الديانة اليهودية) كما هي اليوم ولدت إثناء وجودهم في الأسر في مدينة (بابل الآشورية) وان (الإسفار الأولى) الموجودة في (التوراة) أخذت طابع التراث في بلاد (ما بين نهرين) من خلال وجود (اليهود) في الأسر، الذي استمر قرابة نصف قرن انتهى بحدود 538 ق. م ، فان تأثير البيئة التي عاشوها في مدينة (بابل الآشورية) تركت آثارها في هذه (الأسفار) بعد إن أصبح لهؤلاء (اليهود) وخاصة كهنتهم الاطلاع الواسع على العلوم والمعارف السائدة في حضارة الإمبراطورية (الآشورية) آنذاك؛ فتعلموا منها وحصلوا على علومهم.. ومعرفتهم.. وآدابهم الواسعة .. وبما كان يتداول في الحياة الثقافية.. والفكرية.. والأدبية.. وبالمدونات.. وبالنصوص (السومرية.. الاكدية.. الآشورية)، وعلى هذا النحو كان (الأسر البابلي لليهود) فرصة ثمينة لرجال الدين (اليهود) المتواجدين على ارض (الإمبراطورية الآشورية) مكنتهم من الإطلاع المباشر علي الوثائق (المسمارية) وبالمدونات (السومرية الاكدية الآشورية) وخاصة بما يتعلق بالإنسان.. والموت.. والحياة.. والثواب.. والعقاب.. وبالشعائر العبادة وطقوسها.. والمفاهيم.. والقيم.. والقوانين الاجتماعية الساندة في مدن (الآشورية)، وهذا ما أدى إلى دخول كثير من المفاهيم إلى (الأسفار التوراتية) التي تركتها الحضارة (الآشورية) على معتقدات اليهود؛ سواء بما كان يتعلق بنشأة الكون والميراث والى غيرها من المفاهيم المتعلقة بالحياة.. والإنسان.. والموت؛ والتي فيما بعد انتقلت إلى (الديانة الإسلامية) من خلال محاكاة قصص التي وردت في (التوراة)، ليتم للباحثين وخبراء اللغة إقرار في دائرة البحوث والدراسات الأكاديمية العلمية بان محتويات مكتبة (آشور بانيبال – الآشورية) هي المفتاح الرئيسي لكل العلوم؛ والتي أطلق على مضامين هذه العلوم الجامعة بـ(علم الآشوريات) والتي من خلال ما تم اكتشافه في هذه المدونات والألواح الطينية (الآشورية) بان كل ما ورد من الفكر البشري خلال أكثر من إلف عام مقتبس من علوم وآداب (آشورية) .
فخلال تواجدهم في (المدن الآشورية) كان لليهود فرصة للإطلاع على آداب.. وقصص.. وأساطير.. والثقافة أبناء بلاد (ما بين النهرين) وقد دخلت معتقدات أبناء الرافدين خبراتهم أيام (السبي) بشكل تلقائي وطبيعي فيما دونوه من نصوص؛ وعندما عادوا إلى (اورشليم) وقاموا بتدوين نصوص (التوراة) المتفرقة في كتاب جامع شامل؛ فان (التوراة العبرانية) تم دوينها أقدم أسفارها وهي (اسفار موسى الخمسة) بعد العودة من (الأسر البابلي في القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد)، ولم يقر النص النهائي للتوراة إلا في القرن الأول قبل الميلاد.
وفي هذا الصدد يقول (الدكتور طه باقر) في كتابه ( مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة ) ما يلي:
((.. ومما يقال عن بقاء اليهود في بلاد بابل – بعد السبي البابلي الثاني والذي تم فيه تدمير أورشليم ودك معالم هيكل سليمان – وما تركه من تأثيرات كبيرة في الديانة العبرانية وفي تطور معتقداتها الأساسية بحيث يصح القول إن هذه الديانة بوصفها ديانة موحدة مع نضج فكرة الوحدانية فيها ، إنما نمت في أثناء بقاء اليهود في بلاد بابل، كما بدأ فيها جمع أسفار التوراة وتدوينها ما بين القرنين الخامس والسادس ق.م ، ودون التلمود البابلي الشهير في القرنين الخامس والسادس الميلاديين، هذا بالإضافة إلى ما أخذه اليهود من آداب حضارة وادي الرافدين ومعارفها وأساطيرها وقصصها..)).
اما الدكتور (صمويل نوح كريمر) فقد كتب في كتاب ( الأساطير السومرية – ترجمة يوسف عبد القادر داود – مطبعة المعارف، بغداد لعام 1971 وهو من علماء السومريات يقول :
– ((.. قبل أن يدون العبرانيون توراتهم ، والإغريق (إلياذتهم) و(أوديستهم) بألف عام، نجد في بلاد سومر أدبا غنيا ناضجا يتضمن الأساطير وقصص والملامح والتراتيل والمراثي، ومجموعات من الأمثال والخرافات والرسائل والمقالات والمناظرات…)).
وفي هذا الصدد أيضا نقرا في مقدمة الطبعة (الكاثوليكية) لـ(الكتاب المقدس.. الإنجيل)، الصادر لعام 1960 أقرار واضح بان نصوص التوراة لم تدون من قبل نبيهم (موسى)، حيث تذكر المقدمة ما يلي :
– ((..ما من عالم كاثوليكي في عصرنا، يعتقد أن موسى نفسه كتب كل التوراة منذ قصة الخليقة، أو أنه أشرف على وضع النص الذي كتبه عديدين بعده، بل يجب القول: إن ازديادا تدريجيا حدث، سببته مناسبات العصور التالية، الاجتماعية والدينية..)).
لنستشف مما سبق بان (اليهود) وبحكم تواجدهم في (بلاد ما بين نهرين) وبلاد (مصر)؛ استطاعوا تهويد تراث المنطقة فنسبوا كل القصص والأساطير إلى أسلافهم وآبائهم الأوائل ونسلهم العبراني؛ كما جاءت الرواية في متن قصص التوراة الهجينة؛ وفيها الكثير من رواسب الميثولوجيا القديمة لبلاد (ما بين نهرين) وبلاد (مصر)، بل إن كتابهم لم يوفقوا في ضبط تاريخ تلك الروايات لأنهم أساسا اختلفوا في ضبط مواد التوراة؛ لأننا نجد بان روايات التي جاءت في (التوراة) امتدت إلى أكثر من الف عام وقدر البعض تاريخ الانتهاء منها حوالي 440 قبل الميلاد وبعض التقارير تذهب إلى القرن الأول قبل الميلاد، ولهذا جاءت نصوص (التوراة) غير متناسقة نتيجة لاقتباس وسرقة تراث (الآشوريين) ودون إدراك السياق البيئي.. ولا على مستوى الاجتماعي.. ولا على مستوى الجغرافي.. ولا على مستوى ألزماني؛ لمرامي تركيباته الأصلية، وهذا ما أكده الباحث (صموئيل نوح كريمر) في كتابه الموسوم ( الأساطير السومرية)؛ ترجمة يوسف عبد القادر داود مطبعة المعارف بغداد 1971 .
بعد هذه الفترة نتيجة لسقوط (الإمبراطورية الآشورية) بفعل الغزوات المتكررة التي تعرضوا لها؛ تم تخريب وتدمير الصروح الحضارية لدولة (الآشورية)؛ تعرضت المكتب (الآشورية) التي أسسها (آشور بانيبال) إلى إحراق وتدمير؛ فتلف الكثير من الرقم الطينية التي أرخت الكثير عن ثقافة وفكر وآداب وتراث أبناء الرافدين؛ لان الأعداء نالوا من (الآشوريين) لدرجة التي لم يسمح لهم مزاولة عاداتهم وتقاليدهم الموروثة؛ وبمرور الوقت وتتابع السنين وكثرة استهدافهم؛ تلاشت الكثير من مظاهر الحضارة (الآشورية) في بلاد (ما بين نهرين)، فانطوى الإنسان (الآشوري) على نفسه ولم يستطع ممارسة طقوس الموروثة من أجدادهم الأوائل؛ ولكن ظلوا محتفين بها ضمن نطاق محدود بين الآسر والعشائر والقبائل (الآشورية) خوف من الاستهداف؛ وضن الكثير إن الحضارات القديمة قد اندثرت وانتهت وتم نسيان تراثهم، ولهذا حين توسعت الديانة (اليهودية) وانتشرت واتوا بكتابهم (التوراة)؛ ضن الكثير آنذاك؛ بان ما ورد في كتابهم هو يخص (اليهود) بدا وانتهاءا، وحين جاءت الديانات الأخرى فيما بعد؛ أخذت بعض من نصوص (التوراة) تنتقل إليهم مع بعض التهذيب والتشذيب هنا وهناك، ليصبح الاتقاد السائد في تلك المجتمعات وآنذاك؛ بان كل ما تم نقله هو يخص (التوراة) ونبيهم (موسى)، لحين جاءت البعثات العلمية للآثار تتوافد إلى منطقة الشرق في القرن الثامن والتاسع عشر وبدأت عمليات التنقيب عن الآثار في بلاد (وادي الرافدين – العراق) وتم اكتشاف مكتبة (آشور بانيبال 626 – 667 ق.م)، في (بلاد آشور) في (نينوى) – والتي جاء ذكرها سابقا – والتي تعتبر أقدم مكتبة على الإطلاق في تاريخ العالم، حيث وجد فيها أكثر من (25000) لوح من الرقم والألواح الطينية المدونة بالكتابة (المسمارية وباللغة الآشورية) تعود بعض منها إلى تاريخ بلاد (سومر) و(أكد) و(آشور)، حيث وجد – وبالبرهان والدليل القاطع – بعد إن استطاع علماء الآثار والباحثون تفكيك وفتح رموز (الخط المسمارية باللغة الآشورية) وقراءتها، ليكتشفوا بان الكثير من آثار (الآشوريين) و منها الرقم الطينية التي وجت بقرب من قصر الملك (اشور بانيبال) ومناطق أخرى نتيجة العبث والتخريب الذي تعرضت مكتبته، وحين تم فك رموز الكتابة المسمارية التي كان تلك الألواح الطينية مكتوبة بها؛ كشفت الحقيقة بان قصة (الخلق التوراتية) ما هي إلا نسخة طبق الأصل لأسطورة (الخلق – إينوما إيليش – الآشورية)؛ لا وبل بان اغلب نصوص (التوراة) مقتبسة من تراث والميثولوجيا (الآشورية) مثل (ملحمة كلكامش) في (قصة الطوفان) و(سفر الحكمة) و (الأمثال) و(ابن سيراخ) و قصة (طوبيا) و(أيوب) و(المزامير) و(نشيد الأناشيد)، كما أنهم وجدوا في نصوص ملحمة (الخلق – إينوما إيليش)، والتي تم تدوينها على سبعة ألواح تتناول الحديث عن سبعة أجيال حول (بداية الخلق والكون) والتي في أغلب نصوصها تتطابق تطابق تام مع الأيام السبعة في (سفر التكوين) التي وردت في كتاب ( التوراة).
كتاب التوراة.. الكثير من فصوله مقتبس من ميثولوجيا وآداب وعلوم الآشورية
((.. فبعد إن توصل العالم (هنري رولنسون) و(جورج سميث) قراءة الأحرف المسمارية وما ورد في الألواح (الآشورية) اعتبر ما وجد في المكتبة (الآشورية) مصدرا رئيسيا ووحيد لكل المراجع؛ بعد إن كان كتاب (التوراة) هو المرجع التاريخي لتاريخ المنطقة واعتبروا اغلب النصوص التي وردت في (التوراة) مقتبس من ميثولوجيا وآداب وعلوم (الآشورية)؛ لدرجة التي سمي (التوراة) بـ(توراة بلاد النهرين) .
وفي هذا الصدد ألقى الباحث (فريدريك ديلليتش) محاضرة في غاية الأهمية حول (توراة بلاد آشور) وذلك بتاريخ 13/12/1902 في مدينة (برلين الألمانية) بحضور القيصر (فيلهيلم الثاني) الذي طلب من (فريدريك ديلليتش) إعادة هذه المحاضرة في القصر الملَكي، فألقى المحاضرة تحت عنوان (بابل والكتاب المقدس)، حيث أوضح بأن قصص (التوراة) مأخوذة من (بلاد آشور)، الأمر الذي أثار ضجة في الأوساط الأكاديمية والإعلام الأوروبي، وهذا ما أثار حفيظة (اليهود) والكنائس الغربية اللذين مارسوا كل وسائل لعدم البحث في هذا الشأن؛ ليتم طمس هذه الحقائق، وفعلا تمكن اللوبي (اليهودي) في العالم إلى إخفاء العديد من الألواح (الآشورية) الهامة بل وسرقتها، وبهذه التحاليل والبحوث والدراسات الأكاديمية في التراث والميثولوجيا (الآشورية) وما تم استكشافه من الذخيرة الثقافية والأدبية لعوم وآداب (الآشورية).
ففي مقدمة أسطورة (الخلق – إينوما إيليش) تتحدث في اللوحة الأولى، عن البدء في الجيل الأول حينما كانت الأرض معدومة لا أسم لها، حيث كان الكون يتألف من العنصر (الذكر) إله المياه العذبة (آبسو) والعنصر (الأنثى) إلهة المياه المالحة (تيامات)، و(ممو) إله السحاب الذي يرفرف بينهما، وهنا يمكنك البحث والاطلاع على حجم التطابق بين هذه النصوص والنص الوارد في (سفر التكوين في اليوم الأول 1: 1-2).
ثم في الجيل السادس، الإله (مردوخ – آشور؛ عند الآشوريين ) الذي يخلق الإنسان (لالو) ليخدم الآلهة فتستريح في الجيل السابع وهو نفس النص الموجود في (التوراة) تماما والذي يتحدث عن خلق الله (الإنسان) في اليوم السادس واستراح في اليوم السابع ( سفر التكوين2:2-3).
وإذ أخذنا صور أخرى في التطابق بين قصة (الخلق الآشورية) و (التوراة)، ففي النص (الآشوري) يذكر بأن (الإلهة تيامات) التي على شكل التنين (هابور) السابح في البحار، كانت تنوي التخلص من أحفادها المزعجين لتنعم بالراحة مع زوجها (آبسو)، فأتت بالوحوش المخيفة استعدادا للمعركة، عندها يأتي الإله (مردوخ – آشور) ويتصارع معها و ينتهي ذلك بانتصار الإله (مردوخ – آشور) ليشطر المياه (تيامات) إلى قسمين، فيصنع من القسم الأول (السماء) حيث يخلق النجوم والكواكب، ومن القسم الثاني (الأرض) حيث يخلق الحيوانات والنباتات، وهذا النص هو نفسه وجد في النص (التوراتي) و( كما ورد في (سفر تكوين:1: 6 )؛ حيث يفصل الله بين مياه العذبة ومياه المالحة ويصنع السماء والأرض)، وبعد أن ينتهي الإله (مردوخ – آشور) من خلق كل ذلك يخلق زوجا من الإنسان بواسطة (الماء والطين).. ويبني بيتا له في (بابل) ليستريح فيه كلما نزل إلى الأرض في شهر (نيسان)، وهو أيضا نفس النص الموجود في (التوراة) حيث النص يذكر(سيبني رب الجنود فيما بعد، بيتا له في إسرائيل، انظر صموئيل الثاني: 1:7– 17).
وكذلك نجد عبارة (خيمة الآلهة) التي ورد ذكرها في (ملحمة كلكامش) التي اقتبست منها (التوراة) نفس (قصة طوفان) بشخصية ( نوح) وعند النص (الآشوري) يذكر اسم (زيوسودرا) وفي النص (السومري) ورد باسم (أوتنابشتم).
وهنا نستوضح للقاري (( بان في كتاب للباحث العراقي الدكتور( فاضل عبد الواحد علي ) الموسوم تحت عنوان (من ألواح سومر إلى التوراة) – الطبعة الثانية 1996 دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – العراق ، فيه الكثير من تفاصيل عن هذه المقارنة بين الحضارة (الآشورية) وما ورد في نصوص إسفار (التوراة). كما إن كتبة الموسوم (الطوفان في المراجع المسمارية 1975) الطبعة الأولى بغداد مطبعة الإخلاص لسنة 1975 تناول موضوع اسطورة الخلق بشكل مفصل)).
ففي ملحمة (كلكامش) فإن الصور أكثر وضوحا، إذ نقرا في الكتاب المذكور سابقا، إن الطوفان والأعاصير استمرت تجتاح البلاد ستة أيام وست ليالي وانه ((..عندما حل اليوم السابع ، خفت وطأه الرياح الجنوبية في هجومها الذي شنه كالجيش في المعركة على حد تعبير الكاتب (الآشوري)، ثم هدءا البحر وسكـنت العواصف وانتهى الطوفان، ويقول رجل الطوفان (اوتنابشتم) انه تطلع إلى البر من السفينة بعد هدوء العواصف والمياه فوجد أن السكون يخيم في كل مكان وان البشر جميعا تحولوا إلي طين، ثم يصف مشاعره وقد زال عنه الخطر وأصبح قاب قوسين أو ادني من النجاة))، فيقول :
(( – ثم فتحت نافذة ( في السفينة ) فسقط النور على وجهي
فسجدت وجلست باكيا والدموع تجرى على وجهي ثم أخذت أتطلع إلى سواحل البحر الواسع فبانت الأرض من مسافة اثني عشر ميلا مضاعفا..)).
((.. وفى تلك الأثناء استقرت السفينة على جبل اسمه (نيسير) ومضت ستة أيام وجبل (نيسير) ممسك بالسفينة ولا يدعها تتحرك – على حد قول رجل الطوفان (اوتنابشتم) – وبتعبير أخر، أصبح أكيدا لرجل الطوفان أن السفينة قد بلغت مستقرها الأخير، وانه لا أمل في أن تتحرك من ذلك الموضع أبدا، وعندئذ إي في اليوم السابع من استقرارها على جبل (تيسير)، اخرج (أوتنابشتم) حمامة وأطلقها، وراحت الحمامة ولكنها لم تلبث إن رجعت، لقد رجعت الحمامة لأنها لم تجد محط لها، وعندئذ اخرج السنونو وأطلقه؛ وراح السنونو ولكنه لم يلبث أن رجع؛ قد رجع السنونو لأنه لم يجد محطا له؛ ومن ثم أخرج الغراب وأطلقه؛ وراح الغراب ولكنه عندما رأى أن المياه انحسرت أكل وحام ونعق ولم يرجع، وعندما خرج رجل الطوفان لأول مرة من السفينة بعد أربعة عشر يومنا من دخولها، سكب الماء المقدس على قمة الجبل ونصب القدور ليعد الطعام قربانا للإلهة ، وسرعان ما فاحت رائحة الطعام الطيبة فشمتها الإلهة وتجمعوا حول مقدم القربان كالذباب..))؛ وفق ما جاء في النص (الآشوري).
وفى هذا المقطع من قصة (الطوفان)، يجد القارئ نفسه أمام مشهد جديد ومثير، حيث تتجمع الإلهة العظام حول رجل الطوفان بعد إن انتهوا من التهام القربان ليستمع بعضهم من البعض الأخر عما حل بالناس من دمار وما لحق من خراب نتيجة لأحداث الطوفان، وليرفع بعضهم صوته احتجاجا على هذه الخطيئة التي اقترفها الإله (انليل) بحق الناس، وعندئذ شعر الإله (انليل) بجسامة الخطأ الذي ارتكبه ضد بني البشر، فصعد إلى ظهر السفينة منقذ الحياة، ووقف بين رجل الطوفان (أوتنابشتم) وزوجته ثم لمس جبينهما مباركا، ومنحهما الخلود قائلا:
((.. – ما كان (اوتنابشتم) قبل الآن لا بشرا ولكن من الآن سيكون (أوتنابشتم) وزوجته مثلنا نحن الإلهة وسيقيم (أوتنابشتم) بعيدا عند فم الأنهار..)).
إن قصة الطوفان في (بلاد الرافدين) تركت أثارا واضحة في (التوراة) حيث نقرأ في (سفر التكوين 6 – 9 ) تفاصيل وافية عن (الطوفان) ، حيث إن التشابه بين (قصة الطوفان) في المراجع (المسمارية الآشورية) وبين (التوراة) واضحة كل الوضوح؛ ويكفي إن نقتبس للقارئ بعضا مما تذكره (التوراة) بهذا الصدد ليقف بنفسه على ذلك .
ففي (التكوين – 6 :9) في النص (التوراتي) يذكر:
بـ(( ..ان نوح كان رجلا بارا كاملا في أجياله . وسار نوح مع الله ، و ولد نوح ثلاثة بنين (سام.. و حام.. و يافث)، وفسدت الأرض أمام بشر وقد أفسد طريقه على الأرض، قال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي، لأن الأرض امتلأت ظلما منهم، فها انا مهلكهم مع الأرض، اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن وتطليه من داخل ومن خارج بالقار، وهكذا تصنعه ( ثلاثمائة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعا ارتفاعه وتصنع كوى الفلك وتكمله إلى حد ذراع من فوق وتصفع باب الفلك في جانبه مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله، فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء؛ كل ما في الأرض يموت، ولكن أقيم عهدي معك؛ فتدخل الفلك أنت لاستبقائها معك تكون ذكر وأنثى من الطيور كأجناسها ومن كل دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها؛ وأنت فخذ لنفسك من كل طعام ما يؤكل واجمعه عندك؛ فيكون لك ولها طعاما)، ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله هكذا فعل .
وقال الرب لنوح ادخل أنت وجميع بيتك إلى الفلك؛ لأني إياك رأيت بارا لدي في هذا الجيل؛ من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة ذكرا وأنثى؛ ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا وأنثى؛ ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة؛ ذكرا وأنثى لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض؛ لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة؛ وأمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته؛ ففعل نوح حسب كل ما أمر به الرب، ولما كان نوح ابن ستمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض؛ فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة ومن الطيور وكل ما يدب علي الأرض دخلوا اثنين – اثنين إلى نوح، إلى الفلك ذكرا وأنثي؛ كما أمر الله نوحا، وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض في سنة ستمائة من حياة نوح، في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر؛ في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع النهر العظيم وانفتحت طاقات السماء؛ وكان المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة؛ في ذلك اليوم عينه، دخل نوح.. وسام.. وحام.. ويافث، بنو نوح وامرأة نوح وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك؛ هم وكل الوحوش كأجناسها وكل البهائم كأجناسها وكل الدبابات التي تدب على الأرض كأجناسها، وكل الطيور كأجناسها، كل عصفور كل ذي جناح ودخلت إلى نوح إلى الفلك اثنين – اثنين من كل جسد فيه روح حياة؛ والداخلات دخلت ذكرا وأنثى، من كل ذي جسد ، كما أمره الله ، وأغلق الرب عليه .
ولما استمر الطوفان أربعين يوما على الأرض، وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض، وتعاظمت المياه وتكاثرت جدا على الأرض؛ فكان الفلك يسير على وجه الماء؛ وتعاظمت المياه؛ كثيرا جدا على الأرض؛ فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت السماء خمسة عشر ذراعا في الارتفاع؛ تعاظمت المياه، فتغطت الجبال؛ فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض، من الطيور والبهائم والوحوش وكل الزاحفات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس كل ما في انفه نسمة روح حياة، من كل ما في اليابسة مات؛ فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض؛ الناس والبهائم والدبابات طيور السماء، فانمحت من الأرض وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط، وتعاظمت المياه على الأرض مئة وخمسين يوما،
ثم ذكر الله نوحا وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك، وأجاز الله ريحا على الأرض فهدأت المياه؛ وانسدت ينابيع النهر وطاقات السماء، فامتنع المطر من السماء؛ ورجعت المياه عن الأرض رجوعا متواليا؛ يعد مئة وخمسين يوما نقصت المياه؛ واستقر الفلك في الشهر السابع؛ وفي اليوم السابع عشر من الشهر على جبال (أرارات)؛ وكانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر؛ وفى العاشر في أول الشهر ظهرت روس الجبال.
وحدث من بعد أربعين يوما إن نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها وأرسل الغراب، فخرج مترددا حتى نشفت المياه على الأرض ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك؛ لأن مياهها كانت على وجه كل الأرض، فمد يده وأخذها عنده إلى الفلك؛ فلبث أيضا سبعة أيام أخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك؛ فاتت إليه الحمامة عند المساء؛ وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها؛ فعلم أن المياه قد قلت عن الأرض؛ فلبث أيضا سبعة أيام أخر فأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضا.
وكان في السنة الواحد والستمائة في الشهر الأول في أول الشهر أن المياه نشفت عن الأرض فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشفت. وفى الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفت الأرض، وكلم الله نوحا قائلا :
– اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك؛ وكل الحيوانات التي معك؛ من كل ذي جسد؛ الطيور والبهائم وكل الدبابات التي تدب على الأرض أخرمها معك؛ ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض.
فخرج نوح وبنوه وأمرائه ونساء بنيه معه، وكل الحيوانات؛ كل الدبابات وكل الطيور؛ كل ما يدب على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك وبني نوح مذبحا للرب و اتخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة واصعد محرقات على المذابح؛ فتنسم الرب رائحة الرضا؛ وقال الرب في قلبه لا أعود العن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل ما زالت..)) ،انظر (التكوين 6 – 9) .
ليستوضح لدى الباحثين والدارسين والمفكرين مدى عمق ما تأثرت (التوراة) وما أخذته من الميثولوجيا والتراث (الآشوري)، (( فقدموا في ذلك الكثير من الدراسات والبحوث بهذا الخصوص والتي تؤكد عن تأثير ثقافة وادي الرافدين على آداب (اليهود)، ولم يقتصر هذا التأثير للفكر الميثيولوجي (الآشوري) على آداب (اليهودية) فحسب بل امتد التأثير إلى على الشعوب المجاورة؛ نحو (الآراميين) و(الفينيقيين) و(الإغريق) و(الحضارة اليونانية) وظل هذا التأثير قائم رغم سقوط الدول (الآشورية) في 612 قبل الميلاد، لان (الآشوريين) ظلوا محافظين على تراثهم الفكري والأدبي واستمر ذلك إلى عهد (اسكندر 331 – 126 ق.م) وخلال عهد حكمه وسيطرته على بلاد الرافدين برز المؤرخ (بيروسوس – برعشا) من مدينة (بابل الآشورية) الذي جمع تاريخ (بابل) في كتابه اسماه (بابيلونياكا) وقد كتبه باللغة (اليونانية) في ثلاث مجلدات؛ أرخ فيه وقائع التي حدثت من سنة 3600ق.م حتى حكم (اسكندر)، وقد جاء كتابه هذا بناءا على طلب الملك (أنطيوخس الثاني 261- 247 ق.م) الذي حكم مدينة (بابل)؛ علما بان (بيروسوس) كان كاهن (الإيساغيلا) في معبد (مردوخ – آشور) في أيامه؛ وفيما بعد؛ ولوجوده في (اليونان) وامتهانه التدريس في مدينة (أثينا) ألف هناك كتاب (الحكمة)، وكانوا (اليونانيون) يكنون له احترام كبير لدرجة التي نصبوا له تمثالا فخريا له، وقد أصبح كتاب الذي إلفه بعنوان (بابيلونياكا) مصدرا مهما من مصادر العلوم في (اليونان)، بعد رسائل (هيرودوتس) و(الإسكندر) وقد أخذوا الأدباء والمثقفين وفلاسفة (اليونان) الكثير من علوم (الآشورية) في مجال الفلك والدين والرياضيات وخاصة مبدأ (إقليدس) في الرياضيات الهندسية وقياس الوقت والحساب الذي ما زال يدرس في مدارس وجامعات العالم باعتباره من أسس علوم الرياضيات..)) .
انظر إلى مقال ((الميثولوجيا الآشورية عمق تاريخي لتجذير الهوية القومية (اكيتو) وتأثيراتها على حضارات الشعوب)) بقلم.. فواد الكنجي .
المسيحية أخذت واقتبست ونحلت من قصص وأساطير الآشورية
ولما كانت الكثير من قصص التوراتية هي منحولة ومقتبسة من تراث (الآشوريين)؛ فإننا نجد في الديانة (المسيحية) هذا الاقتباس منحول من قصص وأساطير (آشورية) وتحديدا في قصة (الخلق – إينوما إيليش) سواء من فكرة (الخلاص) و(القيامة) و(التجسيد) التي وردت في الديانة (المسيحية) هي أساسا منحولة من قصة (الخلق– إينوما إيليش) .
ففي الأسطورة (الآشورية) تذكر قيامة الإله (مردوخ الذي يسمى آشور) من الأموات في اليوم الثالث وتتويجه (الها ملكا) على الكون،هي نفس الصورة الموجودة في المسيحية حين يتجه اللاهوت المسيحي بفكرة تجسد الله بصورة (إنسان – المسيح) مخلص للإنسان؛ ومن ثم الاحتفال بذكرى انبعاثه للحياة في اليوم الثالث بعد صلبه وهذه في صلب عقيدة المسيحية ليتم احتفالاتهم بعيد القيامة، وهذا الانبعاث هو بنفس المنطلق عند احتفالات (الآشوريين) في عيد (اكيتو) ببداية الربيع؛ لان في هذا الموسم تتجدد دورة الحياة والانبعاث .
((.. لان (الميثولوجيا الآشورية) كانت لها صداها الواسعة في أوساط الثقافة الغربية ومعتقداتهم الخاصة التي كانت تمارس وفق طقوس العبادة في احتفالات (رأس السنة الآشورية) التي كانت تسمى احتفالات (أكيتو) والتي وجدت تأثيراتها في معطيات (الديانة المسيحية) وذلك بتخصيص يوم للاحتفال بـ(رأس السنة الميلادية) الذي يصادف في (الأول من كانون الثاني) كبداية لدخول العام الميلادي الجديد على غرار ما كان سائدا في أيام (الإمبراطورية الآشورية) باعتبار (الأول من نيسان) هو أول أيام لدخل العام (الآشوري) الجديد، ومن معطيات أخرى التي أخذتها (الديانة المسيحية) من (الميثولوجيا الآشورية) هو وجود الإله الغير المنظور (الله) في (الديانة المسيحية)؛ حيث كانت مفردة (الله) تقابل (آشور) وهو اله غير منظور عند (الآشوريين) وعلى عظمة قدسيته عندهم كنيت اسم مواقع وجودهم بـ(بلاد آشور) وكني ملوكها باسمه؛ بل وجرت العادات والتقاليد في عرف المجتمع (الآشوري) آنذاك وما زال هذا العرف إلى يومنا قائم عند العوائل (الآشورية) بتسمية واحد من أبنائهم باسم (آشور) تيمننا بعظمة الإله (آشور) الذي هو عندهم (الله ) الذي هو في العلى والمعروف اليوم عند اغلب شعوب الأرض ولكن بتسميات وفق الألسن واللغات المتعددة عند شعوب الأرض، ومن مضامين النص (الميثولوجيا الآشورية) للاحتفالات برأس السنة (الآشورية – أكيتو) والتي تقام وفق طقوس معينه حيث نجد لها صداها في طقوس (الديانة المسيحية).
وتحدثنا أسطورة (الخلق – إينوما إيليش) في موضع آخر عن احتفالات (نيسان) حيث يتوج الإله (مردوخ) ملكا على الكون – هذا الإله الذي عبده الآشوريون في شخص الإله أشور إلههم القومي– وهو يبرز هنا كمخلِص عظيم للإنسان؛ وهذه إشارة واضحة ذات دلالة على أن فكرة (الخلاص) التي قامت عليها (العقيدة المسيحية) لاحقا؛ هي أصلا وردت في الفكر (الآشورية)، ففي إحدى المخطوطات (الآشورية) التي تعود إلى القرن السادس ق م، نجد أن الملك (أشور بانيبال) يتوجه إلى الإله (أدد) إله السماوات والأرض، ملتمسا بالقول:
– ((.. يا مَن خلقت البشر بكلمة نطقت بها، أسألك أن تمكنني من الذود عن نفسي وتمنحني حكمك العادل؛ .. أتوسل بك لتتقبّل ضراعتي وابتهالي، استجب لصلواتي، واغفر لي خطاياي ونجني من الشرور التي تهدد حياتي..)).
هذا الرجاء الديني يلخِّص قصةَ الخلق من جهة وطبيعةَ العلاقة بين الإنسان والآلهة من جهة أخرى، وهذا الدعاء بصلاة هو ذاته عند المسيحية وتحديدا في صلة (أبانا الذي في السماوات) والتي تنص :
(( أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.
أعطنا خبزنا كفافنا اليوم واغفر لنا خطايانا كما نحن أيضا نغفر لمن اخطأ إلينا ولا تدخلنا في التجربة ولكن نجنا من الشرير آمين )).
وهذه الصلاة تعتبر من أهم الصلوات التي أوصى السيد (المسيح) تلاميذه بحفظها.
ومن ذلك إن الإله (مردوخ – آشور) ينزل إلى الأرض ويتصارع مع الشر فيؤسر في اليوم الخامس من مراسم الاحتفال بيوم (أكيتو) ليحرر من قوة العاصفة (نينورتا – إله العاصفة) بعد ثلاثة أيام ؛ أي بعد اليوم السابع من – هذه الاحتفالات – بعد أسره وتبدأ الحياة، وهذا الحدث يورد في ( العهد الجديد – الإنجيل)، بان السيد (المسيح) يحرر من الموت بعد ثلاثة أيام خلال هبوب عاصفة عاتية؛ وخلال فصل اعتدال الربيعي تكون (قيامة المسيح)، كما في بداية الربيع تبدأ الاحتفالات (أكيتو) بعد تحرر الإله (مردوخ – آشور) من الظلمة، ومن ثم إن (الميثولوجيا الآشورية) تذهب بالذكر صعود (مردوخ – آشور) إلى بيته العلوي (السماء) بعد تحرره واجتماعه بالآلهة (أي في اليوم الحادي عشر من بدا احتفالات أكيتو) ويمثل هذا الحدث في المسيحية صعود (المسيح) إلى السماء بعد قيامته في اليوم الثالث من بعد موته واجتماعه بتلاميذه، وإذ ما تعمقنا أكثر في ألاهوت المسيحي وتحديدا في فكرة (الثالوث الأقدس – باسم الأب والابن والروح القدس) فان في (الميثولوجيا الآشورية) يقابل ( أيا – إله البحار والد مردوخ – آشور) و( آنو – إله السماء) و( إنليل – إله الجو والأرض )، ومن ثم لو أخذنا فكرة (المعمودية) في المسيحية والتي مغزاها هو غسل الخطايا الموروثة عن طريق رش الماء على الجسد؛ وهذا الطقس المسيحي هو موجود ضمن طقوس الاحتفالات بعيد (أكيتو) حيث يقوم الشعب برش الماء على طريق الإله (مردوخ – آشور) ، كم يقوموا برش الماء على بعضهم لغسل خطاياهم قبل استقبال الإله (مردوخ – آشور) بعد أسره من قبل إلهة الموت (أرشكيغال)، وفي المقابل نجد بان القديس (يوحنا المعمدان) أثناء غسل الخطاة بماء نهر (الأردن) يقول:
– (( توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات – متى:2:3)) .
وما يزال (الآشوريون) يحتفلون بهذا العيد إلى يومنا هذا؛ وذلك برش الماء على بعضهم وعلى الطرقات، وله أيضا طقوس خاصة في الكنائس الشرقية وتحديدا في طقوس (كنيسة المشرق الآشورية والشرقية القديمة) ويعرف بعيد (نوسرديل).
وبكل هذه التشابهات في الطقوس بين (الميثولوجيا الآشورية) و(الديانة المسيحية) وغيرها من المعتقدات – يصعب حصرها في اسطر هنا – هو الأمر الذي جعل (الآشوريون) إن يكونوا من أوائل الشعوب التي اعتنقت (الديانة المسيحية) بعد ظهورها؛ وذلك بعد إن وجدوا الكثير من أوجه التشابه بين معتقداتهم الدينية القديمة وبين الدين الجديد الذي اخذ القديس (بطرس) بالتبشير بتعاليمه المسيحية اثر زيارته لمدينة بابل (الآشورية) كما ورد في الكتاب المقدس رسالة القديس (بطرس الأولى – 5:13) .
وبعد دخول (الآشوريون) في (الديانة المسيحية) تخلوا عن طقوس (أكيتو) ولكن ظلوا محتفظين بالكثير من تلك العادات والتقاليد التي أورثوها جيلا بعد جيل وبقوا يعتبرون الأول من شهر (نيسان) شهر الانبعاث والتجدد بالمعنى الذي كان قائم قبل المسيحية ولكن بشكل الذي يواكب متطلبات الحياة المعاصرة؛ ولذلك فان الكثير من هذا الموروث الحضاري ما زال (الآشوريون) يحافظون عليه ويزاولونه، فنرى في الأول من كل شهر (نيسان) يجمعون باقات من الزهور والأعشاب الخضراء ليتم تعليقه على مدخل أبواب بيوتهم في مطلع الصباح؛ كرمز لقدوم الربيع وانتعاش الحياة وتجدد الطبيعة ؛ وتسمى هذه الباقات بـ( دقنا دنيسان – لحية نيسان)…)).
انظر الى مقال؛ ((الميثولوجيا الآشورية عمق تاريخي لتجذير الهوية القومية (اكيتو) وتأثيراتها على حضارات الشعوب – بقلم.. فواد الكنجي..)).
وكذلك نجد تأثيرات (الميثولوجيا الآشورية) في معطيات (الديانة الإسلامية) ففي يوم الاحتفال (أكيتو) كانت تختتم فعالياتها بمسيرات احتفالية تطوف حول معبد سيد الآلهة (مردوخ– آشور) عدة مرات ومن هناك يغادرون الموقع، وهذا المشهد تماما نجده عن (المسلمين) حينا يطوف (الحجاج المسلمين) حول (الكعبة) في (مكة) المكرمة، كما إن استقصاء لما ورد في كتاب (القرآن) من قصص الأنبياء وقصة (الطوفان) وغيرها والتي وردت وفق تصور كتاب (التوراة) أو (الإنجيل)؛ إنما هي أساسا وكما ذكرنا سابقا بان الكثير مما ورد في كتاب (التوراة) وفي كتاب (الإنجيل) هو منحول ومقتبس أساسا من سيرة القصص والحكايات والأساطير (الآشورية) من بلاد (الرافدين) .
تأثير الثقافة وتراث وطقوس عيد أكيتو الآشوري في ميثولوجيا الأقوام والشعوب والأمم الأخرى
وهكذا نجد أن طقوس عيد (أكيتو) بما تنطوي على دلالات فلسفية تركت بصماتها العميقة على معظم الفكر الديني والميثولوجي ليس فحسب على أقوام الشرق القديم بل مدى تأثيره على الشعوب والأقوام الغربية، ((.. لنجد حجم تأثير الثقافة وتراث (الآشوري) في ميثولوجيا الشعوب الأخرى كـ(الإغريق) و(الرومان) و(الفينيقيين) و(الآراميين) و(الحضارة اليونانية)، فانتقلت شتى (ألأساطير الآشورية) إليهم، فالإله (تموز) في (الميثولوجيا الآشورية) أصبح عند (الغريق) آلهة (ادونيس) وتحولت الإلهة (عشتار) لدى (الإغريق) إلى الإلهة ( أفروديت) والى (عشتاروت) لدى (الفينيقيين) وملكة السموات عند (اليهود) وهذا بالنسبة إلى جميع الإلهة التي كان عند (الآشوريين) والتي تم تصنيفها وفق الظواهر الطبيعية، نحو إلهة الموت.. و إلهة الأعماق السفلى.. و إلهة الفيضانات.. و إلهة العواصف.. و إلهة الغصب.. إلى أخره من أنواع الإلهة، فان الحضارات الأخرى أخذت بنفس النمط والتصنيف ولكن بتسميات تلاءم لهجاتهم ولغتهم وطبيعة مجتمعاتهم، وهكذا تم محاكاة (الميثولوجيا الآشورية) من حيث الأفكار والتفسيرات والمدلولات الفلسفية وتلبيسها بثوب حضارات تلك الشعوب؛ بل على الديانات التي تلت بعد سقوط الإمبراطورية (الآشورية – 612 ق.م ) كالديانة (اليهودية) و(المسيحية) و(الإسلامية) و(الزاردشتية) و(البوذية) و(الهندوسية ) وغيرها، وعلى سبيل المثال وليس الحصر؛ انتقلت فكرة الاحتفال بعيد ميلاد السنة الجديد عند (الآشوريين) إلى اغلب الحضارات التي احتكت بـ(الآشوريين)، فان كان (الآشوريون) قد اتخذوا من (الأول من نيسان) بداية لدخول السنة الجديدة (الآشورية) متخذين بعد مراقبتهم لظروف الطبيعية وكيفية تتجدد الطبيعة نفسها في أول ليلة (الاعتدال الربيعي) في نهاية شهر (آذار) وبداية شهر (نيسان) موعدا لدخول (العام الجديد الآشوري) فأنهم وضعوا مراسيم وطقوس خاصة للاحتفال بهذا اليوم وفق طقوس معينة؛ وكانوا يعرف باسم (عيد أكيتو) وكانت الاحتفالات تستمر لمدة أثنى عشر يوما بدءا من أول ليلة الاعتدال الربيعي في 21 آذار وينتهي في الأول من نيسان..)).
انظر إلى مقال ((الميثولوجيا الآشورية عمق تاريخي لتجذير الهوية القومية (اكيتو) وتأثيراتها على حضارات الشعوب– بقلم .. فواد الكنجي..)).
لنجد فيما بعد بان الشعوب الأخرى أخذت نفس المنحى للاحتفال بالرأس السنة، كما نجد في (بلاد فارس – إيران)، فبعد سقوط الدولة (الآشورية) على يد (كورش) الفارسي سنة ( 539 ق. م ) واحتلال (الفرس) لبلاد (ما بين النهرين) أخذت (الشعوب الإيرانية) في بلاد فارس، (الفرس) و(الكرد) و(الآذاريين) و(البشتون) وغيرهم تحتفل بعد (اكيتو) ولكن بأسماء تواكب تطلعاتهم ومعتقداتهم ولكن الخط الأساسي من احتفالاتهم ظل موازيا لخط احتفالات (الآشوريين) بعيد الربيع (اكيتو– رأس السنة الآشورية) في الأول من الربيع في نيسان، لذلك فأنهم يسمون عيد (اكيتوا) بـ(عيد نوروز) أو (نيروز) في 21 آذار يعني (اليوم الجديد )، ويعرف بـ(رأس السنة الفارسية) وهذه التسمية (نوروز) اتخذها (الكرد) فيحتفلون بهذا اليوم في 21 اذار، وهو يوم الاعتدال الربيعي (يتساوى فيه الليل والنهار) وعن (الفرس) و (الكرد) وانتقل عيد (النوروز) أو (عيد الأكيتو) إلى شعوب وأقوام ومناطق أخرى في (غرب أسيا) مثل (تركمانستان) و(طاجيكستان) و(أوزبكستان) و(قرغيزستان) و(كازاخستان) و(تركيا)، أما في بلاد (المصر) فأنهم يحتفلون بعيد (الأكيتو) باسم عيد ( شم النسيم) وكذلك يحتفل (الايزيدييون) باسم (سري صال – رأس السنة ) في الأول من شهر نيسان ويسمونه عيد ( الملك طاووس – (إله الايزيديين) وهو اله المقتبس من الإله (تموز) وكذلك يحتفل بعيد الاكيتو (الصابئة المندائيين وألمانيين – نسبة إلى نبيهم ماني) و كذلك عند (الفينيقيين) و(اليهودية) بل نجد تأثيراته وصلت إلى (بلاد الصين).
والكثير من الباحثين يعتقدون بان أصول اغلب هذه الأقوام تنحدر من أصول( سومر– واكد – وآشور) . ولما كان الأساس من احتفال (الآشوريين) بعيد (رأس السنة الآشورية في الأول من بداية الربيع في نيسان) والذي يسمى (الأكيتو)هو عيد مرتبط مفهومه أساسا بتجدد الحياة والخصب في الطبيعة؛ وكان هذا العيد يحتفل به في موعدة في الأول من نيسان ولقرون طويلة؛ كان عيدا تحتفل به اغلب شعوب المنطقة والعالم ولكن بأسماء ومواعيد مختلفة ولكن اغلبها تحتفل في شهر (نيسان) قبل أن يتحولوا الاحتفال الشعوب وأقوام العالم ببداية (العام الميلادي) الجديد في الأول من (كانون الثاني).
ومما سبق في هذا الحديث ما هو إلا دليلا واضحا عن حجم تأثير الذي تركته (الميثولوجيا الآشورية) عند الشعوب والأمم الأخرى في الشرق والغرب على سواء، لان ما جاءت به هذه الميثولوجيا؛ قد جاء تعبيرا عن ضوابط الفعل الاجتماعي.. والاقتصادي.. والسياسي.. والديني في (المجتمع الآشوري) .
طقوس الاحتفال بيوم (أكيتو)
لأهمية مضامين طقوس الاحتفال بيوم (أكيتو) في تطوير الفكر البشري وما تركته (الميثولوجيا الآشورية) من تأثير كبير في ثقافات الشعوب الأخرى؛ لابد هنا إن نقدم استعراضا ملخصا لبعض من مجريات الاحتفال بعيد (أكيتو) وبشكل موجزا؛ حيث كانت الاحتفالات بعيد رأس السنة (الآشورية – أكيتو) تقام ابتداء من أول ليلة الاعتدال الربيعي في (21 آذار ) وتستمر لغاية (الأول من نيسان ) حيث تختتم الاحتفالات بطقوس احتفالية مهيبة، وابتداء من اليوم الأول ولغاية اليوم الأخير تقام في كل يوم طقوس معينه تتخللها فعاليات ضخمة على شكل مهرجانات شعبية يشارك فيها الشعب من كافة الطبقات، حيث يواكب الجماهير المحتشدة خلف مسيرة الكهنة الذين يحملون نماذج لتمثال الآلهة، كوسيلة لتعبير عن طقوس الاحتفالات .
فأسطورة الخلق (إينوما إيليش) وتعني (عندما في الأعالي)؛ أسطورة كتبت بشكل شعري تدور حوادثها حول الإله ( مردوخ – آشور)، تتكون هذه الأسطورة الشعرية من نحو ألف بيت جاءت في سبعة ألواح؛ لا نعلم بالضبط تأريخ أول مهرجان من مهرجانات (رأس السنة الآشورية)، إلا أنه على الأرجح يعتقد بأنه كان يحتفل في بدايات (الألف الثالث قبل الميلاد)؛ استنادا إلى ما ورد في بعض المدونات (السومرية) التي عثر عليها في مكتبة (آشور بانيبال) حيث تتحدث عن كيفية التي أصبح الإله (آشور – مردوخ) أعظم كل الآلهة؛ وكانت طقوس هذه الأسطورة الملحمية تستمر اثني عشر يوما، يشارك في إحياء طقوسها كل أبناء الشعب.. والكهنة.. والملك.. وحاشيته؛ احتفاء بذكرى انتصار الإله ( آشور – مردوخ) على التنين (تيامات) صاحب الجبروت، وتخليدا لأحداث موته وقيامته من بين الأموات في اليوم الثالث، وهنا سنقدم ملخص لأسطورة الخلق (إينوما إيليش) :
(( .. في الأصل لم يكن هناك سماء ولا أرض ، فقط كان ( كاوس ) محيط الماء والكوني المجرد والركود والصمت والخواء، وإلهين قديمين بدائيين هما (أبسو) الإله الذَكَر للمياه العذبة؛ و(تيامات) الآلهة الأنثى (التنين) للمياه المالحة وحاملة أقدار الكون، ونتيجة لتزاوج هذين الإلهين فقد ولد أول زوجين من الآلهة وهما ( لخمو) و (لخامو ) اللذان ولدا ( أنشار) و(كيشار)، وهذان أنجبا الإله ( آن ) أو ( أنو ) الذي أولد الإله ( أيا ) على صورته .
يقوم الإله ( أيا ) بالقضاء على جَده الإله ( أبسو ) لأنه أراد تدمير نسل الآلِهة الشابة من أحفاده بسبب ضجيجهم الذي بدأ يزعجه وزوجته (تيامات) ، ثم من نسل ( أيا ) يولد الإله العظيم ( آشور – مردوخ)، بعدها تقوم الإلهة (تيامات) بإحداث ثورة عنيفة ضد كل الآلهة انتقاما لزوجها (أبسو)، ولأنها أساسا كان قد أغضبها وأقلق راحتها بعد غضب تلك الآلهة الشابة من أحفادها، لذا قررت القضاء عليهم لتنعم بالراحة، فتجند جيش متكون من اثني عشر الآلهة من أصل الوحوش، فيخاف الإله ( أيا ) وكذلك ( أنكي ) ويتراجعان ويرفضان خوض الصراع والحرب ضد (تيامات)؛ وهنا يبرز دور الإله الشاب (آشور – مردوخ) الذي يتطوع للحرب بغية الحصول على السلطة العليا في مجمع الآلهة .
يتسلح الإله (آشور – مردوخ) بالأقواس والسهام والمطرقة الإلهية والبرق وأعاصير المياه والرياح الأربعة؛ يجري النزال الكوني الرهيب بين (آشور – مردوخ) و(تيامات) ، وبعد عدد من المناوشات المخيفة الخطيرة والكر والفر ينتصر (آشور – مردوخ) ويقوم بتشتيت وقتل جيش التنينة (تيامات) وسجن من تبقى منهم؛ ثم يشق جسد (تيامات) نصفين كما تشق الصدفة ليخلق نظاما كونيا تكون السيادة فيه للذكر، ويصنع السماء وقبتها المرصعة بالنجوم من نصف جسد (تيامات) العلوي؛ ومن النصف الآخر يصنع الأرض؛ ثم يقوم بتنظيم عالم الآلهة والكون؛ و يتابع عمليات الخلق الأخرى، لذلك يقوم مجمع الآلهة بتتويجه الإله (آشور – مردوخ) سيدا على الآلهة السماوية وعلى الأرض؛ ويتنازل له خمسون إلهاً عن أسمائهم وصفاتهم وقدراتهم )).
ملاحظة : وقد قدم قصة أسطورة الخلق (إينوما إيليش) بعد ترجمتها كل من الباحث العراقي الدكتور( فاضل عبد الواحد علي) وكذلك قدمها الدكتور الراحل (طه باقر).
وبعد هذا الموجز سنذكر هنا بإيجاز طقوس الاحتفالات بيوم (اكيتو – رأس السنة الآشورية) والتي تستمر أثنى عشر يوما .
ففي اليوم الأول
كان مخصص لأداء طقوس الحزن وتطهير وتنظيف المعابد، وهي طقوس في غاية الأهمية وكانوا يحرصون كل الحرص على أدائها بشكل دقيق ومنظم، لأن المجتمع (الآشوري) في (بابل) و(نينوى) كان يعتقد ويؤمن أن إهمال الطهارة والنظافة أمر بالغ الخطورة وقد يفسح المجال لدخول وتسرب الكثير من العفاريت الشريرة وتسلطها على البشر والكائنات الحية، وكانت هذه الطقوس مؤشر – فيما بعد – بكون هذا التطهير إنما هو تطهير من الجراثيم والفيروسات وربما كانت هذه الطقوس فكرة بدائية أولية عن تطهير والوقاية من الجراثيم والفيروسات التي اكتشفت في العصر الحديث.
وفي اليوم الثاني
في هذا اليوم وقبل الفجر يحضر الكاهن الأعلى ( شيشكالو ) إلى معبد الإله (اشور – مردوخ) وهذا المعبد يسمى ( الإيساغيلا – البيت الشامخ) ، وبعد أن يغتسل بماء النهرين العظيمين (دجلة) و(الفرات) حيث يتم تحضير هذه المياه في آواني مسبقا لإقامة هذه الشعيرة؛ وبعدها يؤدي صلاته الخاصة أمام تمثال (اشور – مردوخ) ثم يسمح لبقية الكهنة بالدخول للقيام بواجباتهم الدينية المختلفة وتقديم الصلوات والابتهالات للإله العظيم .
في اليوم الثالث
في هذا اليوم يأتي الكثير من الحرفيين ( نجارين وحدادين وصباغين وصاغه ذهب وفضة ) لعمل تماثيل وعربات ورموز مختلفة لخدمة الاحتفالات؛ كما نفعل اليوم بالضبط في التحضير لمهرجاناتنا وكرنفالاتنا الوطنية والدينية الشعبية.
ومن خلال اليوم الأول.. والثاني.. والثالث؛ نفهم بان هذه الأيام تخصص لتطهير النفس من الخطايا حيث يقوم كاهن (الإيساغيلا) الذي هو يشرف على معبد الإله ( مردوخ – آشور) بتلاوة طقوس ذات طابع حزين و يشاركه كهنة المعبد وكذلك الشعب بهذه الترانيم التي تعبر عن خوف الإنسان من المجهول متضرعين لطلب الغفران وحماية مدن (آشور) في بلاد النهرين عبر توجه الكاهن الأكبر إلى (الإيساغيلا) في كل صباح لنقل هذه الرسالة إلى الإله (مردوخ – آشور).
في اليوم الرابع
حيث في مطلع الفجر تقام طقس على نحو الأيام السابقة لغاية المساء حيث يقرءا النص الكامل المتعلق بـ(يوم الخلق) كما ورد في ملحمة (إينوما إيليش) الذي يأتي بمعنى (عندما في العلى) وقصتها تدور حول بدء الكون وتكوين الفصول الأربع وإتحاد قوة كافة الآلهة في الإله (مردوخ – آشور) بعد انتصاره على التنين (تيامات – عشتار) وتعتبر تلاوة هذه الملحمة تحضيرا لطقوس خضوع (ملك الإمبراطورية الآشورية) أمام الإله (مردوخ – آشور)، في هذا اليوم أيضا يعلن الكاهن الأكبر (الإيساغيلا) بدء الاحتفالات الشعبية الكرنفالية الرسمية العامة، ويقوم مع جوق الممثلين والممثلات ( موميلو وموميلتو ) بقراءة أحداث قصة الخلق وتفاصيلها المؤثرة، بعدها يتسلم الملك صولجانه من الكاهن الأكبر؛ ويذهب إلى مدينة ( بورسيبا ) حيث يعيش الإله ( نابو ) أبن الإله (آشور – مردوخ)؛ حيث يقضي ليلة واحدة في (أي زيدا) وهو معبد الإله (نابو) وفي الصباح يطلب مساعدة الإله (نابو) في مهمة تحرير أبيه الإله (آشور – مردوخ) من أسره وأغلاله في عالم الظلام الكوني؛ ويدعوه للمجيء معه إلى مدينة (بابل – الآشورية) .
في اليوم الخامس
في هذا اليوم فجرا ينهض رئيس الكهنة منذ الصباح الباكر؛ ويتطهر بالماء المقدس من نهر(دجلة) و(الفرات) المحفوظ داخل المعبد، ولهذا يسمى بيوم (التكفير)، ثم يفتح أبواب المعبد لبقية الكهنة ليقوموا بتقديم وجبة الفطور لتمثالَي الإله (آشور – مردوخ) وزوجته (صربانيتوم)؛ بعد تقديم الصلوات والقرابين؛ يقوم الكهنة بحمل مشاعل ومحارق الطيب لتطييب وتطهير أجواء المعبد؛ كذلك تجري طقوس تطهير المعبد بماء (دجلة) و(الفرات)، ثم تقرع الطبول وتتعالى أصوات الكهنة في دعاء جماعي مهيب، وتوقد المجامر والمباخر وتنار أرجاء المعبد، ويقوم فريق خاص من الكهنة بمسح أبواب المعبد المقدس بزيت (السدر)، ثم يقومون بذبح شاة والطواف بها في أرجاء المعبد؛ ثم مسح جدران المعبد المقدس بدمها؛ وهو نوع من الاعتقاد يسمى ( الاستبدال أو البديل – بوخو) ويعتبر من الفروض الأساسية للتبديل؛ ويعبر عن عملية انتقال الذنوب البشرية إلى جسد الشاة المذبوحة؛ والتي سيتم فيما بعد رميها لماء النهر الجاري الذي سيجرفها ويجرف معها كل ذنوب السنة المنصرمة وما حملت من مساوئ وأوزار وخطايا وذنوب، وبعدها يصل الملك إلى مركز المدينة وبصحبته الإله (نابو)؛ حيث سيتركه عند بوابة (أُوراش) في الجانب الجنوبي الشرقي، ويتوجه لوحده إلى بوابة معبد (الشيشكالو) حيث يقوم رئيس الكهنة بنزع كل شاراتها الملكية مؤقتا وهي (التاج.. والصولجان.. والحلقة.. والسيف) داخل المعبد ينحني الملك بكل تواضع ورضا لكبير الكهنة (الشيشكالو) الذي يصفعه بقوة على خده؛ ثم يسحبه بشدة من كلتا أذنيه ويجبره على الركوع أرضا أمام مذبح الإله (آشور– مردوخ) ويقوم الملك بتقديم اعترافه أمام الإله (آشور – مردوخ) مؤكدا له أنه سيحكم الدولة والشعب (الآشوري) بكل محبة وإصلاح وعدل ومساواة وانه لم يقم بأي عمل يضر بمصالح الشعب (الآشوري) أو يغضب إلههم المحبوب (آشور – مردوخ)، وإنه قام بصيانة ودعم كل مدن (آشور)؛ وهنا يهمس الكاهن للملك:
– (( لا تقلق .. سيستجيب الإله (آشور – مردوخ) لصلواتك ويعلي ويبارك سلطانك ويسحق كل أعدائك)) .
ثم يصفعه ثانية على خده بقوة أشد من المرة الأولى، والتي من المفروض أن تسبب انهمار دموع الملك؛ وهذا يعني رضي الإله؛ ثم يعيد الكاهن الأكبر إلى الملك شاراته الملكية بعد تطهيرها بالماء المقدس.
كانت هذه الطقوس سنوية ثابتة ومهمة جدا ورمزا لتواضع الملك وتذكيره بأنه من البشر الفانين وليس من معدن الآلهة الخالدة؛ كذلك تعني تجديد سلطة الملك وتنزيهه من كل خطيئة أو نقيصة قد تقف في طريقه كملك للحق والعدالة .
وفي المساء يجلب إلى المعبد ثور أبيض يقوم الملك بذبحه بسكين التضحيات على مذبح المعبد ويرفعه كتقدمة للإله؛ حيث كان تقديم التضحيات من أهم مظاهر العبادة في (آشور) .
لنستشف من هذه المراسيم بان أعظم شخصيات التي تحكم (بلاد آشور) تخضع لسلطة للإله الأعظم – الغير المنظور – الذي عندهم كان يسمى(مردوخ او آشور) فتعيش هذه الشخصيات لحظات تواضع مع عامة الشعب في المدن (الآشورية)، متضرعين جميعا بالصلوات وطلب المغفرة من الإله (مردوخ – آشور) وبعد إن يثبت الجميع إيمانهم بسلطة الإله الغير المنظور الذي يوكل للملك حكمه وينزل الملك من بيت الإله (مردوخ – آشور) ليبقى الإله في (جبل العالم السفلي) الذي هو بمثابة برج مؤلف من سبع طوابق قائم تحت السماء لذلك يسمى (برج العالم السفلي)، وهكذا يكون الإله (مردوخ – آشور) قد دخل بيته ويفاجئ بالآلهة التي سيتعارك معها ويؤسر في هذا الجبل؛ بانتظار وصول أبنه الإله (نابو) الذي سينقذه من (العدم) ويعيد مجده.
في اليوم السادس
هذا اليوم يعبر يوم الأمل والرجاء؛ حيث كانت تبدو طلائع مواكب المدن (الآشورية) القادمة للمشاركة في الاحتفال؛ يتقدمها موكب الإله (نابو) أبن (آشور – مردوخ) وعادة كانت تفد إلى مدينة (اشور) مواكب من بقية مدن الدولة (الآشوري) يتراوح عددها بين 35 إلى 40 موكبا أهمها مدن (أوروك) و(نيبور) و(أور) و(بابل) و(أريدو) ولكل مدينة إلهها – وهي مدن الإمبراطورية (الآشورية) تقع حاليا في جنوب العراق – كذلك يقوم الإله (نابو) بزيارة إله الحرب ( ننورتا ) في معبده الخاص ويتفقان على خطة لقتال إلهين من آلهة الظلام في محاولة لتحرير والدهِ (آشور – مردوخ) ويقومان بتنفيذ الخطة فيما بعد بكل نجاح؛ وشيئا فشيئا يزداد هياج الشعب وغضبه وعنفوانَ مشاعره وقلقه وشغبه حين كانت تمر عربة الإله (اشور – مردوخ) بخيولها ولكن بلا سائق في شوارع المدينة التي تضج بالناس الذين سلبتهم قوى الشر والظلام معبودهم وإلههم (آشور)، وكانت العربة الفارغة بلا سائق ترمز لفوضى الكون قبل أن يقوم الإله (آشور) بتنظيمه .
وهنا يبدأ الشعب بالسير وراء (ملك الإمبراطورية الآشورية) باتجاه (الإيساغيلا) حيث الإله (مردوخ – آشور) أسير وهم ينشدون ترتيلا مطلعها: ((..هو ذا القادم من بعيد ليعيد المجد إلى أبينا الأسير…)).
في اليوم السابع
في هذا اليوم يقوم الإله ( نابو ) أبن الإله (آشور) بتقديم طقس معين يرمز إلى مشاركتهِ في تخليص (الإله آشور) من أسر العالم الأسفل؛ ثم يقومون بتقديم تمثيلية – افتراضية – تصور موت الإله (آشور) وانتقاله إلى السماء؛ فيخرج الناس عن بكرة أبيهم باكين منتحبين ممزقين ملابسهم وباحثين في كل الطرقات عن إلههم (آشور) وتسود الفوضى وطابع المأساة بينهم كذلك يخرج مع الشعب الكاهن الأكبر ومعه مئات الكهنة باحثين عن الإله (آشور – مردوخ) الذي خانه وجرحه الخائن ( بعل – حتيتي)، فيزداد صراخ وعويل النسوة وهنَ يشاهدن كاهنات المعبد وجوقة الممثلين المقدسة ينضمون للمأتم شعبية في الشوارع؛ وتقوم النسوة بتمزيق ملابسهن وإلقاء التراب على رؤوسهن وتجريح وجوههن بأظافرهن وهن يحرضن الشعب على إيجاد الخائن ( بعل – حتيتي ) والفتك به، أما الكهنة فيطوفون في شوارع المدينة وهم يصرخون :
– (( يجب العثور على الماء العجائب المقدس ( حالزاكو ) الذي سيعيد الحياة لإله (آشور)..)) .
وبعيدا عن تلك المشاهد؛ تقوم مجموعة من الكهنة بتنظيف تمثال الإله (آشور) وبقية تماثيل الآلِهة وإلباسهم حلة جديدة تحضيرا ليوم الغد السعيد هو يوم قيامة الإله المعظم .
في اليوم الثامن
هذا اليوم هو يوم (القيامة) حيث ويعتبر أهم أيام (الأكيتو) ففي هذا اليوم تسير موكب النصر إلى بيت (أكيتو) و(أكيتو) هو المكان الذي فيه (بيت الصلاة) حيث يجتمع هناك الشعب ويبدأ الاحتفال بانتصار الإله (مردوخ – آشور)، وهذا البيت يقع خارج سور المدينة حيث هناك توجد حديقة واسعة مرتبة بعناية فائقة لتليق بمستوى الإله الذي يعتبر واهب الحياة في الطبيعة ويعبر هذا التقليد (موكب النصر) عن مشاركة عامة الشعب بالفرحة بتجديد الحب والطاعة إلى الإلهة (مردوخ – آشور) وتدمير قوى الشر التي كانت تتحكم بالحياة منذ البدء إذ يسير موكب الكهنة وهم يحملون (الماء العجائبي المقدس) إلى باب قبر الإله (آشور – مردوخ) في معبد ( الأتيمننكي ) حيث نجد بان الكاهنة الكبرى تبكي وتنوح موت سيدها (آشور– مردوخ) وبعد أن يسقيه الكهنة الماء العجائبي المقدس تعود له الروح والحياة؛ ويخرج تمثاله من القبر إلى حيث ينتظره الكهنة والآلهة الأخرى الذين يقومون باستقباله وتهنئته بمناسبة قيامته المجيدة من بين الأموات؛ وينطلق صوت الكاهن الأكبر:
– ((أخرج يا بعل (يا سيد ) .. أن الملك بانتظارك)) .
ويأخذ (الملك (آشور) مكانه في غرفة الأقدار ( دوكو ) وتتزاحم الآلهة لتجديد ولائها له ومنحه السلطة المطلقة وترديد أسماءه الخمسين؛ وأثناء ذلك يقوم الملك تواضعا بوظيفة رئيس الحجاب؛ وكعادة الإله والملك (آشور) كل سنة يملي شروطه على مجمع الآلِهة؛ بينما جموع الشعب الصارخة خارج المبنى تحفل بعيد قيامة الإله والملك (آشور) وهم يرددون:
(( ها قد قام (آشور) العظيم من بين الأموات)) .
وبعدها تبدأ تماثيل الآلهة مع جموع الشعب مسيرتها في شوارع المدينة وتبلغ ذروة الاحتفال والصخب والبهجة قمتها حين يصل تمثال (صاربنيتوم) زوجة الملك (آشور– مردوخ) وهي تتقدم موكبها العظيم حاملة بين ذراعيها تمثالاً لطفل صغير؛ ومحاطة بمجموعة من الكهنة والكاهنات المقدسات والكل ينشد ويرقص ومن الجهة المقابلة يتقدم موكب (عشتار) إلهة الحب والجنس والحرب والمعارك والبطولات؛ واقفة على جسد أسد كبير وعلى رأسها تاج الذهب والجواهر وهي تتقلد سلاح القوس والكنانة والسهام .
في اليوم التاسع
ففي هذا اليوم يتم لـ(نابو) تحرير الإله (مردوخ – آشور) في اليوم الثالث من الأسر؛ بعد إن أغلقت الآلهة الشريرة بابا كبيرا وراء الإله (مردوخ – آشور) بعد إن تم دخوله في بيته، ويتصارع الإله (مردوخ – آشور) معها، لحين مجيء (نابو) الذي يكسر الباب وتبدأ معركة بين الفريقين ينتهي الأمر إلى انتصار الإله (نابو) وتحرير الإله (مردوخ – آشور)، فيقوم الملك بقيادة مركبة الإله (آشور– مردوخ) المصنوعة من الذهب تتبعها عربات بقية الإلهة ليخترقون شارع الموكب متجهين إلى نهر تصطحبهم فرق المغنين.. والموسيقيين.. والراقصين.. وحاملي الأعلام، وبعد الطواف على جانب النهر يسير بهم الموكب العظيم إلى الميناء النهري ليركب الجميع السفن المختلفة الأحجام والأنواع التي ستقلهم إلى بيت الاحتفالات (أكيتو)، بينما يقوم الملك (الآشوري) بدور الدليل لتمثال الإله (آشور– مردوخ) وبعد وصولهم واستقرارهم في حدائق المعبد الواسعة؛ يعطي الملك أوامره لتبدأ الفرقة المقدسة بإنشاد التراتيل الطقسية التي تتكلم عن المعبودة الرائعة (عشتار) وعن (أيا) والد (آشور– مردوخ) وغيرهم من الآلهة الكبار؛ ويكون مسك الختام بترتيله أخيرة على شكل سؤال وجواب للآلهة الوافدة من مدنها ومعابدها البعيدة؛ وسبب تركها لمعابدها وقدومها إلى مدينة (آشور) ويكون جواب الكل :
– (( لأننا نُريد أن نكون مع الإله (آشور– مردوخ) في عيده)) .
في اليوم العاشر
في هذا اليوم يقدم الملك يده للإله (آشور– مردوخ) راجيا منه النهوض معه، وكانت هذه الشعيرة بالذات من الثوابت المهمة جداً في طقس عيد (الأكيتو) السنوي وهي تعبير ورمز لإقرار ومباركة الإله (آشور– مردوخ) لشرعية حكم الملك على (بلاد آشور) لسنة أخرى؛ ويتم تمثيل مقاطع حية من ملحمة الخليقة (إينوما إيليش) ثم تقام احتفالات وعروض مسرحية درامية شهيرة لبعض الأساطير التي كان يلعب الإله (آشور– مردوخ) الدور الرئيسي فيها؛ بعدها يذهب (آشور– مردوخ) كعادته كل سنة للاقتران بعروسه (صربانيتوم – عشتار)، ففي هذا اليوم يكون الاحتفال بتجمهر الشعب بعد وصوله في موقع (أكيتو) موقع بيت الصلاة حيث يبدأ الإله (مردوخ – آشور) بالاحتفال مع آلهة العالمين العلوي والسفلي وتوضع تماثيل الآلهة حول طاولة كبيرة بشبه وليمة؛ وبعدها يعود إلى قلب المدينة للاحتفال بزواجه من الآلهة (عشتار) في السماء، حيث تتحد الأرض مع السماء ومع زواج الإلهة في (السماء) يتزوج (ملك الإمبراطورية الآشورية) على (الأرض)، فيقوم الملك بتمثيل هذا الزواج مع كبرى كاهنات (الإيساغيلا) حيث يجلسان سوية على العرش أمام الشعب ويبدآن بتبادل الأشعار الخاصة بهذه المناسبة، على أن هذا الحب هو الذي سيولد الحياة في الربيع إذ كان الجنس من ضمن الطقوس الضرورية الثابتة في ( الزواج المقدس ) المرتبط بعيد (الأكيتو) وكان ذلك يتم في مخدع الملك والإله (آشور) الخاص في قصر الملكي؛ أما المضاجعة الفعلية فكان يقوم بها سنويا الملك مع إحدى كاهنات المعبد لإتمام وضمان تلقيح وخصوبة الأرض والحياة للسنة الجديدة المباركة .
في اليوم الحادي عشر
ففي هذا اليوم تعود الآلهة برفقة سيدها الإله (مردوخ – آشور) لتجتمع في بيت الأقدار (أوبشو أوككينا) الذي اجتمعت فيه في اليوم الثامن للمرة الأولى، ولكن في هذه المرة تجتمع لتقرير مصير الشعب حيث يتم التعهد بين (الأرض) و(السماء) على أن يخدم الإنسان الآلهة حتى مماته، وبالتالي
لا تكمل سعادة الآلهة إلاّ بسعادة الإنسان الذي يخدمها؛ لذا سيكون مصير الإنسان السعادة ولكن شرط أن يخدم الآلهة، وبعد هذا العهد يصعد الإله (مردوخ – آشور) عائدا إلى بيته العلوي في السماء .
في اليوم الثاني عشر
فهو اليوم الأخير من احتفالات بيوم (أكيتو)، ففي هذا اليوم تبدل المآدب العامة الباذخة لكل من في المدينة من بشر؛ بعد إن تعود الآلهة إلى معبد سيدها الإله (مردوخ – آشور) وتعاد تماثيل الآلهة إلى المعبد وتعود الحياة اليومية إلى كل المدن (الآشورية) وتقام الاحتفالات الصاخبة على أصوات الموسيقى والغناء والرقص وتقديم النبيذ بمناسبة على أمل إن يأتي عام جديد وعيد (أكيتو) سعيد في السنة القادمة.
الميثولوجيا الآشورية ضرب من ضروب الوعي والفكر والتاريخ للأمة الآشورية
نستشف من خلال ما تقدم بان طبيعة الميثولوجيا (الحضارة الآشورية) في بلاد الرافدين بثرائها الفكري.. والأدبي.. والعلمي.. وأساطيرها المشبعة؛ مليئة بالتحليلات والتفسيرات المعمقة لشتى ظواهر الطبيعة التي كان الإنسان (الآشوري) آنذاك يراقبها ويحاول تفسيرها ليبين رؤيته المستقبلية لواقعه وطبيعة التحولات التي يمر بها؛ بكونها كانت تؤثر على حياه بهذا الشكل أو ذاك، لذلك نجد بان هذه (الميثولوجيا) كنت تحكي عن مختلف جوانب الحياة، بل وتبحث عن حياة البشر الأوائل ذات ارتباط وثيق بالطقوس ومناسك العبادة وفق تصورات متعلقة بقضايا في ما وراء الطبيعة، لتشكل هذه (الميثولوجيا) مصدرا تعليميا للقيم التي كان يتبناها أبناء المجتمع – آنذاك – بكونها كانت تشكل عندهم نوع من الخوف والخشية من عالم الإلهة، وهذه (الميثولوجيا) تركت تأثرات كبيرة سواء من الناحية اللاشعورية الجماعية أو من ناحية الإدراك العرفي للأشياء أو المآثر الأدبية، لتترك تأثيرات مهمة على الحضارات الأخرى ليؤخذ من أفكارها كل مفاهيم الفكرية.. والتصورات.. والآراء.. والحكايات.. والقصص الأسطورية التي اقترنت بالحضارات (الآشورية)؛ والتي ألفوها وسجلوها في مذكرة حضارتهم كتاريخ مؤرخ في سجلاتهم التي دونت في (الألواح الطينية) والتي اكتشفت – كما قلن سابقا – في مكتبة الملك العظيم (آشور بنيبال)، لتصبح في ما بعد من أهم مراجع التاريخ الحديث والمعاصر؛ بل ومصدرا مهما للعلوم الفلسفية ولكل تفلسف إنسان عند الحضارات الأخرى، لان (الميثولوجيا الآشورية) كانت مفعمة بالفكر الفلسفي العميق وخاصة في البحث عن قضايا تخص العقل البشري كقضايا أصل الكون.. والحياة.. والإنسان.. والأخلاق؛ لان إنسان (بلاد الرافدين) بلاد (سومر.. واكد.. وآشور)؛ كانوا مولعين بالبحت عن سر (الوجود) و(الخلود) للوصول إلى الحقيقة وماهيتها، لذلك تبلورت عندهم فكرة البحث والاستقصاء عن تفسيرات للظواهر الطبيعية التي تحصل في هذا الكون كمحاولات لفهمها وتطويرها وفق رؤيته وتصوره في تلك الحقبة؛ فحاول إيجاد تفاسير لكل الظواهر التي كانت تحيط به؛ لتصبح (الحضارة الآشورية) مركزا معرفيا مهما لعراقتها ولأصالتها المعرفية الإنسانية؛ لدرجة التي أثرت تأثيرا عميقا في الفكر كل الحضارات اللاحقة من الأمم والشعوب سواء في الشرق أو في الغرب .
لان (الميثولوجيا الآشورية) بصورة عامة انتقلت إلى حضارات وشعوب والأمم الأخرى لاحقا؛ باعتبارها قضايا تتعدى نطاق التأريخ والزمان، لنصل إلى حقيقة فحواها : أن الشعوب العالم ما بعد الحقبة (الآشورية) تأثرت ثقافاتهم بشكل كبير بمعتقدات (الحضارة الآشورية) سواء من الناحية اللاشعورية أو من ناحية الإدراك المعرفي للأشياء أو المآثر الأدبية؛ بكون (الإمبراطورية الآشورية) توسعت بشكل كبير وفرض ملوكهم السيطرة على كل اتجاهات من مركز عاصمتهم في (آشور– نينوى) شرقا.. وغربا.. وشمال.. وجنوبا؛ من مركز عاصمة الإمبراطورية، لدرجة التي كان يسمون ملكوهم بـ(ملوك الجهات الأربع)؛ وهذا يعني أن الحضارات الأخرى تأثروا بشكل مؤكد بالأساطير (الآشورية) وهذا ما جعلهم ينتحلون ويسرقون من تراث (الآشوريين) ومن قصصهم.. وحكاياتهم.. وأساطيرهم.. وعلومهم.. وعاداتهم.. وتقاليدهم .
لان (الأسطورة الآشورية) ما هي إلا قصة مقدسة حول الكون مثل قصص المواقف العظيمة في حياة الإنسان، تبحث عن نشوء الآلهة.. وبداية الكون.. وخلق الإنسان.. وعن كيفية إنقاذ البشرية وخلاصهم.. كما وتحث عن نهاية العالم.. وأساطير الجنة.. وأساطير الطوفان.. وأساطير الأبطال؛ كما انه تحاكي أحداث وقعت في زمن الأساطير، لأن (الأسطورة تُتلى خلال تشخيص درامي للأحداث المروية؛ وعبر الطقوس الدينية؛ ليصبح الإنسان المعاصر للأحداث الأسطورية يشارك الآلهة في خلق الوقائع، وهذا ما كان يؤهل الكائن البشري أن يخلق ويحافظ وينعش الحياة ويجدد خصوبتها؛ لان (الأسطورة) في هذا السياق تمثل ضربا من ضروب (الوعي) الذي يتجلى لنا قبل ظهور الدين ويستمر بعده، لان (الوعي) عند (أبناء الرافدين) بدا كـ(وعي أسطوري) يسعى لإيجاد تفسيرات لقضايا فكرية وروحية في المجتمع؛ إي انه كان نوع من أنماط (الطبيعية) و(الاجتماعية) و(الدينية) في آن واحد .
لتشكل هذه الروابط بين معطيات (الفكر الآشوري) كجزء من أيديولوجية لارتقاء الوعي المعرفي إلى مستوى المسؤولية كرؤية فكرية استمدت أصالتها في التماثل بين (الوعي) و(التاريخ)، لتكون (الميثولوجيا الآشورية) مفعمة بالدلالات الفكرية والفلسفية تركت على الحضارات الأخرى أثرا كبير؛ وهذا التأثير نستشفه من خلال طقوس واحتفالات أسطورة الخلق (اكيتوا) التي كانت تمارس قبل سبعة ألاف سنة في المدن (الآشورية) في (بلاد الرافدين – العراق) .
فان (الآشوريون) اليوم ما زالوا متمسكين بهذا الإرث التاريخي والحضاري للأمة (الآشورية) ويسعون دوما إلى إحياءه لرفع هذه الرؤية إلى حيز الصيرورة والفعل وإلى مستوى الطموح والمطالب لتشكيل مواقفهم السياسية.. والمعرفية.. والتاريخية؛ وبرؤية واضحة المعالم يعكسها (الفكر القومي الآشوري) بواقعية وبأيديولوجية متوازنة بين متطلبات الواقع والفكر، لتكون التجربة القومية للأمة (الآشورية) على طول مسارها التاريخي تجربة ثرية نابضة بالحياة مع متطلباتها وتطلعاتها وأهدافها ومضامينها الثقافية.. والسياسية.. والاجتماعية.. والنهضوية، لان تاريخ الأمة (الأشورية) هو تاريخ (الحضارة الأشورية) وهو تاريخ عريق ومشرف ومؤثر؛ وله هويته في تاريخ الحضارات؛ فان (التاريخ) هو عنصر من أهم عناصر الهوية القومية؛ إضافة إلى (اللغة) و(التراث)، لان الوعي والفكر في كل مراحل التاريخ قابل للتطور.. والنقد.. والمراجعة.. والتحليل؛ للوصول إلى تجديد الرؤية.. وتحديثها.. ومعاصرتها بأفكار العصر.. والحداثة.. والمعاصرة.. وبالتوازي مع الأوضاع السياسية وتطورها مع مفاهيم العدالة الاجتماعية.. وحقوق الإنسان.. والحريات العامة؛ بما تلبي تطلعات الإنسان (الآشوري) في الحرية وحق تقرير المصير.