قمة الدول العشرين المنعقدة مطلع الشهر الجاري في الصين ستكون مناسبة لاستنباض توجهات أكثر الدول نفوذاً في العالم ولامتحان العلاقات الشخصية ما بين قادة هذه الدول الذين يتموضع كل منهم في النظام الأمني العالمي وعينه على الآخر. نجم الشكوك والقلق في القمة سيكون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. فهو في أزمة ثقة مع الرئيسين الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين نتيجة نوعية تدخله العسكري في سورية، على رغم ترحيبهما بانضمام تركيا إلى الحرب على «داعش» بصورة فعلية.
عنفوان أردوغان وعنف نزعته السلطوية يقلقان أصحاب الأعصاب الباردة، بمن فيهم من لهم قواسم مشتركة معه عندما يتعلق الأمر بالقومية المتطرفة. فالرجل أصبح مهووساً بأولوية البقاء في السلطة في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة ضده وهو عازم على توطيد وتوسيع صلاحياته للحكم بصورة مطلقة عبر أي وسيلة متاحة أمامه. ووجد أردوغان في سورية ساحة مؤاتية لإثبات عزمه وإبراز قوته وإعادة خلط الأوراق الإقليمية والدولية. بعضهم يرى أن تصرفاته وإجراءاته تثبت أنه ينطلق من موقع الضعف وليس من موقع القوة، فيما ينبّه آخرون إلى أنه يمتلك أدوات حادة تسليحية وبشرية، وفي وسعه فرض الأمر الواقع تلو الآخر داخل سورية وفي القارة الأوروبية.
الواضح هو أن أردوغان قرر لعب كل أوراقه من دون أن يكشف جميعها في آن. استدارته السورية تربك أكثر من لاعب إقليمي وتثير شكوك موسكو وواشنطن لأسباب متضاربة. فهو ساعة ينسّق أميركياً وساعة يتمحور روسياً وساعة يتفاهم إيرانياً تحت عناوين مثل دحض تنظيم «داعش» واحتواء أخواته، ومثل قمع طموحات القومية الكردية ذات الأحلام السيادية – الجغرافية الممتدة من العراق إلى سورية ومنها إلى تركيا وإيران. نسمع يوماً أن أردوغان جاهز للتراجع عن معارضته القاطعة لبقاء الرئيس السوري بشار الأسد في الحكم للموافقة على بقائه «موقتاً» في المرحلة الانتقالية بأفق زمني مفتوح على «الموقت». ونشهد يوماً آخر عودة ميدانية لقدرات عسكرية مهمة للتنظيمات المعارضة للأسد على نسق «الجيش الحر»، بغطاء جوي تركي وبمعونة دبابات تركية. كثيرون يقعون في حيرة أمام ما يخططه أردوغان خصوصاً في سورية بعدما حوّل المعركة فيها وعليها إلى ساحة حربية تحت عنوان الأمن القومي لتركيا. بعض الدول الخليجية بدأ حائراً وانتهى غاضباً مما يفعله أردوغان في سورية بلا تنسيق ولا تشاور مع الحليف الخليجي التقليدي. القلق الروسي والإيراني من الوجود العسكري التركي في الأراضي السورية وتمكين أنقرة لمنظمات معارضة سورية ميدانياً أتى في أعقاب احتضان موسكو وطهران للاستدارة التركية في بدايتها واعتبارها انفصالاً عن المواقف الأميركية والخليجية باتجاه المحور الروسي – الإيراني – السوري. أما إدارة أوباما فإنها تجد نفسها في دهشة أمام ما أفرزته المحاولة الانقلابية الفاشلة من شخصية أردوغانية استفزازية تضرب بعرض الحائط الأولويات الأميركية المتأرجحة في سورية ومعها العلاقات الأميركية – الكردية. والكل يتساءل عما إذا كان استقواء أردوغان ظاهرة موقتة لرجل في ورطة يحفر لنفسه مستنقعاً في سورية وكذلك داخل تركيا، أم أن الرئيس التركي حدد ما هي مواقع ضعف اللاعبين كافة في سورية وقرر أن الوقت حان للاستفادة من الخاصرة الرخوة بما يضمن له سلطوية داخلية وتموضعاً إقليمياً أمنياً بامتياز.
هناك رأيان خليجيان حول ما يجب القيام به إزاء استدارة أردوغان والحيرة من أمره. رأي يقول إن من الأفضل عدم انتقاده ولجم التصادم معه والانتظار إلى حين وضوح ما ستسفر عنه سياساته المتسارعة والمثيرة للتساؤلات، وبعد ذلك يمكن استئناف العلاقات المميزة معه والتنسيق الضروري لإحياء علاقات التحالف معه، فيما يقول الرأي الآخر إن الخليج فقد الثقة بأردوغان بعد استدارته المفاجئة، وبالتالي، لا خيار أمام الخليج سوى التخلي عنه.
أردوغان يمتلك مفاتيح ممرات مهمة في السياسات الخليجية نحو اللاعبين داخل سورية وهو قادر على قطع الطريق إذا وصل انعدام الثقة إلى درجة التخلي. ولهذا السبب يقول أصحاب الرأي الأول إن المصلحة الخليجية تقتضي التأني بلا تسرّع لعل ما يقوم به أردوغان يشكل دافعاً أو خريطة طريق نحو حلحلة سياسية للمواقف الدولية والإقليمية في سورية. ويرد أصحاب الرأي الآخر بأن ما يفعله أردوغان في سورية هو عبارة عن تطويق نفسه بنفسه أميركياً وروسياً وخوض حرب لا يمكن كسبها مع الأكراد تترتب عليها تداعيات داخل تركيا. هذا إلى جانب خوضه الحرب ضد «داعش» وأمثال هذا التنظيم ممن اعتبروا أنفسهم خارج خانة العداء مع أردوغان قبل سنوات، وها هم يجدون أنفسهم في حرب مباشرة معه لعلها تؤدي إلى عمليات انتقامية أكثر داخل تركيا.
بغض النظر عن الآراء المتضاربة والمواقف المتأرجحة ما بين القيادة التركية والقيادات الدولية والإقليمية، فإن دور تركيا العسكري في سورية تطور فائق الأهمية مهما كانت نتائجه على سورية. من ناحية، أدى هذا التدخل العسكري إلى إحياء قدرات تنظيمات في المعارضة السورية كانت على وشك الاضمحلال وأعاد إدخالها لاعباً ميدانياً في ساحة الحرب السورية. والسؤال المطروح هو: هل في ذهن أردوغان إنماء قدرات هذه التنظيمات ليكون قادراً على المساومة سياسياً مع محور روسيا وإيران والنظام في دمشق؟ وهل تلك المساومة سورية الهوية بمعنى أنها تتعلق بموقع المعارضة السورية في مستقبل سورية، أم أنها مناقصة ومقايضة من أجل الأمن القومي التركي من البوابة السورية وعبر النافذة الكردية تحديداً، كما يراه أردوغان؟
قد تكون صفقة «الأكراد لأردوغان… وحلب للأسد» التي وردت في الإعلام، بناءً على اجتماعات أمنية سورية – تركية – عراقية – إيرانية بمباركة روسية، في طور الإعداد، لكنها تبدو غير مقنعة. فليس سهلاً على الرئيس التركي اتخاذ قرار التخلي عن حلب وتقديمها عربوناً في مقايضة لا تضمن له مكسباً ملموساً كذلك الذي سيكون للأسد في حلب. كل شيء وارد في سورية اليوم، إنما هناك خطر الإفراط في قراءة المقايضات. فحلب تبقى مفصلاً بالغ الأهمية وتبقى مصيرية لمستقبل اللاعبين في سورية. وعلى رغم هذا، فإن لا شيء مستبعد في سورية وسيناريواتها المدهشة.
فكما هناك مؤشرات على احتمال أن يؤدي التصعيد عسكرياً إلى تفاهمات سياسية، هناك إمكانية لأن تبقى سورية مرشحة لتكون مستنقع كل من دخل إليها لاعباً ميدانياً: روسيا وإيران وتركيا والميليشيات والنظام. لعل الولايات المتحدة تنجو من المستنقع داخل سورية وكذلك الدول الخليجية التي لعبت أدواراً عبر الحرب بالنيابة متجنبة التورط بصورة مباشرة عبر جيوش نظامية في ساحة الحرب السورية. لكن أطراف الحرب الميدانية مرشحون للمستنقع في سورية بكلفة عالية.
الأمم المتحدة مرشحة للسقوط في مستنقع أخلاقي في سورية عبر الأمانة العامة إذا ثبتت الاتهامات ضدها بمختلف أنواعها وعبر مجلس الأمن الذي يبدو جاهزاً للتقاعس في مسألة استخدام الجيش النظامي السوري و «داعش» الأسلحة الكيماوية. الولايات المتحدة تتذبذب أمام الهجوم الروسي على لجنة التحقيق الدولية التي توصلت إلى أن نظام الأسد استخدم السلاح الكيماوي في أعقاب الصفقة الأميركية – الروسية التي تباهت بتدمير ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية في العام 2013 وأدت إلى تراجع أوباما عن «الخط الأحمر» الكيماوي الشهير. بالتأكيد، لم يكن أمام موسكو ودمشق سوى التصعيد نفياً لأن الاعتراف والإقرار باستخدام الجيش السوري السلاح الكيماوي يستدعي بالضرورة إجراءات عقابية على نسق العقوبات أو المحكمة الجنائية الدولية. ويبدو أن واشنطن – حتى الآن – فضّلت القبول بالنفي عملياً لأن الإقرار يفرض عليها الإجراءات. وواشنطن لا تريد هزّ المركب في هذه المرحلة من إدارة أوباما التي تجنبت عمداً أي تورط في سورية، بل أي تصعيد، وفضّلت نمط التراجعات.
الأوروبيون يرفعون الصوت ثم يصمتون وهم يختبئون وراء التردد الأميركي والأمم المتحدة في المعية. المدن السورية تُفَرَّغ من السكان في تنظيف عرقي واضح، ولا أحد يرفع صوته من الغرب الذي زعم الفوقية الأخلاقية في مثل هذه الأمور المرفوضة قانونياً وأخلاقياً. صور أطفال سورية إما يرتجفون بحروق النابالم المحظور استخدامه أو وهم في صدمة تحجب البكاء، مرت على الضمير العالمي مروراً عابراً بلا غضب ولا إجراءات.
عندما يجتمع قادة الدول العشرين هذا الأسبوع ويلتقطون الصور التذكارية بابتساماتهم العريضة، لعل هذه الصور تبرق في عيونهم لتعيد إلى الضمير حفنة من الحيوية. هذا مستبعد للأسف. فهؤلاء القادة سيجتمعون كمجموعة وفي لقاءات ثنائية لرسم التوجهات المستقبلية في الاقتصاد والسياسة والأمن الجماعي بصفتهم يمثلون أهم الدول في العالم. ووحده خوفهم من هجرة السوريين إلى أوروبا ومن توسّع «داعش» وأمثاله في الغرب والشرق سيفرض المسألة السورية على الأجندة الجماعية والثنائية.
أردوغان هو اللاعب النجم لأن لعبته جديدة، ولذلك سيكون في قمة العشرين موضع اهتمام القادة المعنيين بإفرازات الأزمة السورية وتداعياتها عليهم، وليس بالضرورة بأبعاد المأساة السورية على سورية الممزقة بقرارات محلية وإقليمية ودولية على السواء.
نقلا عن الحياة 2- ايلول-2016ا