باقون في الفلسفة…!
قصة فلسفية بقلم: نبيل عودة
*****
خرجت سيرين وفي أعقابها مخلص للاستراحة بعد المحاضرة الأولى وهما بحالة حيرة عظيمة من قدرتهما على الاستمرار بدروس الفلسفة ضمن دراستهما الجامعية. كانا يظنان ان الفلسفة تشاطرٌ لسانيّ وثرثرة تشد المستمعين لأحاديثهما، فاذا هما أمام اصطلاحات ونظريات وتعريفات وأساليب تفكير وتحليل أخرستهما، جعلت ثرثرتهما المشهورة داخل أوساطهما العائلية انخراساً وغرقاً في التأملات والاضطرار الى “حفظ بصم” للاصطلاحات، أحياناً دون القدرة على الوصول الى معانيها الواضحة المفهومة والدقيقة. قال مخلص وكأنه يخاطب نفسه:
– أخجل ان أقول لوالدي أني أريد ان أغير موضوعي، لأنه يعتبرني فيلسوفاً من الولادة، كيف سأشرح له ان الفلسفة أكثر صعوبة من دراسة الهندسة مثلاً؟
نظرت سيرين لتعابير وجهه الحائرة وهي تمنع دموعها من الانحدار على وجنتيها:
– والدي دفعني بحماس لهذا الموضوع.. لأني حسب ظنه أنا فيلسوفة العائلة ويجب ان أصبح فيلسوفة بشهادة رسمية .. ليته يحضر محاضرة واحدة ليعرف الى أي مأزق دفعني .. مشكلتي صعبة يا مخلص .. أخاف اذا غيرت الموضوع ان يمنعني من الدراسة الجامعية ويقعدني في البيت بانتظار ابن الحلال .. الجامعة هي الفضاء الذي وجدت فيه انسانيتي .. وتحررت روحي من مخاوفها…
– ما الحل يا سيرين؟
– انا قررت قبول التحدي. الذين درسوا الفلسفة لم يكونوا أكثر ذكاء مني أو منك .. لابدّ أنهم ندموا مثلنا في البداية…
– ستبقين في الفلسفة إذن؟
– مجبرة يا مخلص، نوع من التحدي، أنا غير معتادة على الفشل.
– إذن سأظل معك.. أعني في الفلسفة ..
ابتسمت بخبث وهي تشعر بسعادة خاطفة من تلميحات مخلص، أو فلتة لسانه. مد يده نحو يدها متردداً وهما يتحركان عائدين للمحاضرة الثانية:
– هل تسمحين؟
ترددت للحظة، ربما حياء من المرة الأولى .. ثم دفعت كفة يدها الصغيرة بكفة يده الكبيرة، فضغطها بلطف جعلها تشعر بدقات قلبها تتسارع. ابتسمت وهي تشعر ان قرارهما في البقاء سوية يمدها بمعنويات جديدة، وشعور من القوة لم تعرفها منذ بدأت دراستها الجامعية قبل نصف شهر .. وتتخلى لأول مرة عن خوفها مما ستواجهه من صعوبات في دراستها.
جلسا متقاربين لأول مرة منذ تعارفا كزملاء دراسة. لم يكن من الصعب ان يلاحظ الطلاب ان تغييراً هاماً وقع خلال دقائق الاستراحة ..
دخل المحاضر وهو انسان كثير الابتسام، مليء بروح الدعابة، يملك قدرة نادرة على اختراق تفكير الطلاب ومخاوفهم وحيرتهم… كعادته تأمل الوجوه .. ونظام الجلوس، لاحظ ان تغييرا ما جرى في جلوس الطلاب فقال وهو يخرج أوراقه:
– يبدو اننا نتقدم جيداً.. كل تغيير ألاحظه في الصف يعني لي الشيء الكثير ..
– لم يوضّح قصده، لكن سيرين شعرت انه يعنيها هي ومخلص فاحمرت وجنتاها.. وابتسمت بحياء.
– اريد انتباهكم اليوم لموضوع مهم في تطوير قدراتكم الفكرية التحليلية.. لا تجفلوا من الاصطلاحات .. افهموا مضمونها كما أشرحها لكم، أشكال تفاعلها وعملها في الواقع الانساني والمجتمع والعلوم واحفظوها .. اذا فهمتم تطبيقاتها ستصبح ميسّرة لكم، تتحول إلى ميزة من تفكيركم، هذا ما يجعلكم مختلفين للأفضل عن أترابكم… وبالتأكيد تثري فكركم وقدرتكم على الملاحظة الدقيقة لما يحدث حولكم من أحداث، طروحات فكرية، تطورات وفحصها عبر المقارنة والإدراك، عبر ثروة المعارف المكتسبة .. وإقرار موقفكم الذاتي والمبرر من قبلكم بحقائق وليس بعواطف…
العلم كما تعلمون هو ميدان يبحث في مختلف جوانب الحياة بصفتها نسقاً متكاملاً، وهو أحد أهم ميادين النشاط البشري. لكن للعلم منطقه، منطق العلم… تعبيره اللاتيني “لوجيكا”. اذن اللوجيكا هي المنطق العلمي .. والمنطق العلمي يرفض أي منطق آخر لا يعتمد على المعرفة والإثبات المدرك وليس بالاعتماد على اللغو والحكايات والتخيلات مهما كان مصدرها ومهما كان تقييمها عظيماً من البعض.
لا توجد ظاهرة في الطبيعة او الحياة او العلوم أو المجتمع، او عالم السياسة .. لا تفسير لها .. قد يكون تفسيراً ناقصاً، لكن له اسسه التي تقود الى اكتمال معرفة الظاهرة.
إذًا تعالوا نتفق ان لا نتحدث عن مواضيع لا قاعدة علمية او معرفية او حسية لها. حاولوا من اليوم ان تتصرفوا كفلاسفة، لا تخضعوا لما نشأتم عليه الا بعد ان تتأكدوا من يقينكم العلمي، لأن الفلسفة هي انتصار العقل على النقل والتأويل. انتصار المعرفة المبررة على المتخيلات بكل انواعها. اتركوا الحكايات للعجائز، لا شيء يخسرونه ولا شيء جديد يكسبونه. اما أنتم فقد تخسرون عقولكم وتقدمكم نحو القمة بين أصحاب العقول الذين جعلوا من “اللوجيكا” – المنطق العلمي… مقياسا للحقيقة وقاعدة عقلية في قبول او رفض الطروحات المختلفة.
هنا انتبه المحاضر الى ظاهرة بعثت السرور في نفسه، فتوقف عن محاضرته وتوجه بحديثه الى سيرين، التي كانت ترفع يدها اليسرى وباليد الأخرى تضغط مرتبكة بعض الشيء على يد مخلص الذي حلم ان يستمر الحال لأطول وقت:
– أهلا بك سيرين في عالم الفلسفة.. هاتي ما لديك؟
– أفهم انك توجه نقداً ونفياً لما نشأنا نحن وأهلنا عليه، انت لا تعني قصص الطفولة، انما العقائد التي شكلت وعينا ومسارنا ومناهج حياتنا..؟
– ليس هذا موضوعي يا سيرين.. إيمانك بما تشائين هو قرارك الخاص. لكن ما حاولت قوله ان تجعليه مبرّراً بالعقل العلمي. اذا صدقت “خراريف” جدتك عن الجن في مصباح علاء الدين وقصص الخوارق التي كانت سحرتنا ونحن صغار ووسعت خيالنا، وجعلتيها حقائق لا يعلو اليها الشك… الآن حان الوقت لتبحثي عن تبرير علمي لها .. ما أقصده حان الوقت لتنتقلي من عالم الطفولة الساحر الى عالم العقل الأروع.
– واذا لم نجد لقصص طفولتنا وما لقنا به ونحن صغار تبريراً علمياً..؟
– تلك مشكلتك العقلية، هل خيارك ان تبقين في عقل وإدراك طفل؟ أعرف ان الانتقال من فكر التلقين والاستماع والدهشة الطفولية الى مرحلة العقل والمعرفة والإدراك عملية صعبة. للأسف مناهجنا التعليمية عاجزة عن تحضير الطلاب لمواجهتها. من حقك ان تقتنعي بما تشائين .. ان تكوني مفكرة او ان تكوني ناقلة لما لقنت به، السؤال كيف تقيّمين قناعاتك بمنظار علمي .. او معرفي، وأضيف ان قيمة الفلسفة هي القدرة على الوصول الى حقائق عبر التفكير المجرد بالاعتماد على مجموعة المعارف والقدرة على إدراك منطق الأشياء. الإنسان بطبيعته مفكر، من المستهجن ان هذه الصفة هي أول صفة تقمعها التربية في مجتمعاتنا. لذلك رجائي، لا تخافوا من التفكير والشك في كل ما يبدو ثابتاً حقيقياً وأكبر من الشك، هذه ميزة الفلسفة الجوهرية، بدونها أنتم حطابون وسقاة ماء…تعيشون على هامش الحياة!!
جلست وهي تزيد ضغطها على يد مخلص، الذي همس لها: “رائعة، انت الآن في المسار الصحيح” وكتب لها على قصاصة ورق: “لم أعد أستطيع إخفاء مسألة هامة، أحبك بكل المنطق العلمي وغير العلمي يا سيرين”.
– انتبهوا هناك.. الآن سنتقدم خطوة أخرى للأمام .. هناك ما يسمى المنطق العلمي “الانديكتيفي”. بالتأكيد كلكم قرأتم كما آمل روايات او شاهدتم أفلاماً عن المحقق الأسطوري شارلوك هولمز .. من لم يقرأ ليقرأ الآن رواياته ليفهم بشكل مبسط ماذا تعني كلمة “انديكتيفي”.
شارلوك هولمز كان يتبع ما يعرف بالطريقة الانديكتيفية في الوصول الى الحقيقة وكشف المجرمين .. وتعني هذه الطريقة دراسة المعطى الواحد وصولاً الى سائر المعطيات، البحث في تفاصيل كثيرة ومقارنتها ببعضها البعض، من أجل استخلاص القاسم المشترك بين كل المعطيات التي تجمع من ساحة الجريمة ومن تفاصيلها المختلفة، نفس الأسلوب يمكن نقله لمجال العلوم والمجتمع والثقافة وكل مناحي الحياة… بذلك الفكر الانديكتيفي برع في حلّ ألغاز الجرائم المعقدة. صحيح ان هذا من عالم الخيال القصصي ولكن نفس الطريق متبعة اليوم في أقسام الشرطة التي تحقق بالجرائم. نفس الطريقة متبعة اليوم في العلوم الطبيعية على الأخص، اذ عبر التجارب والمراقبة واستخلاص القاسم المشترك للظاهرة أو الظواهر الطبيعية، نصل الى إقرار قواعد وقوانين علمية. إذا اتبعتم نفس الطريقة في تفكيركم بالوقائع الحياتية والقناعات الموروثة او الطارئة التي تتخوف منها سيرين حتى هذه اللحظة ستصلون الى حقائق جديدة. بدون ذلك لا خبز لكم في الفلسفة .. عقلكم مصادر ولا فائدة لكم منه… اذهبوا لتكنيس الشوارع… سيرين ومخلص، الى جانب أني سعيد من أجلكما، وأرى توهج عيونكما وغياب كآبتكما أريد ان لا تفقدا إحساسكما في المكان والانتباه لموضوع بحثنا اليوم…
انفجر الضحك بين الطلاب ..
ووجد مخلص الجرأة ليطلب الكلام
– تفضل خطوة مباركة.. هل هي الغيرة من سيرين ؟.. هات ما عندك ..
– حتى أتأكد من فهمي لما تسمية علم المنطق الإنديكتيفي، تعني ان التجارب والمراقبة هي طريق لفهم ظواهر علمية.. مثلا أشجار الفواكه كلها وليس تفاحة نيوتن فقط .. دائماً ثمارها تسقط الى أسفل وليس الى الجانب او الى فوق .. من هنا يمكن ان نستنتج حقيقة علمية سبقنا اليها بثمن ضربة على الرأس العالم نيوتن .. هذه الظاهرة ساعدت على تطور العلوم .. بل وأحداث ثورة علمية باكتشاف قانون الجاذبية؟!
– ممتاز يا مخلص.. الآن يمكن تطبيق نفس اسلوب المراقبة على العديد من الظواهر .. بما فيها الظواهر الفكرية، او عالم الحيوانات والطيور وحتى عالم البشر…
واندفعت سيرين مقاطعة:
– عندي اضافة اذا سمحتم لي… اسلوب شارلوك هولمز ذكرني بمقطع من رواية عنه قرأتها قبل فترة قصيرة، تتعلق بالقدرة على فهم ما حدث من تغيير وليس الرقابة والتجارب فقط .. وأعني القدرة على تحديد الأمر الأساسي .. في الوقت الصحيح.
واستمرت دون ان تتوقف لتحصل على اذن المحاضر:
– كان هولمز يطارد مع معاونه مجرماً هارباً، في الليل نصبوا خيمة صغيرة وناموا داخلها في الخلاء. استيقظ هولمز ونظر الى النجوم والقمر .. وأيقظ معاونه، قال له:
– انظر الى السماء وقل لي ماذا ترى؟
نظر المعاون وقال بعد تفكير مقلدا أسلوب سيده شارلوك هولمز:
– أرى ملايين الكواكب، استنتج من ناحية علم الفلك، انه يوجد ملايين الكواكب السيارة ومليارات النجوم، استنتج من مستوى سواد الليل ان الساعة قريب الثالثة صباحا، استنتج من ناحية علم التنجيم ان كوكب زحل في برج الأسد اليوم. استنتج من ناحية علم الأرصاد الجوية ان اليوم سيكون جميلا ومشمسا، ومن ناحية لاهوتية استنتج ان الله هو القادر على كل شيء واننا نحن صغار وعديمي أهمية .. كيف ترى ملاحظاتي يا معلمي؟
– انت عظيم الغباء يا معاون، لم تلاحظ أهم شيء، بأننا ننظر الى السماء مباشرة لأننا بدون الخيمة التي نمنا داخلها.. مما يعني ان الخيمة سرقت ونحن نيام؟!
صفق المحاضر مبتسما وضجت القاعة بالتصفيق.
nabiloudeh@gmail.com