(هذا المقال نشر في كلنا شركاء عام 2012 وطلبت اعادة نشره بعد ان تبين ان ما ورد فيه يتحقق على ارضنا )
بعد انقلاب 8 اذار 1963 كنا في سجن المزة العسكري في المهجع العلوي وكان عددنا 60 سجيناً سياسياً
من مختلف الأحزاب والأديان والمناطق لأننا اخترنا العودة الى الديمقراطية كحامل لأي مشروع وحدوي لأن الوحدة بدون الحرية والديمقراطية تفقد قدرتها على الاشعاع ولا تصلح مشروعاً لوحدة أكبر وكنا جميعاً ضد أن يتحول الجيش الى صانع وحيد للسلطة ونريد أن تاتي السلطة من صناديق الاقتراع لا من فوهات البنادق وإنه آن الآوان أن يفهم العسكريون أن الجيش السوري ملك لسورية وسوريا ليست ملكاً للجيش وحده.
كان معنا في المهجع النائب نوفل الياس من اللاذقية وهو من اليمين السوري ولكنه لطيف المعشر وخبير في السياسة ومثقف لذلك كنا نتحلق حوله وننهال عليه بالأسئلة حول اعتقالنا وحول مستقبل سوريا وكان يجيب بصراحة ولا يتعصب .
الآن وبلدنا مهدد بالكوارث يحسن أن نستعيد بعض أقواله :
قال نوفل : (إن مخططات عديدة وضعت لسورية من جهات دولية ، الآن ونحن في السجن المخطط هوإلغاء دور سوريا في المنطقة وضبطه عن طريق اعادة الوحدة مع مصر حيث يتولى عبد الناصر ضبط دورها واخضاعها لمتطلبات السلام مع اسرائيل فإذا فشل هذا المخطط بسبب رفض أكثر العسكرين قبول هيمنة المصريين على الجيش كما حدث أثناء الوحدة عندئذ يطبق المخطط الثاني وهو إلغاء دور سوريا عن طريق وحدة ثلاثية مع العراق مهمتها إقناع عسكر سوريا بأن دور المصريين سيكون أقل فاعلية فيوافقون على الوحدة الثلاثية التي سيكون عبد الناصر مجدداً هو القائد فيها فإذا فشلت الوحدة الثلاثية فإن المستقبل هو إلغاء سورية).
قلنا كيف انتقلت من إلغاء الدور إلى إلغاء البلد؟
قال نوفل: (هناك سوابق في الإلغاء الأولى حين اقتطع الجنرال غورو من سورية الأقضية الأربعة وضمها إلى لبنان مع أن صك الإنتداب لا يخوله ذلك والثانية حين اجتاح الأتراك منطقة كليكيا واحتلوها وصمت الفرنسيون ولم يدافعوا عن الأرض التي كلفوا بالإنتداب عليها أما الثالثة فهي سلب لواء الاسكندرون بتواطؤ دولي وتم تهجير الكثير من العرب فيه).
وقال: (إن الإلغاء ممكن حين يديرون سياسة يصبح فيها الريف ضد المدينة والجيش ضد الشعب وأخيراً الإقتتال بين الطوائف والأديان والعناصر ويلي ذلك التقسيم الجغرافي على حسب تواجد هذه الطوائف والعناصر والأديان فلا يبقى من سورية غير الإسم) .
المدهش أن مخطط الوحدة مع مصر قد فشل وكذلك مخطط الوحدة الثلاثية ونحن في السجن ، ربما بدأ من ذلك الوقت المشروع الجهنمي لإلغاء سورية.
من الإنصاف الآن أن نذكر أن مرحلة حافظ الأسد أوقفت عملية الصراع على سورية بل تحولت سورية إلى لاعب مهم في المنطقة وذهبت إلى إثارة الحرب الأهلية في لبنان ودعم إرهابيات عديدة في المنطقة وصارت تخيف ولا تخاف ، مع العلم أن هذا الإمتداد السوري كان يمر بحقل من دماء السوريين والعرب معاً وعبر ديكتاتورية دموية فاشية بلا أي هامش لحرية الرأي .
بعد توريث الأسد الإبن بدأ على ما يبدو تنفيذ المخطط الثالث لإلغاء سورية بعد أن وفّرت المرحلة الظروف
لتحقيق ذلك وهي التالية :
1- الإنتقال من سياسة التعاون مع إيران إلى التحالف معها الأمر الذي اعتبرته الدول العربية معادياً لها وإدخالاً لدولة غير عربية في مصير المنطقة بالإضافة إلى إلغاء التحالف مع مصر والسعودية.
2- إقامة الدولة الإيرانية في جنوب لبنان والسيطرة عبر سلاحها على لبنان بديلاً عن الإنسحاب الذي كان شكلياً ولم يوقف التدخل في لبنان كما هو المطلوب دولياً .
3- استمرار النظام الديكتاتوري دون أي تعديل أو أي هامش لحرية الرأي وخلق ذلك حالة اختناق قابلة للإنفجار مع ازدياد عدد المعتقلين والمهجرين والمفقودين واستعمال الحل الأمني لمعالجة مطالب الناس إلى درجة الصدام المسلح بين الجيش والشعب إن لم يكن كله فأكثره .
4- إلغاء دور حزب البعث الذي كان (برداية) للحكم العسكري الذي تديره مجموعة عسكرية لا تمثل كل النسيج السوري فانكشف النظام كحكم عائلي تدعمه المجموعة العسكرية .
5- الاستيلاء المبرمج على الثروة السورية حيث أصبحت مجموعات عائلية تدير الاقتصاد منفردة وشرهة إلى درجة أدت إلى استقطاب رأسمالي بيد طغمة قليلة مرتبطة بالعائلة وتملك كل الأدوات لإقصاء الآخرين أو تحويلهم إلى إجراء .
6- القضاء على الطبقة الوسطى لصالح الرأسمالية العائلية علماً أن هذه الطبقة تمثل الإعتدال والوطنية وتدعو للحلول الوسط في الأزمات ولذلك تخلت عن هذا الدور وانضمت إلى الفقراء والمحرومين الذين يسهل على المنظمات المتطرفة اصطيادهم واستخدامهم.
7-الاستمرار في السلام مع إسرائيل وتأمين الحدود الجنوبية معها وعدم تحرير الجولان بل واعتقال كل فدائي يقوم بأي عمليات ضد إسرائيل من الحدود السورية ، والسجون امتلات بأبناء الجولان الذين حاولوا بناء تنظيم ثوري لتحرير أرضهم .
8- رفض الرئيس الأسد أي إصلاحات جدية من تبديل النظام الرئاسي إلى برلماني إلى إلغاء الأحكام العرفية إلى إطلاق سراح المعتقلين وإعادة المهجرين ومن ثم وهو الأهم ذهابه إلى ما يسمى الحل الأمني وهو قمع التظاهرات السلمية بالرصاص الحي ومن ثم بالمدافع والدبابات وثم بالطائرات ، الأمر الذي حوّل الصراع السلمي الداخلي إلى صراع يحمل كل معالم الحرب الأهلية .
9- اعتماد النظام على الطوائف وإجبارها بالإكراه والتخويف على المشاركة في وحشية النظام وذلك لتأسيس قواعد الإنفصال في نفوس أبناء هذه الطوائف تمهيداً لتحقيق تقسيم سوريا الذي إذا تم في جبل العلويين سينتقل إلى اكراد الشمال وإلى دروز الجنوب فتكون سورية قيد الإلغاء الذي تحدث عنه نوفل الياس عام 1963 في سجن المزة العسكري .
هذه هي الصورة القاتمة للوضع ولكن اعتبار المخططات الخارجية قدراً لا يقاوم يصطدم لامحالة بقوى وطنية داخلية تبعثر هذه المخططات وهذه القوى موجودة في سورية وعلى اتفاقها ننتظر مقاومة لا تقودها الطوائف ولا الأديان ولا العناصر المتطرفة بل النخبة الوطنية الواعية التي تقول بالصوت العالي للجميع قفوا كلكم عن الحرب وتعالوا إلى حوار داخلي يقوده وطنيون من النخبة لا كوفي عنان ولا الإبراهيمي ولا إيران ولا إخوان مصر ولا مجلس الأمن ولا السلطة .
نحن الذين نستطيع مع وقف استعمال السلاح استحضارالعقل لكي لا يتم تقسيم سورية ولا يتم إلغاء دورها في المنطقة وذلك بالدعوة إلى هيئة تحكيم من كبار الشخصيات الوطنية من الأحزاب والأديان والطوائف والعناصر تضع منهاجاً مرحلياً لانتقال السلطة ولكيفية إعادة هيكلية الجيش وقوى الأمن والقضاء وإعادة العمل بدستور 1950 وقانوني الأحزاب والانتخابات في ظله ودور الجيش في العمل العام بحيث لايبقى الصانع الوحيد للسلطة وهو الأمر الذي أدى إلى الصراع على سورية وإلغاء دورها ومن ثم الآن مع استخدامه للقمع سيؤدي إلى إلغاء سورية فهل نستطيع جمع هذه الشخصيات في الأردن أو قبرص قبل فوات الأوان ؟؟
الوطن أهم من الرئاسات والحكومات والأحزاب والأنظمة وهو الذي يجب أن يبقى موحداً وحراً بلا تدخل أجنبي وتفشل نبوءات الراحل نوفل الياس وستفشل .