فيصل القاسم (إعلامي سوري) الشرق القطرية : مراسلة فيصل القاسم
لعل أكثر التحديات التي تواجه دول الربيع العربي بعد الثورات هي مشكلة المصالحة الوطنية، خاصة أن الطواغيت الساقطين والمتساقطين عاشوا على مدى عقود على زرع التناقضات ودق الأسافين بين مكونات شعوبهم على الطريقة الاستعمارية “فرق تسد”. ففي الوقت الذي كان يرفع فيه القذافي مثلاً شعار “العالمية”، و”الطريق الثالث”، كان يعمل على الأرض على ضرب القبائل ببعضها البعض كي يعيش على تناحراتها وصراعاتها. وكذلك فعلت الأحزاب “القومجية” في أكثر من مكان، فكانت ترفع شعارات قومية عريضة، بينما تمارس على أرض الواقع سياسات طائفية وعشائرية ضيقة ومريضة هدفها الأساسي خلق مشاحنات بين أطياف المجتمع كي لا تتحد في وجهها، وكي تبقى متنازعة ومتشرذمة. ونظراً لذلك، فقد ساد الخصام والتناحر بين الناس بدل التسامح والوئام.
لقد زرع الطواغيت ألغاماً بين شعوبهم تماماً كما زرع المستعمر ألغاماً في مستعمراته عندما تركها، بحيث تنفجر تلك الألغام بعد رحيله. وقد شاهدنا نتائج النزاعات الحدودية والعرقية والدينية التي تلت خروج الاستعمار من بلادنا وغيرها. وكما هو واضح، فإن سياسة الطواغيت العرب كانت تهدف تماماً إلى ما كان يهدف إليه الاستعمار من قبلهم، فمن خلال زرع التناقضات القبلية والاجتماعية والطائفية بين مكونات المجتمعات كانوا يهدفون إلى جعل تلك المجتمعات مشغولة طوال الوقت أثناء فترات حكمهم بخلافاتها وضغائنها، بحيث لا تلتفت كثيراً إلى سياساتهم الشيطانية. وعندما تحاول تلك المجتمعات أن تتململ في وجه الطغاة، فعندئذ يضربون الناس بعضهم ببعض من خلال حروب ونزاعات أهلية تحرف الأنظار عن لب المشكلة وهي الثورة على الطغيان. وقد رأينا في بعض الثورات كيف يحاول الطاغية أن يصور الوضع في بلاده على أنه صراع بين مكونات الشعب وليس ثورة ضد نظام حكمه. بعبارة أخرى فإن طواغيتنا الساقطين والمتساقطين كانوا يريدون الانتقام من الشعوب ثلاث مرات، الأولى أثناء فترة حكمهم لإلهاء الناس بخلافاتهم الطائفية والعشائرية والاجتماعية، والثانية عندما تنتفض ضد أنظمة حكمهم الطغيانية، فيسلطونها على بعضها البعض، والثالثة بعد رحيلهم عن الحكم تحت ضربات الثورات، فبدل أن يلتفت الناس إلى إعادة بناء مجتمعاتها، تبدأ بالانتقام من بعضها البعض على أسس طائفية واجتماعية وقبلية.
لهذا على الشعوب، خاصة النخب المثقفة أن تنبه الجميع إلى هذه الأفخاخ الخطيرة التي يمكن أن تحول الثورات من نعمة إلى نقمة، فيما لو بدأت مكونات المجتمعات بالتقاتل فيما بينها وتصفية “ثاراتها” التي زرعها الطغاة النافقون بعد الربيع العربي. إن أول ما يجب أن تتعلمه شعوبنا بعد الثورات فضيلة التسامح والتعالي فوق الجراحات و”الثارات” وقبول الآخر مهما اختلفت معه كي تؤسس لمجتمعات ديمقراطية صحية، خاصة أن الديمقراطية لا يمكن أن تقوم في بلاد مازالت تفكر بعقلية “داحس والغبراء” ورفض الآخر لأتفه الأسباب.
لنتعلم أن الديمقراطية هي أفضل نظام يمكن اللجوء إليه لحل صراعاتنا وتسوية خلافاتنا ونبذ ضغائننا، فيما لو التزمنا بتعاليمها وشروطها. لقد أظهرت التجارب بعد الثورات أنه، وللأسف الشديد، مازال أمامنا وقت طويل كي نقبل بالآخر حتى من خلال صناديق الاقتراع، فما بالك إذا انتصر علينا على الأرض. لقد فرحنا كثيراً عندما انتهت الانتخابات الرئاسية المصرية على خير دون مواجهات بين مؤيدي محمد مرسي ومعارضيه. وقد ظننا أن الناس فعلاً جاهزة للديمقراطية والقبول بنتائجها، لكن سرعان ما خاب ظننا، عندما راح معارضو الرئيس المصري من مؤيدي النظام السابق وخصوم مرسي العقائديين يحاولون الانقلاب عليه، وعرقلة مشاريعه، رغم أنه وصل إلى السلطة من خلال انتخابات نزيهة وشفافة، وكأنهم بذلك ينتقمون منه ومن الفائزين بالانتخابات ومن مناصريه.
لقد بدا معارضو الرئيس المصري غير قادرين على ابتلاع الهزيمة، مع العلم أن الصراع كان سلمياً تماماً بين الفائزين والخاسرين، ولم تسفر الانتخابات عن نقطة دم واحدة، فما بالك عندما ينتصر طرف على طرف في الثورات والصراعات بقوة السلاح وشلالات الدماء كما هو الحال في العراق وسوريا وليبيا. فهنا تكون الكارثة. دعونا نتفق أولاً على توجيه التحية لكل الأيادي التي شاركت في إسقاط الطواغيت في بلدان الربيع العربي.
لكن في الآن ذاته، علينا أن نناشد الجميع، منتصرين ومهزومين، أن يلملموا الجروح فوراً بعد نفوق الطواغيت، ودمل خلافاتهم من أجل بناء مجتمعات جديدة نظيفة من الضغائن والأحقاد القديمة التي زرعها الساقطون. فليعلم الذين يحاولون الثأر والانتقام من أبناء جلدتهم بالقوة من الطرفين، المنتصر والمهزوم، أن ذلك لن يجلب لا السلام ولا الاستقرار لأي بلد. لاحظوا كيف ما زال العراق مهتزاً ومسرحاً للدمار بعد انتصار المعارضة المزعوم على النظام العراقي السابق، رغم مرور حوالي عشر سنوات عليه.
لماذا؟ لأن هناك طرفاً حاول اجتثاث شريكه في الوطن بعد سقوط صدام حسين، والاستئثار بالسلطة والوطن معاً، فما كان من الطرف المهزوم إلا أن ينتقم لنفسه بتحويل حياة المنتصرين المزعومين إلى جحيم مقيم، لا بل حبسهم في زريبة سياسية يسمونها “المنطقة الخضراء”.
وكي لا نذهب بعيداً في التاريخ الحديث، لاحظوا وضع ليبيا المهتز الآن والمضطرب والقلق بسبب محاولة البعض فرض إرادته على قسم آخر من أبناء جلدته بالقوة الغاشمة، لمجرد أنه انتصر عليه. لا يمكن بناء ليبيا الحديثة على أسس قذافية. ما الفرق بين النظام الساقط ومن يحاول السير على خطاه في الانتقام والإقصاء والاجتثاث؟
علينا بعد الربيع العربي أن نستوعب الجميع تحت راية الوطن، المنتصر والمهزوم معاً، وإلا ستبقى بلادنا بعد الثورات كساحة العراق، مع الاعتراف طبعاً أن النظام العراقي أسقطه الغزو الأمريكي، بمساعدة رمزية من معارضيه، بينما البقية أسقطتهم شعوبهم في ثورات شعبية.
إن أوطاناً تعيش على صفيح ساخن من الثأر والانتقام ستتصومل، وتتأفغن، وتتعرقن عاجلاً أم آجلاً. فلتدفنوا سواطيركم بعد الثورات، ولتوحدوا راياتكم، ولتستوعبوا بعضكم بعضاً كي لا يضحك عليكم الطغاة الساقطون في قبورهم وحجورهم، ويشمتوا بكم. وكما يقول أحد الحكماء: “إن كنت ستصفي كل من لا يعجبك، فلن يبقى سواك على وجه الأرض، وسيصفيك من لا تعجبه أيضاً”.