تنتشر في السنوات الاخير، في الثقافة العربية داخل اسرائيل، ظاهرة ادبية لا أظن ان لها رديف في آداب اخرى، لا أقصد ابداع نوع ادبي جديد، انما اقصد ادباء بدأوا يمارسون ما يقع مجازا تحت صيغة الادب، بعد تفرغهم وخروجهم للتقاعد، وبالأساس تقاعدهم من سلك التعليم.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا تلقائيا: هل يفعلون ذلك كنوع من التسلية؟ هل صمتهم كان خوفا من فقدان وظائفهم؟ او تقدمهم في مراتب الوظائف، فزجروا شيطان الأدب في نفوسهم وربما اقتلعوه؟ وهل ما يطرحوه اليوم من شعارات قومية فضفاضة يعبر حقا عن مشاعرهم، أم هي صحوة متأخرة بعد ان استقر امن معيشتهم؟
انا لا اقرر بالحق الانساني المشروع بان يساهم المرء بالأبداع الادبي، او المشاركة بالحياة السياسية والاجتماعية، بأي جيل كان ومتى رأى في نفسه القدرة على العطاء، الأدب والحياة الثقافية ليست احتكارا على أحد، والمساهمة بالحياة السياسية لا يتطلب اذنا من أحد، واختيار الموقف القومي والفكر القومي او اي فكر آخر يساري او ديني هو اختيار حر، والجيل ولحظة القرار في المساهمة الثقافية او السياسية هي مسألة ذاتية تفرضها ظروف الانسان ومستوى وعيه وقدراته على العطاء والبذل.
المشكلة التي تطرحها هذه الظاهرة، ليست في اكتشاف البعض لمواهبهم في هذا الجيل المتأخر، ولكن من متابعتي لما ينشرونه من كتابات مختلفة، وفي ظل واقع ادبي مأزوم لأسباب عدة، لست الآن في باب طرحها، لم أجد اية موهبة تذكر، انما اعمال فجة، وكتابات ركيكة المضمون ومهتزة الفكر، بلا رؤية ثقافية واضحة، وبلا مضمون اجتماعي بسيط، وغني عن القول انها تفتقد للعناصر الجمالية البديهية التي يفترض ان تشملها الكتابات الأدبية، وتفتقد حتى للإنشاء البسيط ، الخطاب الأدبي شبه غائب ومن الصعب الاشارة الى الخطاب التاريخي ، الا اذا اعتبرنا التلويح بالشعارات القومية الجوفاء والمفردات التراثية او السياسية ابداع بحد ذاته . الذي اعنيه بوضوح أكبر، نفتقد في اعمال اصحابنا المتقاعدين للعناصر الأساسية في الأدب، ثرثرتهم وشعاراتهم القومية التي يحشون فيها كتاباتهم، في التلخيص الأخير هي بلا اي مضمون انساني وجمالي بسيط، والتفسير الوحيد لها انهم يريدون التعويض لأنفسهم عن فترة ” الخوف السياسي “، الآن تقاعدوا وتلقوا تعويضاتهم وأصبحوا “أحرارا” في التعبير عن خلجات نفوسهم التي زجروها أثناء عملهم وزجروا طلابهم من اي تعبير عن مشاعرهم أو القيام بنشاطات يشتم منها رائحة الانتماء الوطني او الثقافي، رغم ان مساحة الحرية التي تتمتع فيها مدارسنا اليوم ، ومنذ عقدين على الاقل تفتح ابوابا واسعة للنشاطات السياسية والثقافية الوطنية داخل المدارس ، للأسف بعض “قوميي” اليوم ظلوا على خوفهم ومنعهم لأي نشاط توعيي ثقافي واليوم جاؤوا يتاجرون ببضاعتهم التي فات موعد تسويقها ،
لا اعتقد بان ادبنا ستزداد مكانته بمثل اولئك ” الأدباء”، كانوا وسيبقون هامشيين، حتى لو بلغ صراخهم القومي في كتاباتهم التافهة اعلى مراتب الزعيق والصراخ، ليس بهذا الشكل نفهم الانتماء للأرض والوطن، وليس بهذا الشكل يبدع الأدب ، حتى لو اصبحت الصفحات “الأدبية ” في صحافتنا المحلية المحروسة وقفا على ثرثرتهم العبقرية ، للأسف الصحافة اليوم تلعب دورا سلبيا في الحياة الثقافية للعرب في اسرائيل بشكل عام، حتى الصحف التي كان لها دورها الكبير في اعلاء شأن الأدب الفلسطيني للعرب في اسرائيل تتخلى عن طليعيتها ويفقد الأدب مكانته كسلاح ثقافي ساهم في صيانة وتقوية هويتنا الوطنية والثقافية ولغتنا، وصيانة ترابطنا الاجتماعي والسياسي، وهو موضوع يستحق وقفة خاصة .
بالطبع اصحابنا لا يكتبون فقط شعارات قومية، انما شعارات عشق ووله، بعد ان لم يعد ينفعهم عشقهم في الممارسة، تماما كما في السياسة.
المميز في هذه الظاهرة (غير الأدبية) هو كونها اضافة مقلقة للرداءة الأدبية، وتحويل الأبداع الأدبي الى ممارسات تسلية، ربما يعتقدون انهم يلحقون أنفسهم ويصطفون الى جانب شعبهم، لذلك صارت الشعارات القومية، شعرا ونثرا مميزا للتفاهات التي تتراكم تحت صيغة الادب أو السياسة، كما قلت صحافتنا المسكينة ملومة وتتحمل مسؤولية هذا الاسفاف وهذه الرداءة، ولكن هل توجد لدينا صحافة مسؤولة اليوم؟ وهل من صحيفة تعطي للمواد الأدبية حقها؟ ما ألاحظه هو السباق على نشر نصوص ركيكة، حتى في الصحف التي سمت محررا ادبيا لها، ام لم تفعل ذلك، الأمر سيان، اكتبوا ما تشاؤون، واياكم ان يكون مفهوما حتى لكم، وأنا اضمن ان تنشر تفاهاتكم، وأن “تشتهروا ” بسرعة البرق وقد جربت ذلك بأسماء مستعارة وفي عدة صحف.
أما “الأدباء” بعد أن طيرت العشوش فراخها، فأنصحهم بالراحة، التي قضوا زهرة عمرهم تحت خيمتها، خوفا وانكفاء، سيظلون مجرد تافهين فيما ينشرون، فلم يبق من العمر قدر ما مضى، فهل يطمعون بتجديد شبابهم بعد ان اكتشفوا ” فجأة” انهم أدباء؟
adibmaqdisi@gmail.com