تلات سنين و نص عاشت و تمثال الخوف في داخلها ما انكسر..
اختي سهى هشام الصّوفي، اليوم حطّمت هالتمثال بشحطة قلم..
تمثال الخوف
سهى الصوفي: المستقبل
لم نكن يوماً شعباً أخرس، كنا ببساطة شعباً لم يتعود أن يسمع صوته، فبيننا وبين أصواتنا علاقة خوف وعدم ثقة، الصمت كان وعلى مر أربعين عاماً هو اللغة الوحيدة المسموح لنا تداولها، إنها لغة الضاد السورية التي عشنا في ظلها عقود طويلة، فظنناها موروثاً وفضيلة، كنا نخشى على أصواتنا من مسامعنا، ومن مسامعنا على اصواتنا، ومن الحيطان وعلى الحيطان، ومن الجيران وعلى الجيران، ومن فلان وعلى علتان. كل شيء فقد القدرة على نيل ثقتنا، حتى الباطون الذي يسور حياتنا ويفصلنا عن الآخر، كان يبدو لنا في النهار رجل أمن بطقم السفاري، وفي الليل وطواطاً يحوم فوق أنفاسنا، ليسمع أو ليلتقط إشارة استفهام، أو تعجب، خرجت مع شخيرنا.
لم نستغرب صمتنا يوماً، نحن جيل السبعينات. لم يفكر أحد منا متى كانت المرة الأولى التي سمع فيها عبارة» هس…الحيطان لها آذان»، كنا جيلاً مدرباً على الصمت ولو بينه وبين نفسه. الصمت بكل أشكاله، اللفظي والكتابي، فالتحذير من الحيطان كان يماثله التحذير من أن تقع منا ورقة بالخطأ في يد أصحابنا، فيقلد خطنا ويورطنا بما لا يحسن عقباه، لهذا أصبحنا نعمل بالمثل القائل» الحيط الحيط ويا رب السترة«.
كان الخوف يمشي بالتوازي مع الصمت في حياتنا ومعيشتنا. والمفارقة أننا لم نخشَ المارد الذي اعتدنا أن نخشاه في قصص الأطفال، فخوفنا كان من سائق التاكسي، من بائع العلكة في المدرسة والجامعة، من الجالس قربنا بالصدفة في الباص او السيرفيس، من زميل المقعد، من مدربة الفتوة، من مدِّرس التربية الوطنية، وحتى من مدِّرس مادة الدين. كنا نخشى الجميع ومن دون استثناءات تمنح لأحد، كنا نخاف من كل شيء حتى من الحجر.
تماثيل الرئيس، التي كانت نعيش تحت ظلالها، كانت تكتم أنفاسنا، تحشرها في زاوية كيلا يخرج منا صوت من دون حساب. قرابين خوف مصنعة من دقات قلب الشعب الموالي بنسبة 99%، قرابين عاهدناها ألا نعتنق ديناً سواها، إنها أول الطريق المؤدي إلى النجاة وآخره، وبين الأول والآخر تكمن حياة المواطن السوري، الذي لا يريد إلا النوم وأولاده «شبعانين»، وما تبقى أشياء خارجة تماماً عن الهم السوري، لهذا كان الحديث عن الحريات أشبه بحلم الفقير بحبة «الكيوي»، فمن كان سيجرؤ أيامها على الحلم بالحلم. الأحلام لم تكن تشكل مفرقاً في حياتنا، كانت تغرد خارج السرب الحياتي اليومي الذي يسعى إلى تأمين لقمة الرزق والنوم وراء باب مغلق لا يطرقه أولاد الحرام الذين لا يحملون تصنيفاً خاص في بلاد الأب المفدى.
كنت أتفادى أيام الجامعة في اللاذقية النظر إلى تمثال حافظ الأسد الشامخ في ساحة الشيخ ضاهر، لا بل وأكاد أسمع صوت ارتباكي وأنا اجتاز الرصيف المحاذي، كان يملأني يقين بأن هناك كاميرا داخل عيون التمثال «الإله» لتسجل الطريقة التي أنظر بها إليه، فيدق قلبي بقوة، وحين كنت أحاول أن أشغل نفسي بالنظر إلى المارة أخاف أكثر، فمن المؤكد أن الكاميرا كانت تراقب تجاهلي المتعمد لتمثال سيادة الرئيس، ومن المؤكد أنها كانت تسجل نظرتي غير المستحبة إلى تمثال سيادة الرئيس، و100% كانت تسجل حركة يدي وهما تلعبان بشعري وكأنه لا يهمني المرور من أمام تمثال سيادة الرئيس. كان الخوف رفيقي في ذلك المشوار الذي استمر على مدى سنوات الجامعة الأربع، من دون أن يقل يوماً أو يحول التمثال إلى حالة مفروغ منها من التعود، ما اعتدنا عليه هو الصمت، وما حفظناه عن ظهر قلب أن السكوت طوق نجاة من يريد العيش بسلام، فحرية التعبير كانت أشبه بمفتاح مجاني للدخول في غياهب الظلام، وأنا كأي مواطن سوري» يعرف ما عليه»، بقيت قابعة في قوقعة الخوف حتى بعد موت الرئيس. فموته لم يكسر تماثيله، وغيابه لم يهدم امبراطورية الخوف التي بقينا نعيش فيها جاريات عند ورثته. بقيت أخاف التمثال رغم أني قطعت الحدود وغادرته، فالتمثال كان بداخلي لم يغادرني، بقي شامخاً ليقول لي»يعيش السوري ويموت ولسانه مربوط«.
موت حافظ الأسد لم يقتل فينا الخوف منه، رهبته بقيت مثل «التشوش» الذي يظهر في التلفزيون بعد انتهاء الإرسال أو البث. شكل غريب من أشكال الخوف، الذي يقفز مثل الجني أمامنا في الضوء قبل العتمة، لا توقيت، لا مؤشرات ولا حتى مقدمات. يكفي أن نحمل هوية سورية ليكون معنا مئة حق بامتهان الجبن والتحلي بكل صفات المهمشين القاطنين على جانب المشهد الطبيعي للمواطن العربي، فرهبة النظام بقيت كامنة داخلي حتى حين قررت الإقامة في دبي. لم أملك حين اتصلت شقيقتي من باريس لتقول لي «مات حافظ الأسد» إلا أن أغلق التلفون بوجهها، لم أتركها تنهي الجملة، بقيت صامتة كمن أصيب بالخرس، وحين عاودت الاتصال لتقول» يا مجنونة انت لست في سوريا، أنت في دبي»، أغلقت الهاتف من جديد، وهذه المرة، نزعت البطارية منه نهائياً حتى لا أضطر إلى الرد عليها للمرة الثالثة بكلمة غلط أدفع ثمنها غالياً. للمرة الألف كان الخوف ينتصر، وللمرة الألف كنت أهزم أمام الحي الميت، أو الميت الحي الذي كنت أتوقع خروجه من التابوت أثناء الصلاة عليه ليصرخ بالمصلين «أنا ما زلت حياً، مثلي لا يموت». كنت أتابع وقائع الصلاة من بيتي من دبي، جلست يومها على الأرض، قريبة من شاشة التلفزيون، خفت أن يعرف أحد من الجيران أني أتابع ذلك الحدث، فيتهمني بالشماتة معاذ الله، او السرور الضمني، والعياذ بالله، أو حتى بالفرجة من باب الفرجة، فحافظ الأسد ليس «للفرجة» يا بنت «سوريا الأسد«.
والمفارقة الغريبة أن أهلنا تعاونوا مع نظام التخويف، على مدار كل تلك السنين، فصفقوا لخوفنا، وغضبوا لعصيان لم يأخذ أكثر من دقيقة، ليخبو كشرارة في لحظتها الأولى، خفنا كثيراً، خفنا من زلة لسان، من نظرة عابرة، من تأويل خاطئ لكلمة قلناها، لبرمة وجه من غير قصد، لإبداء رأي، أجل رأي، فأسرع تعليق قد نسمعه من أهلنا إن فتحنا أفواهنا «منذ متى ولك صوت»، وإذا تمادينا بالكلام، كنا نسمع على الفور تنبيها على شكل تحذير»بهالبلد الك تم ياكل وما الك تم يحكي»، بالمختصر، كنا شعبا بلا صوت، ويا ويلنا من ظلام ليلنا لو جربنا أن نستعمل ذلك الصوت ولو وراء باب مغلق بسبعة أقفال، لهذا صفق آباؤنا لخوفنا قبل حكومتنا، وأثنوا على جبننا كونه الدليل على بقائنا احياء، وبقائهم في منأى عن أيدي «أولاد الحرام»، فتعاطينا مع الخوف كما نتعاطى مع كأس الماء، بسلاسة وبساطة. فما دمت سورياً، فمن الطبيعي أن تكون خائفاً أو «خوّيف» بلغة العوام، وما دمت سورياً فمن الطبيعي أن تعتنق الشك كوسيلة دفاعية قبل أن يشن احدهم، الذي قد يكون « أقرب الناس إليك» هجومه فتصبح في خبر كان، لهذا لم نسعَ لتبريره فيما بيننا، ولا إلى تفسير دوافعه ومسبباته. إنه مرض، والمرض ابتلاء، وعليه، فنحن شعب خائف أو «خويف» ومن سيشذ عن القاعدة فبيت خالتو بانتظاره، وبيت خالتو بالمناسبة كان كناية عن سجن تدمر، وهو مصطلح سوري بامتياز يراد به ترهيبنا إذا ما زل لساننا ذات يوم بكلمة خارج سياق الخوف. والمفارقة أنه يحق لمن يريد تذكيرنا بـ «بيت خالتي» بالحكي عن بيت خالتنا بصوت عال، فمسك العصا تحول صاحبها إلى ملك في بلد الخرسان، وألف كلمة أخرس ولا كلمة الله يرحمو .
ببساطة كان الصوت في المجتمع السوري» تابو»، قرر ذات ربيع أن يغير مساره في حناجرنا، فسقطت الشرنقة التي استلزم تمزيقها عقودا من الزمن في يوم وليلة، ليسمع السوري صوته يخرج من أقبية الخوف إلى شوارع النور. لم يكن النطق صعباً كما ظننا، ولكنه جاء متأخراً، ولم يكن الكلام كفراً كما توهمنا ولكنه كان هدماً لتماثيل العبادة. وفي النهاية لم يكن النطق انتحاراً كما أرادوه لنا، لكنه كان إعلاناً لقيامة وطن وموت المواطن، المقدر عليه ألا ينطق مادام سورياً يرزق.
() كاتبة وصحافية سورية
http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=621902