قيل لبعض الحكماء: أي شيءٍ أنفع الأشياء؟ قال: الاعتدال. قيل: وما الاعتدال؟ قال: هو الشيء الذي الزيادة فيه والنقص منه ضرر.
عنما يرسم المرء منحنيات لكافة المستويات في العراق بعد الغزو الأمريكي الإيراني كالمستوى الإقتصادي وما يتفرع عنه كإنتاج النفط والناتج الصناعي والزراعي، والتجارة الداخلية والخارجية والمستوى المعاشي ومعدلات البطالة والفقر غيرها من المؤشرات، إضافة الى المستوى الثقافي والإجتماعي والعمراني والأمني والصحي والتربوي سيجد أن كافة المنحنيات هبطت بشكل مفزع الى الحدود الدنيا. ومن جملة هذه المؤشرات المستوى الدبلوماسي الذي تضطلع به وزارة الخارجية العراقية ولجنة الشؤون الخارجية في البرلمان فقط كما يفترض! دون أن تدخل الكتل السياسية والنواب وبقية المسؤولين من خلال تصريحات متضاربة دون الرجوع إلى وزارة الخارجية بإعتبارها صاحبة الإختصاص الأول في العلاقات الدولية والأعرف بالقانون الدولي وإلأتفاقيات والصكوك الدولية.
من المؤسف جدأ ان ينحدر مستوى وزارة الخارجية الى هذا المستنقع الضحل في التعامل الدولي، وتكون أضحوكة أمام الوزارات النظيرة لها سوى العربية أو الدولية. الحقيقة إن إختار المعتوه إبراهيم الجعفري لتولي هذه الوزارة السيادية كان خيارا سيئا ولا يفسر إيجابيا بأي حال من الأحوال، ليس من المعقول أن يشغل هذا الوزير المهووس هذه الوزارة المهمة وان يدخل أسمه مع منظومة العمالقة من وزراء الخارجية منذ تأسيس الجمهورية العراقية ولغاية العدوان الغاشم، إنها فعلا مأساة دبلوماسية، سيما أنه لم يدرك بعد إنه وزير خارجية وليس رئيس حزب الدعوة عندما يعبر عن رأي الوزارة . وطالما أنه مُنح هذه الوزارة خارج منظومة المحاصصة الطائفية، كان من الأجدر أن يُسلم وزارة أو مؤسسة تتناسب مع مؤهلاته العقلية والنفسية وخبراته السابقة مثلا، مسؤول الوقف الشيعي، أو بعثات الحج وغيرها. أما أن يتسلم وزارة الخارجية وهو معتوه، وخارج السن الوظيفي، ومنفذا لأجندة ولاية الفقيه، فهذه كارثة ما بعدها كارثة في العمل الدبلوماسي.
هذا الوزير كما معروف عنه يعيش كوابيس اليقظة وهواجس الزهايمر، لذلك تجده يهذي في الكلام لحد السفسطة، ولا يوجد رابط بين كلماته والجمل الني يتفوه بها، إنه يظن إنه بعبارته غير المتزنه والبعيدة عن التدوال اللغوي، وألغاز طلاسمه المضحكة، وفوضى شعر رأسه، كأنه يريد أن يخبرنا بأنه شوبنهور العراق. إن سقطاته وشطحاته المعلوماتية معروفة للبعيد القريب، من يرى ان الحكومة العراقية الحالية حكومة ملائكية على حد وصفه، مع كل مؤشرات الفساد المحلية والدولية، ولا يعرف ان نهري دجلة والفرات ينبعان من تركيا، ويرحب بالإنفتاح على داعش، لا يمكن ان يكون سويا كإنسان عادي وليس كوزير خارجية فحسب. كان البعض يظن أن الجعفري سيعيد عروبة الوزارة بعد أن كردٌها الزيباري، فإذا به يفرسها، وكأنك يا بو زيد ما غزيت.
ربما شطحته الأخيرة خلال زيارته لإيران ولقائه نظيره الإيراني محمد جواد ظريف في 6/1/2016 وتصريحه في مؤتمر صحفي مشترك قد زاد الطين بلة، وأضاف نقطة الى رصيد فشله الدبلوماسي. فقد أكد بأن” ما أقدمت عليه المحكمة في الحكم على الشيخ نمر النمر استنكرناه ونعتبره جريمة، خصوصا ان الرجل من دعاة الإصلاح، وكان يؤكد على عدم اللجوء إلى السلاح واستخدام الأسلوب السلمي في اخذ الحقوق، وهذا نموذح يقل ان يكون المعارض يتحدث بهذه الطريقة الحضارية، أن هذه الخطوة كانت بالنسبة لنا صعقة”. وكان المتحدث الرسمي باسم الوزارة أحمد جمال وهو من الطارئين على الوزارة كوزيره، قد صرح قبله في 03/01/2016 بأن وزارة عمه الجعفري” تعرب عن استنكارها وشجبها لتنفيذ حكم الاعدام الجائر بحق العالم الشيخ نمر باقر النمر”.
في المؤتمر الصحفي نفسه يذكر الجعفري” انطلقنا بهذا التحرك بعد قرار مجلس الوزراء بضرورة التحرك لتهدئة الأجواء التي شهدت شيئا من التوتر في المنطقة، خصوصا ان لنا علاقات وطيدة مع إيران بحكم الجوار والمصالح المشتركة ولنا علاقات مع العرب كلهم”. ويكرر حديثه ” الغريب إن لا يتحرك العراق لأننا تربطنا مع إيران علاقات وثيقة بالتاريخ والجغرافية وعدالة القضية، وبنفس الوقت نرتبط مع السعودية كدولة جوار”. يلاحظ من كلامه التأكيد على أهمية إيران وسموها عن علاقات العراق مع العرب، فقد ذكر” لنا علاقات مع العرب”، و” نرتبط بالسعودية كدولة جوار” فقط! في حين ذكر عن إيران” لنا علاقات وطيدة مع إيران بحكم الجار والمصالح المشتركة” وأضاف” لأننا تربطنا مع إيران علاقات وثيقة بالتاريخ والجغرافية وعدالة القضية”. من خلال التصريح نستشف بأنه يعتبر العلاقة مع أيران أسمى من العلاقة مع الدول العربية كافة، وهي نظرة طائفية ضيقة تعبر عن الإنحياز التام لإيران، سيما بعد أن إعتبرها ” دولة مسالمة” في حين العالم كله يرى إنها” راعية للإرهاب”! إن كان هذه موقف الوزير من المسألة وقد عبر بوضوح عن موقفه غير المحايد، فكيف يقوم بوساطة بين البلدين في مثل هذا الجو السياسي المتوتر؟ وكيف ستقبل المملكة العربية السعودية بوساطته وهو منحاز الى الطرف الذي يعاديها؟
إنها مبادرة تحمل فشلها بين طياتها، وغير مقبولة في العلاقات الدولية. الوسيط لابد ان يتصف بالحياد بين الطرفين المتنازعين لكي تقبل وساطته، وإلا أن يعتكف في وزارته ولا يطرح مبادرات تجعله في موقف السخرية والعبث! على العكس من هذا الموقف المنحاز كان موقف تحالف القوى العراقية والوطنية والكابينة الوزارية، التي أكدت على عن اهمية بناء علاقات متوازنة مع دول الجوار تقوم على اساس عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول الاخرى، فيما لفتت الى ان الدستور العراقي منع التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاجنبية حسب ما نصت عليه المادة الثامنة من الدستور.
العجيب ان الجعفري بعد مخالفته الدستورية الصارخة يصرح” نحن لا نتدخل بشؤون احد، ولكن عندما يكون من طبقة العلماء لا يمكن إن نقف مكتوفي الأيدي”. لا نفهم ما علاقة وزارة الخارجية برجل دين سعودي الجنسية يخضع لقوانين بلده؟ هل من إختصاص وزارة الخارجية العلاقات الدولية مع رجال الدين الشيعة؟ هل أفتتح قسم جديد في دائرة شؤون الدول المجاورة بإسم ( قسم العلاقات الشيعية)؟ هل صارت وزارة الخارجية تابعا لوزارة الأوقاف/ الوقف الشيعي؟ حتى هذه الوزارة لا حق لها في التدخل بشؤون دولة أخرى حسب النص الدستوري!
هناك الكثير من التساؤلات التي يمكن الوقوف عندها، منها على سبيل المثال:
ـ لماذا لم تستفيد الخارجية العراقية من الاخطاء السابقة في تعاملها مع الاشقاء العرب، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر موقفها من المعارض البحريني (علي السلمان) والذي بسببه توترت العلاقات بين الدولتين وما زالت. وكذلك الموقف مع الشيخ المصري حسن شحاته. اليس الغبي من عثر بحجرة واحدة مرتين؟ والأكثر غباءا من عثر اكثر من مرتين بنفس الحجرة.
ـ معظم المواقف التي تتخذها وزارة الخارجية العراقية هي محاكاة لموقف ولاية الفقيه سيما في علاقتها مع الدول العربية كالسعودية والبحرين وسوريا، حتى صارت أشبه بالببغاء، يردد الجعفري كلام ظريف بحرفيته. هل صارت وزارة الخارجية تابعة للنظام الإيراني وتدار من قبله؟ من لا يتفق معنا بهذا الصدد، ليقدم لنا موقفا واحدا للخارجية العراقية تعارض مع الموقف الإيراني. العجيب أن لا تسمع صدى تصريحات ولاية الفقية سوى في دويلات العبادي وحسن نصر الله وبشار الأسد والحوثي! هل العالم كله على باطل، وهذه الدويلات على حقّ؟
ـ هل الوزارة تعمل بالتنسيق مع لجنة البرلمان الخارجية؟ ام لا علاقة بين الطرفين، فموقف شيعة السلطة يتعارض مع موقف سنة السلطة في مجلس النواب، وهذا أمر يثير السخرية! لابد ان يكون هناك موقفا برلمانيا موحدا، او لا يصدر أي تصريح من النواب، عليهم أن يكرموتنا بسكوتهم، ويكبتوا سخافاتهم. قال إبراهيم بن المهدي:
ولئن ندمت على سكوتك مرة … فلقد ندمت على الكلام مرارا
ـ هل يعرف وزير الخارجية نصوص الدستور العراقي ام لا؟ ان عرف! لماذا يخالف المادة الثامنه منه، التي لا تسمح بالتدخل في الشؤون الداخلية لبقية الدول. وان لم يعرف! فأية كارثة هذا الوزير.
ـ هل يرجع وزير الخارجية الى مستشاريه عندما يطلق تصريحا ما؟ سيما انه جاهل بالعلاقات الدبلوماسية والقانون الدولي واتفاقيات فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية وبقية الصكوك الدولية؟ او انه ينطلق في تصريحاته من هووسه؟ من المعروف ان الموقف الحكومي لرئيس الوزراء أو الجمهورية يستند إلى توصية وزارة الخارجية، من ثم يناقش في مجلس الوزراء قبل الإعلان عنه رسميا. وقبلها يقوم وزير الخارجية بمناقشة الموضوع مع رئيس الدائرة والقسم المختص ويأخذ خلاصة وافية عن المشكلة، قبل أن يقدم مشورته إلى رئيس الوزراء. وغالبا ما تكون مناقشة الموضوع في الكابينة الوزارية بحضور وزير الخارجية. كان هذا الأسلوب هو المتبع في وزارة الخارجية قبل الغزو، وهو أسلوب أثبت نجاح منقطع النظير. فقد أشار أحد السفراء، بأن تسلسل المناقشة في وزارة الخارجية في فترة الأستاذ الفاضل محمد كاظم سعيد الصحاف، يبدأ من رئيس القسم المختص ـ رئيس الدائرة المختصة ـ المكتب الإستشاري للوزير ـ وكيل الوزارة المختص ـ الوزير ـ غرفة العمليات السياسية (برئاسة الأستاذ الراحل طارق عزيز وعضوية الأستاذ الصحاف وبعض الوزراء أصحاب العلاقة المباشر بالموضوع المطروح) ـ رئاسة الجموهورية. والرئاسة هي التي تقرر قبول، أو رفض التوصية، أو تعديلها (إضافة أو حذف)، وهكذا يتخذ القرار السياسي ويكون صائبا جدا!
ـ تحدث الوزير الجعفري عن جانب واحد في مؤتمره الصحفي مع نظيره الإيراني، وهو إعدام النمر، لكنه تغافل عن موضوع لا يقل أهمية عنه، بل هو في صلب إختصاصه الدبلوماسي، سيما إنه يتعلق بالعلاقات الدولية وإتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية، ونقصد به تأمين سلامة البعثات والقنصليات في الدولة المضيفة. لم يذكر الجعفري شيئا عن قيام الغوغاء بإشراف الحرس الثوري الإيراني بسلب وحرق السفارة والقنصلية السعودية! في الوقت الذي كرمت المملكة السفير والدبلوماسيين الإيرانيين بهدايا قبل ترحيلهم لبلدهم كأشخاص غير مرغوب بهم، وهو تقليد راقِ وفي قمة التعامل الدبلوماسي المرن.
أما الفاجعة الدبلوماسية الأخرى فهي ترحيب الرئيس الأمريكي أوباما بمبادرة الجعفري للوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران! الحقيقة لا نعرف أن كان يمزح في هذا الأمر! أم كان جديا.
علي الكاش