استسهال تحميل الآخر مسؤولية أمراضنا، وتأجيل مساءلة تراثنا وتاريخنا، جناية مزدوجة؛ أولا لأنها تطيل عمر المرض في الجسم العربي الإسلامي، وثانيا لأنها تؤكد ضلوعنا ومشاركتنا في الإرهاب باعتبارنا لم نجرؤ على النظر في المرآة.
العرب عبدالجليل معالي [نُشر في 24/03/2016، العدد: 10224، ص(8)]
العملية التي طالت مطار “زافينتيم” في بروكسل ومحطة “ميلبيك” لقطار الأنفاق في العاصمة البلجيكية، كانت تأكيدا على أن أوروبا، بمختلف أقطارها بما في ذلك بلجيكا عاصمة الاتحاد الأوروبي، تقع في قلب اهتمامات الفعل الإرهابي، سواء بمنطلق “العقوبة” أو بمنطلقات وتسويغات “جهادية” أخرى (وهي كثيرة في الأدبيات الجهادية).
العملية، مثل سابقاتها، تطرح أسئلة تتجاوز اختبار الاحتياطات الأمنية، وتخرج من بحث الأسباب الداعية إلى أن تقدم مجموعة على تنفيذ عملية بهذه الشاكلة وفي هذا التوقيت، وفي تلك الميادين.
العملية تطرح، أيضا وأساسا، النظر الإسلاموي لأرض أوروبا. وهي نظرة طالما شقها التباس حاد أو مفارقات كثيفة؛ بين القوانين الأوروبية التي تتيح للبلدان الأوروبية استقبال عناصر ومجموعات إسلامية، هاربة من أقطارها، من الاستبداد أو من غياب التنمية أو منهما معا، وبين نظرة هؤلاء إلى أوروبا بقوانينها وتشريعاتها وعلمانياتها (الجمع هنا مقصود بالنظر لاختلاف العلمانيات الأوروبية) ثم تحولها إلى “أرض جهاد”.
جدير بالتذكير في هذا الصدد، أن قراءات عربية إسلامية كثيرة للحدث البلجيكي، استسهلت الركون إلى تصوير الحدث ودواعيه، على أن أوروبا تجني ما زرعته في بلاد المسلمين، أي أن أوروبا والغرب عموما، من صنع داعش والإرهاب، وبذلك يقع الغرب في الجب الذي حفره للعرب المسلمين. هذه القراءات، وفضلا عن كونها قراءات تنطلق من كسل فكري وسياسي خطير، إلا أنها أيضا تعفي المسلمين من تحمل المسؤولية التاريخية في إنتاج الإرهاب والتطرف الديني. العقل الذرائعي الذي دأب على البحث عن أسباب الظاهرة عند الآخر وإهمال المعطيات الفكرية والدينية والتاريخية المحلية، هو ذات العقل الذي يعجز عن تقديم حلول ناجعة للظاهرة، لأنه أهمل الأسباب المحلية وركز على العوامل المساهمة وأدار ظهره للعوامل المحددة.
الربط بين المفارقة الأولى والبعد الثاني، يحيـل إلى مـلاحظات كثيرة أولها أن الجمـاعات والعنـاصر الإسلامية التي استظلـت طويلا بظلال العلمـانية الأوروبية وعاشت في حمايتها (قوانين اللجوء والمواطنة وغيـرها) سـرعان مـا أبـدت “كفرها” بالعلمانية حال عودتها إلى الديار. وهو أيضا دليل على أنها تستفيد من العلمانية في أوروبا وترفضها في أرض الإسلام.
الملاحظة الثانية أن تواتر العمليات الإرهابية في أوروبا (عمليات مدريد ولندن وباريس وبروكسل وغيرها) وعلى اختلاف الجهات المنفذة (سواء القاعدة أو داعش أو حتى “كتائب أبوحفص المصري لواء أوروبا” المجموعة التي تبنت اعتداءات مدريد مارس 2004 واعتداءات إسطنبول في نوفمبر 2003) يعكس تشابها كبيرا في التنفيذ وفي الأهداف المستهدفة (محطات قطار ومطارات وأماكن عامة).
تشابه طرق التنفيذ والأهداف المستهدفة، يعني أن المجموعات المنفذة تبحث عن إشاعة القدر الأكبر من الذعر، وتلخص أيضا أن نظرة التيارات لأوروبا لم تتغير رغم تفاوت نسق وحجم العمليات بين فترة وأخرى. عالم الاجتماع الفرنسي جيل كيبيل، مؤلف كتاب “إرهابيو الجيل الثالث” تحدث عن “مخطط تيارات الجهادية السلفية لتدمير أوروبا” وقال إن الجيل الثالث من التيارات الجهادية استلهم أفكاره من كتابات أبومصعب السوري، صاحب كتاب “أهل السنة في الشام في مواجهة النصيرية والصليبية واليهود”، والذي دعا الشباب إلى تنفيذ الهجمات في البلدان الأوروبية ضد “الكفار” وفي أماكن تواجد اليهود أو “أعداء الإسلام”.
جنسيات منفذي العمليات الإرهابية قد تصبح مسألة ثانوية مقارنة بالأرضية الفكرية التي ينطلق منها هؤلاء، حيث يعمد البعض إلى تداول أرقام ودراسات تبحث عن تأكيد أن منفذي العمليات الإرهابية في أوروبا، ينحدر أغلبهم من جنسيات أوروبية، ممن تأثروا بالدعايات الجهادية، وهذا أمر يستنسخ السهولة الفكرية التي أشرنا إليها، لكنه أيضا لا يحجب أهمية المنطلق الفكري.
يكفي تأمل بيانات تنظيم داعش، وخاصة البيان الذي تلا عملية باريس (في 13 نوفمبر 2015) لتبين أن التنظيم يستخدمُ في الإشارة إلى فرنسا مصطلحات “حاملة لواء الصليبية” أكثر من مرة، و”يعاقبها” لقيادتها للعالم المسيحي ضد العالم الإسلامي أثناء الحرب الصليبية وحتى بعدها (إشارة إلى الضلوع الفرنسي في مالي وغيرها). وكانت عملية باريس حسب بيان داعش “هي بداية الغيث في أوروبا، وإنذار لمن حارب الله ورسوله” تأكيدا على تحول الإرهاب إلى فعل عابر للحدود لا توجد دولة معفاة من مفاعيله.
من الضروري الإشارة إلى أن التطرف الديني (اليهودي أو المسيحي أو الإسلامي) هو عملية مركبة تنتج بالضرورة من اتكاء السياسة على الدين وتحويل الدين إلى مسوغ “شرعي” للفعل السياسي، وهي إشارة لا تنسحب فقط على الفضاء العربي الإسلامي إنما يمكن أن تنتج وبالا حتميا في أي حيز يظهر فيه. كاخ اليهودية أو داعش الإسلامية أو جيش الرب المسيحي، كلها تعبيرات مختلفة عن تركيبة واحدة. أوروبا التي اعترفت بأن الحروب الصليبية كانت مرحلة كالحة السواد من تاريخها، واستعاضت عن ذلك بقوانين مدنية وأبعدت الدين عن المجال السياسي (باستثناء التيـارات اليمينية الممجوجة حتى في الفضاء الأوروبي) وجـاء الاعتـراف مـن جهات دينية وسياسية وفكرية عديدة، لم تنجُ بعد من مآلات تلك المرحلة التاريخية لكن حسب الرؤية الداعشية هذه المرة. وهذا ما يفترض أن نُخضع تاريخنا وتراثنا إلى عملية مساءلة مرة ومريرة لكنها ضرورية. مساءلة تبدأ من بحث المنطلقات الفكرية والفقهية التي يتخـذها الإرهـاب مسوغا لفعله وتأصيلا لـ”جهاده”.
فالملاحظ أن التيارات الجهادية، وعلى اختلاف أسمائها ومراحل نشأتها وظهورها، تتفق في نهلها من مناهل واحدة؛ القراءات الفقهية التي تقسم العالم إلى دار إسلام ودار كفر، والأدبيات الجهادية التي تزعم “أستاذية العالم” وتستحضر مقولات “الكفرة والمرتدين والقاعدين عن الجهاد…” وكتب إدارة التوحش لأبي بكر ناجي والفريضة الغائبة لعبدالسلام فرج وفرسان تحت راية النبي للظواهري وغيرها.
تراث ابن تيمية الذي كان منطلقا وركيزة لأغلب التيارات الجهادية اليوم، وفتاواه المكتظة بمفاهيم التكفير والقتل والردة والزندقة والاستتابة وإباحة الدماء، مازالت سارية المفعول وما لم نحسم معها فكريا وتاريخيا ودينيا، فإنها ستواصل مد الإرهاب بمنطلقاته.
استسهال تحميل الآخر مسؤولية أمراضنا، وتأجيل مساءلة تراثنا وتاريخنا، جناية مزدوجة؛ أولا لأنها تطيل عمر المرض في الجسم العربي الإسلامي، وثانيا لأنها تؤكد ضلوعنا ومشاركتنا في الإرهاب باعتبارنا لم نجرؤ على النظر في المرآة.
ابن تيمية، هو من فجر مطار بروكسل.
صحافي تونسي