قرر الأردن مطلع الشهر الحالي منع نشر وبيع كتب محيي الدين أحمد ابن تيمية في خطوة قيل إنها ترمي إلى تطويق التطرف. يحمل هذا الإجراء على تساؤلات كثيرة، أبسطها عن معنى حظر كتاب في زمن ثورة الاتصالات والفضاء المفتوح، وصولاً إلى الدور الحقيقي الذي يؤديه ابن تيمية أو أي متهم آخر بحمل الفكر المتطرف في ما يجري اليوم حولنا.
غير واضحة، بهذا المعنى، صورة العصر في أذهان المسؤولين الذين قرروا منع كتب ابن تيمية. وغير واضحة أكثر الطريقة التي يعتقدون أن الإرهاب والتطرف ينتشران بها.
تبدو حادثة المنع نموذجية في دلالاتها على تنوع المشكلات التي يواجهها العرب اليوم. ثمة خوف عميق من وباء مجهول الأسباب يتفشى، من دون قدرة على وقفه عند حد أو التغلب عليه أو علاجه. يدفع الخوف هذا إلى اتخاذ تدابير غير مبررة تشير إلى العجز أكثر مما تشير إلى الفعل والقدرة.
من جهة ثانية، يُبرز الخوف ارتباكاً عميقاً في التعامل مع الماضي، البعيد والقريب، ومع شخصياته وأفكارها وكتبها وسلوكها، ويحيلها إلى أشباح لا تنفع في درء شرورها إلا تعاويذ سحرة الجمارك وقرارات المنع والمصادرة.
ينشأ الرعب من ابن تيمية من تبنٍ راسخ لتفسير معاكس للواقع. قد يكون منطق السلطات التي حظرت الكتب أقرب إلى الاعتقاد أن الإرهاب ظهر بعدما فتشت مجموعة من القراء بين الكتب القديمة واكتشفت فتاوى ابن تيمية وقررت أن تخرج على السلطات وعلى الناس شاهرة سيوفها ساعية إلى ضرب أعناق الخلق.
يصح وصف هذه النظرة بـ «الثقافوية» التي تعزل الآراء والأفكار وأوانيها من كتب وما شاكل، عن سياقاتها الاجتماعية والسياسية والتاريخية. فينقلب ابن تيمية معضلة تستحق أن يدور النقاش حول أثرها على الشبان وكيف ينبغي منع وصول كتاباته إلى الناشئة لئلا تغرر بهم.
الأمر ذاته حصل قبل عقود مع مؤلفين آخرين وكتب أخرى. منذ الأربعينات طاردت السلطات الكتابات الشيوعية والاشتراكية بذريعة أنها تحض على الإلحاد وتنشر الفساد في الأرض وتحرض على العصيان والتمرد. ظلت مؤلفات اليساريين تتعرض للتضييق والمنع حتى انهيار الاتحاد السوفياتي وتبخر النموذج الذي كان أولي السلطان يعتقدون أن الكتابات اليسارية تتخذه قدوة له ونبراساً. المهم أن الأعوام القليلة التي أعقبت نهاية «الخطر الشيوعي» بيّنت أن إيماناً مجهولاً قد يكون أخطر من إلحاد معلوم.
تبوأ الإسلام الجهادي مقعـــده في الحيـــاة الــــعامة وباشر نشــاطاتــه في مهاجمة رموز السلطة فامـــتد من مصر إلى الــجزائر إلى دول الخــليج وإلى خارج المنطقة العربية، بحــيث كان عقد التســعينات عقــد الجهاديين الغاضبين الـــذين ما إن تخــتفي موجة منهم حتى تطل موجة أعنف وأشرس.
لكن كل هذا لا تفسره أدبيات وكتــــب ابن تيمية ولا سيد قطب ولا ابن قيم الجوزية ولا أي «متشدد» أفتى بقتل أو حرق أو بتكفير فرد أو ملة أو مجتمع. يجب النظر في أماكن خارج الكتب. إلى الشوارع التي تضم المكتبات وأناسها وأوضاعهم والبؤس الذي يتجرعونه من دون أمل بغدٍ أقل فدحاً.
تفكك المجتمعات العربية وانهيارها وافتضاح أكذوبة الدولة الوطنية هي ما أتى بالعنف كوسيلة تعبير وتغيير في آن. وليس أكثر مخادعة للنفس وللآخرين من القول إن «داعش» و «النصرة» و «أنصار الله» وما يدخل في باب التدين المسلح، عملوا على تفتيت الدولة والسلطة والمجتمعات. وما من فائدة ترتجى من الغرق في نقاش مشابه لذاك المتعلق بأسبقية البيضة أو الدجاجة. لقد انهارت مشاريع المجتمعات العربية، خصوصاً في المشرق، قبل أن تتحول إلى مجتمعات متماسكة، وأن تحل مشكلات الهويات والانتماءات ما دون الدولتية، وكارثة العلاقات بين الأقليات والأكثريات التي تفاقمت إلى أن أفرزت جمهوريات الطوائف المعصومة. وانهارت هذه المجتمعات بفعل تهميش مزدوج فرضه، من ناحية سياسية، إقصاء العنف الدموي الذي تم توسله كسبيل وحيد للإمساك بالسلطة، ومن ناحية اقتصادية، عولمة لا ترحم نقلها إلينا طفيليو سلطات الاستبداد.
أين موقع ابن تيمية في هذه اللوحة؟ من الذي استعاده من القرن الثالث عشر الميلادي؟
لا مفر من القول إن ساذجاً من يعتقد أن فتاوى رجل مات قبل أكثر من سبعمئة سنة تساهم في رسم صورة الحاضر العربي. صحيح أنه كان معادياً للأقليات (بمصطلحات اليوم) ولأهل الذمة والكتابيين، وأنه كان مفرطاً في تشدده، لكن الأصح أنه لم يخرج مطلقاً عن أمر السلطة حتى عندما زُجّ به في السجن في الاسكندرية ودمشق. فقه الخروج والتمرد لا ينتمي إلى تلك المرحلة، بل هو ابن البيئة التي أجهضت الثورات العربية، ذلك الأمل الذاوي – والأخير ربما هذا القرن – بالانخراط في العصر.
لكن ما العمل وقد أثخنت الوعي جراح التفكير السحري والهويات الصغرى والبحث الدائم عمن نلقي عليه تبعات فشلنا، من الامبريالية إلى ابن تيمية؟