كنا نعتقد أن «جحا» شخصية وهمية، نوادرها لإضحاكنا ولإعطائنا العبرة ومنها «كذب جحا وصدق كذبته»، فإذا بجحا يتجسد بمحمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني الذي وجد أو وجدت فيه صحيفة «نيويورك تايمز» شريكًا مناسبًا للحملة على المملكة العربية السعودية. إذ في مقاله في 13 من الحالي دعا ظريف العالم إلى اعتماد مبادرة رئيسه حسن روحاني «عالم ضد التطرف العنيف» واسترسل بأن «الحقائق الجديدة تستطيع استيعاب السعوديين إذا تغيروا»! طبعًا لم يتكلم ظريف عن الإرهاب الإيراني الذي هو من طبيعة النظام كما أنه لم يكن يتوقع اعترافًا علنيًا يوم الأحد الماضي من المرشد الأعلى علي خامنئي بتدخل إيران في كل من سوريا والعراق ولبنان واليمن، وبأن الأميركيين «يشددون على أن نتفاوض معهم حول ذلك».
ما تجاوزه ظريف واعتقد أن العالم لن يعرف، كان استراتيجية إيران في التعامل مع قادة ميليشيات ترعاهم وتمولهم داخل الدول العربية. والنجم الجديد هو العراقي الشيخ أكرم الكعبي قائد الميليشيا العراقية «حركة النجباء».
رمى الكعبي بعروبته على عتبة إيران قبل أن يدخلها. صحيح أن المرشد خامنئي ليس بالإمبراطور نابوليون الذي كان يرفض مصافحة العملاء، لكن خامنئي رفض استقبال الكعبي. في أواخر الشهر الماضي قام الكعبي بزيارة «رفيعة المستوى» إلى إيران دامت أسبوعًا فحار على أي قارعة طريق إيرانية يرمي العراق. لكن يجب الاعتراف أن الدعاية التي أحاطت به لم يسبق لها مثيل مما يدل على تصاعد نفوذ رجال الدين العراقيين لدى النخبة السياسية في إيران. وهناك وبكل جرأة أعلن ولاءه للزعيم الإيراني خامنئي ولمفهوم «ولاية الفقيه» بقيادة خامنئي الذي وصفه الكعبي بأنه «نعمة إلهية» للعراق!
كرر الكعبي هذا عدة مرات خلال زيارته، وتعهد بأن قوات الحشد الشعبي – مظلة الميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران في العراق – ستشارك في العملية المتوقعة لمحاصرة الموصل. كما كرر مرات كثيرة شكره لطهران على دعمها الكامل لـ«حركة النجباء»، وشدد على ضرورة استمرار «الدور الاستشاري» لقائد فيلق القدس قاسم سليماني، كما دافع عن حضور سليماني في العراق الذي يأتي «وفقًا لطلب الحكومة المركزية»، وأعلن بفخر علاقاته الوثيقة بإيران.
المعروف أن شيعة العراق والنجف بالذات يعارضون ولاية الفقيه، لهذا فإن الشبكات الشيعية التي تسيطر عليها إيران في العراق تهدف إلى الهيمنة بعد هزيمة «داعش». وترتبط هذه الشبكات بالشبكة العالمية التي تديرها إيران وتوفر لهذه الشبكات الحصول على الموارد الإيرانية، لذلك فإن زعماء هذه الشبكات سيعملون بصبر لتوطيد وتوسيع نفوذهم في العراق، فينعكس ذلك توسعًا للنفوذ الإيراني في بلاد الرافدين.
أنشأ فيلق القدس الإيراني «حركة النجباء» التي مددت أنشطتها العام الماضي إلى سوريا، فكانت أكبر ميليشيا شيعية عراقية تقاتل في سوريا. وفي الشهر الماضي بث الإعلام الإيراني خبر انتشار 2000 مقاتل من الحركة، ومن مقاتلي «حزب الله» اللبناني في حلب لصد محاولات المعارضة السورية فك الحصار عن المدينة، ووزعت صور لقاسم سليماني في 6 من الشهر الحالي وهو يتفقد «قواته العراقية واللبنانية» في مدينة سيف الدولة.
يسعى «الحرس الثوري» إلى تحديد وتعزيز المتحمسين من الشيعة العرب والملتزمين عقيدة ولاية الفقيه على أساس أنهم لن يناقشوا سيطرة طهران. إذ إنه بالنسبة إلى «الجمهورية الإسلامية» ووكلائها فإن إنشاء كتلة إسلامية شيعية حسب ما خطط له آية الله الخميني، يتجاوز الهوية الوطنية. وإخلاص الكعبي لإيران في ظل مرشدها الحالي ظهر كثيرًا العام الماضي، عندما أعلن أنه على استعداد للإطاحة بالحكومة العراقية إذا «أمره» خامنئي بذلك!
اعتبار الكعبي خامنئي آية الله العظمى يظهر «زيادة» ولائه للمرشد، الذي لا يعترف رجال الدين الشيعة في قم أو النجف بأنه آية الله العظمى، حتى إن صفته الرسمية «آية الله» ليست صلبة.
خلال لقاء الكعبي مع علاء الدين بروجردي رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان (29 أغسطس/آب) اعتبر «ولاية الفقيه رمز القوة الإسلامية». وكان خلال لقائه مع محسن رضائي القائد السابق لـ«الحرس الثوري» في 29 من الشهر الماضي قال: «إن مشاركة الحشد الشعبي في عملية الموصل من شأنه إحباط خطة الولايات المتحدة الأميركية بناء قواعد عسكرية هناك»، معربًا عن استعداده لمواصلة العمليات حتى الرقة ودير الزور.
من شأن هذا، إذا حصل، إعادة بناء الجسر البري من العراق حتى سوريا الذي كان فقده «محور المقاومة» منذ الانتفاضة السورية عام 2011، ولذلك يمكن لـ«حركة النجباء» وبقية الميليشيات التي تدعمها إيران استخدام هذه الحجة بعد سقوط «داعش» للانتشار في سوريا.
المثير للسخرية، أن القادة الإيرانيين الذين استقبلوا الكعبي تعهدوا بمواصلة دعم «النجباء»، وشددوا على وحدة أراضي العراق!
خلال لقائه مع سعيد جليلي المرشح السابق للرئاسة، وممثل خامنئي في مجلس الأمن القومي أحنى الكعبي رأسه ليتمكن جليلي من تقبيل جبهته. وبعد لقائه مع المتشدد آية الله أحمد جنتي رئيس مجلس الخبراء المكلف اختيار خليفة المرشد، عقد الكعبي مؤتمرًا صحافيًا في وكالة «تسنيم» التابعة لـ«الحرس الثوري» وفيه كرر علنا «حاجتنا إلى وجود سليماني» ثم ناقش علاقة «النجباء» بـ«حزب الله» اللبناني فقال: كانت هناك علاقات قوية لنا مع «حزب الله» منذ بداية احتلال العراق. والحزب درب الكثير من قواتنا ويقدم لنا اليوم الاستشارة. ثم أعلن أن «حزب الله» و«حركة النجباء» هما توأما المقاومة. ربما كان المضمون الأهم هو ما دار بين الكعبي وعلي أكبر ولايتي مستشار خامنئي للشؤون الخارجية. وعد هذا بدعم وحدة الأراضي العراقية «التي تريد أميركا فكفكتها» ثم شدد على الأهمية الاستراتيجية للعراق وسوريا بالنسبة إلى إيران. قال ولايتي «إذا لم تتعاون إيران وسوريا والعراق، لا يمكن الحفاظ على لبنان، وهذا يعني سلسلة المقاومة، فإذا انكسرت إحدى هذه الحلقات، فإن السلسلة كلها تتقطع».
ومكافأة له وصل الكعبي إلى مدينة مشهد والتقى رجل الدين المهم حجة الإسلام إبراهيم رايسي. الأخير مقرب من خامنئي ومسؤول عن «مؤسسة ضريح الإمام الرضا»، التي تعتبر أكبر وأغنى إمبراطورية تجارية في إيران. هذه المؤسسة لا ترد إلا على خامنئي وحساباتها مستقلة عن الدولة مثل كتل مالية أخرى تابعة فقط للمرشد. ووفقًا لتقارير استخباراتية غربية هي واحدة من المؤسسات التي تمول «حزب الله» في لبنان. وكان عبد الله صفي الدين ممثل الحزب في إيران قال: «إن الحزب يتلقى تمويلاً مباشرا من المرشد ومؤسساته المالية». وبالطبع فإن الكعبي والميليشيات الأخرى يتلقون الملايين من الدولارات للعمليات العسكرية والخدمات الاجتماعية أيضا التي توفر للميليشيات النفوذ.
إن اجتماعات الكعبي مع كبار السياسيين وأمناء المؤسسات المالية في إيران تعكس الإبعاد المتعددة للدعم الإيراني، إذ علينا أن ننظر إلى أبعد من العمليات العسكرية لاستيعاب تأثير وطموح هذه الشبكات التي تدعمها إيران، على الدول التي ستظهر في سوريا والعراق بعد هزيمة «داعش». هذه الشبكات أو الميليشيات تضع نصب أعينها نموذج «الحرس الثوري» في إيران وما حققه عبر «حزب الله» في لبنان وتطمح إلى بسط نفوذها ليس فقط عبر العمليات العسكرية بل عبر الأنشطة الاجتماعية، فتكسب ولاء الضعفاء فيها وتسد كل المنافذ والفرص أمام مستقبلهم بعيدًا عن أخطبوطها.
المؤلم أن كل طرف يريد التخلص من «داعش» لأسبابه الخاصة، لذلك، ففي مرحلة ما بعد «داعش»، إذا لم يطرأ ما يعرقلها، وقد يطرأ، فإن الكعبي والميليشيات التي يدعمها «الحرس الثوري» والتي تعتبر الآن «جبهات شرعية» في العراق، سوف تساهم من دون شك في تعميق وتعزيز نفوذ طهران في العراق والشرق الأوسط. هذا ما تخطط له إيران، ولهذا أيضا لن يكون هناك استقرار في المستقبل المنظور، حتى لو «صدق» الأميركيون «صدق» محمد جواد ظريف.
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”