لم تكن العلاقات بين السعودية وإيران جيدة قبل الأحداث الأخيرة، لذلك عندما يتكلم البعض عن توتر في العلاقات، فهي متوترة منذ إصرار إيران على تصدير ثورتها، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية. ما نراه الآن هو تراكم توتر يعود إلى عقود. وما يقوله السعوديون منذ البدء لم يحيدوا عنه. مثلاً بالنسبة إلى سوريا ودور إيران هناك، لم يحيدوا عن رؤيتهم للحل في سوريا: أولاً رحيل بشار الأسد، وثانيًا: انسحاب إيران و«توابعها» من سوريا. هناك ثبات في الموقف السعودي لم يؤثر عليه تراجع الموقف الأميركي أو تكتيك الموقف الروسي.
قرار الإعدامات في هذا التوقيت بالذات رسالة للشعب السعودي وللعالم بأن الحكومة السعودية ستتصدى للاثنين: «داعش»، والتحريض الشيعي. في الخليج يتحدثون كثيرًا وعلى كل المستويات عن التوازن بين حركات التطرف السنّي وحركات التطرف الشيعي، والاثنان يشكلان خطرًا على شرعية هذه الدول وعلى وجودها.
ورغم أن العلاقات بين الدولتين كانت متوترة أصلاً فإن القرار السعودي بالإقدام على الإعدامات كان قرارًا جريئًا، بالطبع القيادة السعودية تعرف النتائج وردود الفعل، وتعرف أيضًا ماذا تخطط له إيران وقد اقترب موعد رفع العقوبات بعدما قررت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما خلخلة ميزان القوى في المنطقة بالسعي حثيثًا لتوقيع اتفاق نووي مع إيران. بسببه يتخوف الخليجيون من أن إيران ستستعمل عشرات المليارات من الدولارات التي سيفرج عنها لدفع المجموعات الشيعية العربية إلى التمرد لزعزعة الحكومات القائمة في المنطقة، وأيضًا لشراء أسلحة من أجل تحقيق أطماعها التوسعية. ولا يثق الخليجيون إطلاقًا في أن إيران ستلتزم ببنود الاتفاق النووي، مما سيدفع إلى سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط.
ما رأيناه من هجوم على القنصلية السعودية في مشهد وإحراقها، وإحراق السفارة السعودية في طهران، كشف عما سيأتي لاحقًا بسبب الانقسام داخل إيران، وكان قد وصل إلى ذروته مع الاتفاق النووي.
المتشددون لا يريدون أي تقارب مع الغرب. كانوا ضد الاتفاق، وافقوا فقط، لأن المرشد دعمه، فالبرنامج الإيراني التوسعي يحتاج إلى أموال، ولهذا استمروا في إشعال المنطقة وتوتير الأوضاع إنْ كان في العراق أو في سوريا أو في اليمن، والهجوم على السفارة السعودية يكشف استعداد المتشددين للدفع نحو فتنة مذهبية كبرى في المنطقة. قبل أسبوع تحرشت الصواريخ الإيرانية في مضيق هرمز بحاملة الطائرات الأميركية «هاري ترومان». في 9 من الشهر الماضي أعلن قائد القوات البرية الإيرانية، أحمد رضا بوردستان، عن احتمال قيام بلاده بشن غارات جوية في سوريا والعراق، وأكد أن إيران تقوم بدور المستشار في هاتين الدولتين، مشيرًا إلى إمكانية وجود القوات الإيرانية فيهما برًا وجوًا.
إذن، هناك حرب تصر إيران على إشعالها في المنطقة، ويتخوف الغرب الآن، بعد الخطوات السعودية، على عملية السلام في سوريا. في الأساس لم تكن هذه العملية قوية وفيها زخم. هناك أكثر من مائة فصيل يتقاتل في سوريا من الشيعة والسنّة، وجمع كل هؤلاء على خط واحد كان أمرًا مستحيلاً، ثم إن السعوديين لم يخفوا تشاؤمهم منذ البداية.
في اليمن، إن وقف إطلاق النار الذي تم ترتيبه لم يصمد. استمر الحوثيون في إطلاق صواريخ «القاهرة» على الحدود السعودية. وتمامًا مثل الوضع في سوريا والمفاوضات هناك التي مثل السائر على حد السيف، فإن وقف إطلاق النار في اليمن لم يكن له مستقبل أبدًا. وسيبقى اليمن حربًا مشتعلة حتى تتوقف إيران عن تدخلها، لأنه لا يمكن للسعودية بأن تقبل بوجود إيراني على حدودها. فالصراع هو صراع دول وصراع مصالح، ولهذا يتم إشعال المشاعر المذهبية والمشكلة في المشاعر المذهبية أنه يصعب تهدئتها خصوصًا مع استمرار التحريض.
أرسل لي صحافي إيراني «فيديو كليب» لنمر باقر النمر، يلقي خطبة فوق الأرض السعودية ضد القيادة السعودية، وضد المملكة. تاريخ الفيديو 27 يونيو (حزيران) 2012. قال لي الصحافي الإيراني: «لو أن زعيم أقلية في إيران قال الكلام نفسه ضد الحكام الإيرانيين فوق الأرض الإيرانية، لكان أعدم على الفور». وأضاف أن النظام الإيراني يقوم بتأجيج التوتر مع السعودية لأسباب تتعلق بشرعيته في الداخل. أشار إلى تحذير المرشد خامنئي للقادة السعوديين بالانتقام الإلهي بسبب إعدام النمر، في وقت يُغرّم سعيد مرتضوي، المدعي العام السابق لمحكمة الثورة الإيرانية الذي أشرف على معتقل «كهريزاك» الذي احتجز فيه الآلاف من الإيرانيين ومعظمهم من الشيعة، حيث تعرضوا للتعذيب وفي بعض الحالات للإعدام. بعد سنوات من هذه الممارسات تغرّم الحكومة مرتضوي ستين دولارًا فقط على جرائمه، وتعزله لخمس سنوات من وظيفته الحكومية. هناك كثيرون مثل مرتضوي يعيشون حياة رغد في إيران رغم الجرائم التي ارتكبوها ضد الشيعة الإيرانيين. ويأتي الآن رأس النظام مهددًا السعودية بالانتقام الإلهي لمعاملة غير عادلة ضد الشيعة، وكأن من قُتل في مظاهرات 2009 وزج به في السجون وأعدم لم يكونوا شيعة يعارضون هذا النظام.
الأنظار تتطلع إلى الرئيس حسن روحاني وردة فعله. من يقف وراء إحراق وتخريب السفارة والقنصلية السعوديتين؟ كان خطاب كل الجهات الرئيسية الفاعلة في إيران حادًا في إظهار المعاداة للسعودية، إلى درجة أن تهرب كل طرف من تحمل مسؤولية الهجوم على القنصلية وعلى السفارة. في تغريدة له أشار روحاني إلى «الجماعات المارقة» قال إن «هذا العمل يتماشى مع السياسات المذهبية التي زعزعت المنطقة في السنوات الأخيرة (…) لكن على الشعب الإيراني ألا يسمح بذلك كي لا يصبح ذريعة للأفراد أو الجماعات المارقة بارتكاب أعمال تضر بصورة إيران». تغاضى روحاني عن أن الشرطة لم تبذل أي جهد لمنع المتظاهرين من الإقدام على حرق القنصلية والسفارة. بعد ذلك، اتهم روحاني «المتطرفين».
الغائب الكبير كان محمد جواد ظريف، وزير الخارجية، والإصلاحي كما يُقال، ونجم الإعلام الغربي. ظلت صفحته على «تويتر» صامتة. المثير أن ظريف كتب آخر تغريدة له مع نهاية عام 2015، حيث عبّر عن تمنياته بأنه سيتجنب في العام الجديد «تكرار أخطاء الماضي»! فهل لهذا السبب فضل أن يظل صامتًا بشأن قضية رئيسية تتعلق بالسياسة الخارجية الإيرانية؟ وهل اختار هو شخصيا أن يصمت أم اختير عبد الأمير اللهيان للقيام بالدور المطلوب إيرانيًا في هذه المرحلة؟
المرشد الأعلى خامنئي استدعى في تغريدته «الانتقام الإلهي» على وفاة النمر، لكنه لم يشر إلى إحراق القنصلية والسفارة. وكال بالمكيال نفسه الأمين العام لحزب الله في لبنان السيد حسن نصر الله.
معتادة إيران على الاستقواء بالهجوم على السفارات الأجنبية لديها. لا تحترم قوانين دولية وضعت لمنع النظام العالمي من الفلتان. بدأت الثورة الإيرانية بالهجوم على السفارة الأميركية في طهران، فهل الهجوم الأخير المماثل على السفارة السعودية في طهران مؤشر لحدث ما؟
عام 1979 تحمل مهدي بازركان، رئيس الوزراء آنذاك، المسؤولية الأخلاقية وقدم استقالته، رغم أن المهاجمين لم يتحركوا بأمر منه، وتجاهلوا دعواته لإطلاق سراح الرهائن.. مَن يتحمل المسؤولية الآن؟
ما قامت به السعودية إجراء يدخل ضمن سيادتها. ردة الفعل الإيرانية جزء من إصرارها على التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.
قبل الأحداث الأخيرة، ومنذ شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، ووزارة الاستخبارات الإيرانية تستدعي النشطاء والصحافيين والإعلاميين للتحقيق معهم واعتقالهم، وذلك بعدما حذر خامنئي من «تسلل» أعداء إيران. أمام الاعتقالات لم يحرك روحاني ساكنًا. وهو متهم بأنه يريد المحافظة على منصبه. ويعرف الإيرانيون أن أي مرونة من قبل المرشد في السياسة الخارجية يقابلها ملاحقة وضغوط في الداخل.. محاولة روحاني إنقاذ سياسته الخارجية بتجنب قطع السعودية العلاقات مع إيران باءت بالفشل، لهذا فإن الاعتقالات والملاحقات ستستمر حتى إلى ما بعد الانتخابات. والهجوم على القنصلية والسفارة السعوديتين يؤكدان شيئًا لم يتغير في إيران منذ مجيء الخميني واحتلال السفارة الأميركية
نقلا عن الشرق الاوسط