حالة شعوبنا البائسة لا تسّر أحد بإعتراف الجميع .
الكلّ يشتكي ويئن من وطأة الإنحدار أو المستنقع أو المؤامرة أوايّ كلمة
اُخرى ترونها مناسبة لوصف الحالة .
لكن قلّة فقط يرضون بتسمية الأشياء بمسمياتها , ويُقدمون على مواجهة الواقع والنفس والسلبيات وعرضها على طاولة النقاش والتشريح , ليس لأجل جلد الذات كما يعتقد البعض .
إنّما في محاولة مخلصة للإصلاح والإلتحاق بركب العالم المتحضّر المتطوّر !
أنا أرى المشهد هكذا :
هناك طريقان رئيسان في هذهِ الحياة !
الأوّل :هو طريق العمل والعلم والبحث العلمي لتوفير السعادة في حياتنا .
الثاني :هو طريق الأديان والغيبيات والماورائيات بحثاً عن السعادة في الحياة الأخرى .
هل لدى أحدكم أدنى شكّ ,في أنّ الحضارة البشرية عموماً ,قامت وتطوّرت وإزدهرت جرّاء سلوك الناس الطريق الأوّل ؟
أمّا الطريق الثاني فجميع التجارب تُخبرنا أنّهُ حالك الظلام وخطير .
وإلاّ فمتى رأيتم تجارة الدين رغم رواجها تبني دولة أو تقيم حضارة بمعنى الكلمة ؟
صحيح أنّ العلم كسواه من الأشياء ,يمكن أن يستخدم كسلاح ذو حدّين , كما حدث في بعض الأحيان ( قنبلتي هيروشيما وناكازاكي مثلاً ) !
لكن ذلك كان إستثناءً عن القاعدة التي تقول :إنّ العلم يبني ويطوّر الأمم والشعوب !
اليوم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ,مجتمعاتنا البائسة تحتاج مصارحة النفس وكشف السلبيّات والإعتراف بالتقصير والتقاعس والأخطاء والكراهية التي سيطرت على نفوس الغالبية لأسباب معروفة للجميع ,أهمّها ما اُسميّه القراءة الصفراء لكتب التراث ,المُبالغ فيه بأحسن الأوصاف !
شعوبنا تحتاج البدء بتعلّم طريقة التفكير العلمي العقلاني المنطقي الواقعي
تلك التي تُنتج عقلاً نقدياً يتجاوز تابوهات العقل العربي المسلم المعروفة ويقتحمها إقتحاماً .كي يضمن إنفتاح الأفق أمامه ,بدل الحيرة والخوف والشّك في كلّ مختلف عنّا .
كيف إقتنعنا أنّنا خير اُمّةٍ ,رغم هذا الحضيض الذي تسبح فيه شعوبنا اليوم ؟ من أفغانستان وباكستان مروراً بالعراق وسوريا (وحتى مصر مؤخراً) وصولاً الى السودان والصومال وليبيا … والبقية الباقية !
آخر ماتحتاجهُ شعوبنا في هذه المرحلة هو طريق الآمال والأحلام التي تنتج عن قوى فوق طبيعية غير مضمونة النتائج حتى لدى اشدّ المؤمنين بها .
نعم القراءة العلمية هي البديل وهي البداية الصحيحة !
بينما القراءة الصفراء تقود الى جميع الكوارث ,وأولّها إنفصام شخصية المسلم .
***
الجزء الثاني :أسباب إنفصام شخصية المُسلم !
أولاً : تناقض النصوص الدينية مع بعضها (سوبر ماركت متنوّع)
هناك مئات الأمثلة التي لا أوّد الإقتراب منها كي أتجنّب إثارة الأخوة المتدينين .لكن مثل واحد يكفي في هذهِ العُجالة .
فكلّنا يعرف حديث تحريم المسلم على المسلم (دمهُ ومالهُ وعرضه) .
لكن من جهة اُخرى فإنّ حديث الفرقة الناجية :
(تتفرق اُمّتي الى بضعٍ وسبعينَ فرقة كلّها في النار إلاّ الفرقة الناجية) يقود عملياً الى كراهية الفرق الإسلامية لبعضها ,والى حدّ القتل .
وهذه النقطة بالذات تخلق إنفصام في القاعدة الفكرية للمسلم !
ثانياً : تناقض مطالب وأوامر رجال الدين فيما بينهم من جهة .
مع ما يطلبونهُ من الناس ,ويقومون هم بهِ من جهة ثانية .
فهم يتحدثون ويأمرون الناس بالبّر والفضيلة والتسامح ,حيناً وينسون أنفسهم وأولادهم ,في أحيان اُخرى .
فترى منهم الفساد والكراهية الى حدّ الحثّ على القتل ,فيحير المرء بأيّ شيخ يقتدي ,ونصيحة مَنْ يتبع ؟
ثالثاً : حقوق المرأة / يتحدثون دوماً عن رعايتها وصيانتها وتكريمها . بينما تسود عملياً الثقافة الذكورية الأبوية التسلطيّة .
حتى التحرّش الجنسي وإغتصاب المرأة يعتبرونها هي المسؤولة عنه .
وأحد الدُعاة السعوديين (عبدالله داوود) طالبَ الشباب بالتحرّش بالعاملات والكاشيرات لأجلِ ردعهم عن الخروج من بيوتهم .
وتسائل بصوتٍ صاخب :كيف تطالبون بالإختلاط ,وقوانين منع التحرش فى ذات الوقت ؟
رابعاً : إزدواج المعايير/ حول بعض المفاهيم ,الحرب مثلاً !
إذ لا يفتأ المؤرخون المسلمون يعتبرون حروب الآخر علينا غزواً أو إستعماراً أو إحتلال .
فيقولون الغزو الصليبي أوالإستعمار الحديث أو الإحتلال الأمريكي .
بينما يقولون عن حروبهم ضدّ الآخر ,أنّها فتحٌ من الله ونصرٌ مُبين .
كفتح الأندلس وفتح مصر,وماشابه .
وبالطبع أسوء وأقبح إستعمار في هذا الكوكب (وهو الإستعمار العثماني) للبلاد العربية وسواها .لا يعتبره الأشياخ إستعماراً ,بل إمتداداً لدولة الخلافة الإسلاميّة التي يُحاول أردوغان العصمنلي (عبثاً) إحيائها اليوم .
خامساً : الحلال والحرام !
في هذا الباب نسمع العَجب العُجاب من تحليل أنواع غريبة من المتعة والجنس ,بينما تحريم أشياء وأفعال طبيعية وإنسانية .
فيكثر في بعض البلدان (اليمن مثلاً) الزواج بالقاصرات ,وفي مصر ختان الإناث ,(وفي السعودية) يجوز مفاخذة الأطفال ونِكاح الزوجة المتوفية حديثاً .
وأفتى بعضهم بجهاد النكاح حتى (مع المحارم ) للثائرينَ على الظُلم .
ناهيك عن زواج المتعة ( بأنواعهِ ) والزواج العرفي ,وغير ذلك كثير ممّا يشيب لهُ رأس المرء .
لكن من جهة ثانية فالمشايخ يُحرمون إنفراد الرجل بإبنتهِ البالغة كي لا يلعب بهما الشيطان .ويحرموّن لعب الطفلة الفتاة مع صديقها أو جارها
وهناك شريط لرجل سعودي ضرب إبنتهِ (5 سنوات) حتى الموت متهماً إياها بالفجور ,هل تصدقون ؟
والبعض يحرّم إراتداء لاعب كرة القدم للشورت كي لا تُثير سيقانهِ شهوة المشايخ .
سادساً : العلم والدين !
التناقض بين هذين الطريقين معروف وملموس منذُ الأزل .ولا سبيل لإلتقائهم يوماً ما .
مع ذلك نسمع (علماء) الإعجاز العلمي رفقاء زغلول النجار ,يملؤون رؤوس مستمعيهم بأنواع الأكاذيب والتناقضات التي تزيد في إنفصام شخصية المسلم البسيط .
وأنا دائم التكرار لمثال قضية تأجير الأرحام في حالة السيّدات اللواتي لا يقدرنّ على الإنجاب لأسباب خَلقيّة ,كيف يوائم الشيخ بين العلم والدين ؟
سابعاً : الطائفية والعنصرية !
يقولون لنا من جهة أنّ (الإسلام ) دين عالمي يتوجّه بالدعوة لجميع البشر
لكن من جهة اُخرى ,لا نقبل من الآخرين أن يفعلوا ما نفعلهُ بهم .
معناها بمفهوم المشايخ يحّق للمسلم (حتى اللاجيء أو المهاجر) الى الغرب (الذي يسموّنه دار الكفر) ,أن يستفيد من قوانينهم وإنسانيتهم فيقوم بدعوتهم للإسلام .ومؤخراً تطوّرت الأمور في هذا المجال في بريطانيا الى حدّ إعتبار بعض المتشددين ,الملكة الإنكليزية كافرة يجب خضوعها للإسلام أو قتلها .كما شاهدنا ذلك في الأشرطة العديدة على اليوتيوب .
لكن لو سمعنا عن (مُبشّر غربي) قادم الى بلادنا بداعي مساعدة الفقراء والأطفال والنساء ,فالقتل والسحل سيطالهُ حتماً عندما يقع في أيدي المتطرفين .
أمّا الطائفية بين المسلمين أنفسهم فحدّث ولا حرج ,كما شاهدنا من جرائم في العراق وفي سوريا (من الطرفين) ,يندى لها جبين البشرية .
ثامناً : التناقض الشديد في المفاهيم والحالة الإقتصادية !
هل تطنّون أنّ هناك فرقاً كبيراً بين الربح من البيع .. والربا ؟
في الظاهر / نعم الفرق كبير جداً عند المسلمين .
لكنّنا سنجد لا فرق يُذكر عملياً وباطنياً في التصرفات اليوميّة
وأحيلكم الى مقالات الأستاذ الدكتور كامل النجار عن أعمال البنوك الإسلامية .الذي يقول في أحد المقاطع :
إنّ البنوك الإسلامية الحالية تستعمل عدّة حيل حديثة حسب مكان البنك. ففي دول الغرب تستعمل حيلاً غير تلك التي تستعملها في الدول ذات الأغلبية المسلمة . فهناك لا تقوم بأي تجارة إنّما تعطي ملايين الدولارات إلى البنوك الغربية الربوية لتتاجر بها ثم تتقاسم معهم الأرباح بنسب متفق عليها. والبنوك الغربية طبعاً تمارس نشاطها التجاري الربوي العادي ثم تعطي البنوك الإسلامية ربحها الذي تعتبره تلك البنوك تجارةً وليس ربا. ثم أن البنوك الإسلامية في البهاما وغيرها كانت تغسل الأموال الطائلة لمهرّبي الأفيون وتأخذ حصتها أو أجرها على هذا الغسيل القذر .أمّا البنوك الإسلامية داخل البلاد العربية فتفعل الآتي :
يخصم البنك 10% من أرباح ودائع المستثمرين لحساب الاحتياطي الاختياري , و 10% اُخرى , تُخصم للإحتياطي الإجباري .
وتُعتبر هذه ال 20% من الأرباح , بمثابة أجر البنك على الأعمال التي يقوم بها إنابةً عن المستثمر. فما الفرق بين أجر البنك والربا في هذه الحالة ؟
أمّا عن الهدر الإقتصادي الكبير جرّاء مظاهر التدين التي تصل الى أكثر من 50% من مجمل الدخل القومي العربي , فهذا موضوع يحتاج لمجلدات لوحدهِ !
***
الخلاصة :
كما هو معلوم ,إذا كانت غالبية الأفراد في مجتمعٍ ما ,مصابة بالإنفصام فمعنى ذلك أنّها ظاهرة إجتماعية تستحق الدرس والعلاج .ولن ينفعنا التلاعب بالكلمات والرقص على الحبال بل مواجهة النفس والمعضلة هو الأفضل والأعقل .
وأغرب قول نسمعهُ من المشايخ في هذا المجال ,هو أنّ فشل المسلمين في حياتهم لا علاقة لهُ بالدين إطلاقاً !
وأنّ الإسلام خير دواء وعلاج لمشاكلنا وعللنا ,لكنّنا تركناهُ لعلّة فينا .
وأحدهم بالغ في هذا الإتجاه الى درجة أنّهُ أوصى ( بمناسبة الإنتخابات العراقية الحالية) , بل أفتى بتحريم إنتخاب العلماني !
فكيف نصدّق هذا الكلام والفرد المُسلم يخضع لتعاليم ووصايا الدين منذ إستيقاضه صباحاً حتى نومهِ ليلاً ,وربّما حتى في أحلامه .
ثمّ يا إخوان / كيف ولماذا تركنا الإسلام ؟
وهل يكون المرء والمجتمع طبيعي عندما يترك ما ينفعهُ ؟
أم أنّ هذا (الترك) يحدث لصعوبة في التطبيق العملي مثلاً ,ونحتاج الى تبسيط مفاهيم وشعائر الدين لتسير الحياة في طريقها ؟
لماذا تتهمّون أيّ محاولة تنويرية لفضّ الإشتباك بين كلّ ما تقدّم من مشاكل تصيب شخصية المسلم بالإنفصام والتخلّف والفشل مع حياتنا ومستقبل أجيالنا ..بأنّها كفر وزندقة ؟
الحلّ في العلمانية التي تقبل بالكلّ .فالدين لله والوطن للجميع !
رعد الحافظ
28 أبريل 2014