الشرق الاوسط اللندنية: صالح القلاب
في خضم كل هذه التطورات التي تشهدها سوريا نُسب إلى هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» أنها كشفت النقاب عن أن زعيمين علويين قد سربا وثيقة أعدها عدد من علماء هذه الطائفة عنوانها «إعلان إصلاح الهوية» قالوا فيها إنه لا يجب ربط أبناء طائفتهم بجرائم نظام بشار الأسد، وإنهم ينأون بأنفسهم عن هذا النظام الذي كانوا قبله، وسيبقون بعده، وإنهم ملتزمون بقيم المساواة والحرية والمواطنة، وتعليقًا على هذا كله نُقل عن دبلوماسي غربي لم تجرِ الإشارة إلى اسمه قوله: «إن اللغة التي صيغ بها هذا الإعلان تؤكد انفصال هؤلاء عن إيران وعن النظام السوري الحالي وتؤكد انتماءهم إلى الدولة السورية».
والواضح أن هذه «الوثيقة» التي ترفض استيعاب الطائفة العلوية في المذهب الجعفري الاثني عشري وفي نظام الولي الفقيه، قد جاءت نتيجة لحالة التململ التي بات يعيشها أبناء هذه الطائفة بعد خمسة أعوام من هذه الحرب المدمرة التي شنها نظام بشار الأسد على سوريا وشعبها، وحقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التي يعبر فيها العلويون عن رفضهم لهذا النظام وحربه ولتحالفاته، فقد بقيت تصدر تصريحات وبيانات مماثلة، وبالمعنى نفسه، وبقي أصحابها يواجهون بالقمع والمطاردات وبالقتل والتصفيات الجسدية في أحيان كثيرة.
وحقيقة أيضًا أنه غير صحيح على الإطلاق أن هذه الطائفة قد شكلت درع الحماية لهذا النظام منذ عام 1970 وحتى الآن، فالمؤكد أن الذين يعرفون الأوضاع السورية الداخلية عن قرب يعرفون أن التحديات الفعلية لحافظ الأسد ونظامه، خصوصًا في عقد سبعينات القرن الماضي، قد جاءت من الضباط العلويين الذين كانوا يتوزعون على كتلتين رئيسيتين هما: كتلة محمد عمران الذي جرى اغتياله في طرابلس اللبنانية في عام 1972، وكتلة صلاح جديد الذي كان رئيسًا للأركان وأمينًا قطريًا مساعدًا لحزب البعث، واعتبر بين عامي 1966 و1970 أهم شخصية في سوريا، والذي بعد الانقلاب الذي سمي زورًا وبهتانًا «الحركة التصحيحية» وُضِع في زنزانة انفرادية في سجن المزة إلى أن فارق الحياة، مثله مثل رفاقه الذين انحازوا إليه ومن بينهم رئيس الدولة السابق نور الدين الأتاسي.
وغير هذا، فإن من يعرفون واقع الحال في سوريا، في مرحلة ما بعد انقلاب حافظ الأسد في عام 1970، الذي كان من رموزه «الديكورية» كلٌّ من مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وعبد الله الأحمر.. وأيضًا أحمد الخطيب، إذا أردتم، وجميع هؤلاء وغيرهم من السنة، يعرفون أن أهم الكتل العشائر والعائلية «العلوية» كانت ضده وضد نظامه، وأن غالبية مثقفي هذه الطائفة التي كانت شبعت اضطهادًا وتنكيلاً خلال المرحلة العثمانية قد ناهضوا حكم العائلة الأسدية، ومن تحالفوا معها، ومن بين هؤلاء الشاعر المسرحي الكبير ممدوح عدوان، والروائي سعد الله ونوس، والروائي حيدر حيدر، وغيرهم، والممثل اللامع والمبدع جمال سليمان.
لكن وتحت وطأة الخوف والترغيب والترهيب استطاع هذا النظام، الذي كان أكثر المستفيدين أولاً من احتلال إسرائيل في عام 1982 لجزءٍ من الأراضي اللبنانية، وإخراج ياسر عرفات ومنظمة التحرير والثورة الفلسطينية من بيروت، ولاحقًا من لبنان كله، وثانيًا من غزو صدام حسين للكويت، اختطاف الطائفة العلوية وربط مصيرها بمصيره، وقد تجلَّى هذا بأوضح أشكاله بعد ثورة عام 2011، حيث استهدفت بعض التنظيمات الإرهابية فعلاً والمتطرفة حقيقة كـ«داعش» و«النصرة» هذه الطائفة وأبناءها بصورة عامة ولم تفرِّق بين مجموعات «الشبيحة» والتشكيلات المذهبية والطائفية التي تم استيرادها من العراق ومن إيران ومن أفغانستان وباكستان ومن لبنان بالطبع (حزب الله) وبين غالبية العلويين.
والآن فإن ما لا يعرفه كثيرون هو أن السؤال المتداول حاليًا بين غالبية أبناء هذه الطائفة، التي أحبط زعيمها التاريخي صالح العلي ومعه سلطان باشا الأطرش مؤامرة إنشاء دولة علوية في منطقة اللاذقية وجبال النصيريين ودويلة درزية في جبل العرب والسويداء في حوران، هو لماذا يخسر العلويون نحو ستين ألفًا من شبابهم من أجل الحفاظ على نظام عائلي فاسد ومفسد ومتحالف مع طبقة سورية فاسدة؟!
ثم إن الأخطر من هذا كله هو أن نظام بشار الأسد قد بادر إلى لعب لعبة قديمة كان لعبها المستعمرون الفرنسيون، لكنهم فشلوا فيها، وهي الادعاء بأن الأكثرية السنية تستهدف المسيحيين والعلويين والدروز والإسماعيليين، ولذلك فإن على هؤلاء أن يتحدوا وأن يشكلوا كتلة قوية تلتف حول هذا النظام الذي هو نظامهم، والذي سيكون زواله زوالاً لهم، وحقيقة أن هذا كذب واضح كل الوضوح، وأنه افتراء على الحاضر والماضي وعلى التاريخ البعيد والقريب، فالمعروف أن العروبي اللبناني فارس الخوري قد احتل المواقع القيادية العليا التي احتلها في سوريا بعد الاستقلال برغبة «السنة» وبتأييدهم، وليس برغبة هذه الأقليات.
إن المفترض أن الذين يروّجون الآن بأن بقاء المسيحيين والعلويين والدروز والإسماعيليين مرهون ببقاء هذا النظام يعرفون أن حافظ الأسد هو من أصدر حكمًا بالإعدام على ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث، وبتهمة الخيانة العظمى، وأنه هو من طارد الرموز المسيحية الأرثوذكسية في هذا الحزب بتهمة تأييدها لصدام حسين، وهو الذي نفذ حكم الإعدام بالدرزي سليم حاطوم، وهو من طارد وسجن منصور الأطرش، وهو من اغتال كمال جنبلاط، وأن ابنه بشار الأسد هذا هو من اختطف شبلي العيسمي من منطقة عاليه في لبنان حيث تمت تصفيته، كما يقال، في أحد السجون السورية.
وأيضًا فإن المفترض أنه معروف حتى للذين يروّجون للعبة ومؤامرة تحالف الأقليات السورية ضد الأكثرية السنية أن حافظ الأسد هو من بطش بالإسماعيليين، وأنه هو من قتل عبد الكريم الجندي، وأنه هو من وضع مصطفى رستم في السجن، وأكثر من مرة، وأنه هو من لاحق خالد الجندي إلى أن مات في المنافي البعيدة، وبالطبع فإنه هو من اغتال محمد عمران، ووضع صلاح جديد في زنازين المزة إلى أن لقي حتفه بعد أكثر من عشرين عامًا من السجن الانفرادي! ولهذا فإن مجرد الحديث عن ضرورة تماسك هذا التحالف الطائفي (المسيحيون، الأرثوذكس، والعلويون، والدروز، والإسماعيليون)، خلف هذا النظام، وليس حوله، هو مؤامرة استعمارية قديمة، ولذلك فإنه على المعارضة السورية ومن معها من العرب احتضان هذه المبادرة العلوية والترحيب بها وتمكينها من أخذ الموقع الذي تستحقه لتقرير مصير هذا البلد الذي هو حقًا لكل أبنائه المخلصين بغض النظر عن مذاهبهم وطوائفهم وانتماءاتهم القومية والعرقية.