نشر الأستاذ العفيف الأخضر بموقع الحوار المتمدن مقابلة عن إصلاح الإسلام تتكون من ست حلقات، أجراها معه السيدان ناصر بن رجب ولحسن وريغ. وليس هناك من شك أن الإسلام في أمس الحاجة إلى الإصلاح والتغيير لأن ما لا يتغيّر ويتلاءم مع بيئته وزمانه، سوف ينقرض وينتهي نهاية الديناصورات وغيرها من الحيوانات التي لم تستطع أن تتأقلم وتتطور فماتت. ولا ينحصر شرط التغيير والتأقلم على الحيوانات فقط بل يشمل الحضارات والأديان وحتى اللغات. فكم من حضارة عريقة مثل حضارة الإغريق والرومان قد تآكلت من داخلها وماتت لأنها لم تتأقلم مع المستجدات من حولها، واليوم نجد اليونان وإيطاليا من أضعف الدول الأوربية حضارياً ومادياً، ولغتاهما القديمتان واللتان سيطرتا على عالم الفكر عدة قرون، قد ماتا واندثر أثرهما.
ولكن السؤال الجوهري هو: هل يملك رجال الدين الإسلامي الوسائل الضرورية لإصلاح الإسلام؟ أهم هذه الوسائل هو وجود سلطة مركزية يخضع لها جميع المنتمين إلى ذلك الدين، سواء أكانوا من العامة أو من رجال الدين أنفسهم. وخير مثال لذلك هو الفاتيكان والبابا الذي يسيطر على الكنيسة الكاثوليكية، والذي تسري أحكامه على الجميع، بينما في الكنيسة الإنجليكية، كما في الإسلام، لا توجد قوة مركزية يمكنها أن تتحدث باسم جميع الكنائس الإنجليكية أو جميع المذاهب الإسلامية. وهذه عقبة كأداء في طريق إصلاح الإسلام
أنا أتفق مع السيد العفيف الأخضر في جل ما ذهب إليه، فالعفيف الأخضر باحث إسلامي معترف به، ومن الذين يملكون زمام اللغة والتاريخ الإسلامي، ولكني، حتماً، أختلف معه في بعض النقاط وفي طريقة إصلاح الإسلام، إذا كان من الممكن إصلاحة.
يقول السيد الأخضر في الحلقة الأولى من المقابلة: (سبب الأسباب لتخلّفنا أو بما هو أدقّ لتخبّطنا الطويل في أزمة الحداثة ، التي نجتازها وعدم خروجنا منها سالمين حتّى الآن ، هو سوء صناعة القرار الذي مازال في تسعة على عشرة على الأقل من البلدان العربية لا تصنعه المؤسَّسات صناعةً علمية يكون الكمبيوتر أوّل صانع له. بل تصنعه نزوات وهذيانات الحاكم الفرد. واحد من بين عشرات الأمثلة، صدّام حسين الذي افتخر بأنّ القرار الكارثي عليه وعلى العراق وربّما على الشرق الأوسط كلّه، أعني قرار ضمّ الكويت، اتّخذه بناء على حلم رآه في المنام مُضيفا، إعتمادا على حديث محمّدي، بأن الحلم الصادق جزء من أربعين جزء من النبوّة. لكن الملاك الذي أوحى اليه بالحلم نسي أن يوصيه بطرح السؤال المركزي الذي توجبه صناعة القرار “وماذا في صباح اليوم التالي؟”.وهو السؤال الذي لم يطرحه قبله جمال عبد الناصر عندما طرد القوات الدولية المرابطة على الحدود المصرية الاسرائيلية في مايو1967 ) انتهى. وهنا مربط الفرس. فالإسلام لم يعرف في تاريخه الطويل أي ممارسات ديمقراطية تأخذ رأي الأغلبية في الاعتبار عند اتخاذ القرارات. القلة من أهل العقد والحل هم الذين يتخذون القرار نيابةً عن الكل، كما حدث في اختيار الخلفاء الراشدين. ومنذ ولادة الدولة الأموية أصبح القرار بيد الحاكم الأوحد المتسلط على شعبه، من سلالة قريش (أموي، عباسي، شيعي، فاطمي، علوي، الخ). وفي العصر الحديث تمركز القرار في رئيس الحزب الواحد –صدام، وحافظ الأسد- أو في الحاكم العسكري- حسني مبارك، البشير. والقرارات في مجملها، ومنذ بداية الإسلام كانت مبنية على تفسير الأحلام. حتى قرارات محمد نفسه بُني أغلبها على أحلام سماها هو وحياً، مثل رحلة الإسراء والمعراج التي جزمت عائشة أن محمداً لم يغادر سريرها طوال ليلة الإسراء، ولكن حُلم محمد أصبح حقيقة دينية تاريخية، رغم تعارضها مع العقل والمنطق، واستحالتها من الناحية العلمية، وبنى فقهاء الإسلام أحكاماً على هذه الرحلة الحُلمية. ونفس التخبط يحدث في إصدار الأحكام الشرعية في الإسلام. يُحكى أن البخاري كان يسمع عشرات الأحاديث في اليوم، ثم يصلي صلاة الاستخارة وينام، وفي الصباح يختار بضع أحاديث رآها في منامه من التي يُعتد بها، فيضعها في صحيحه. وجاء فقهاء الإسلام وأصدروا أحكاماً شريعة بناءً على تلك الأحاديث. فالمنظومة الإسلامية كلها تفتقر إلى وسائل اتخاذ القرار، وليست القرارات السياسية وحدها كما جاء في مقابلة الأستاذ العفيف الأخضر. وبغياب وسائل اتخاذ القرار الديني يصبح إصلاح الإسلام حُلماً غير قابل للتطبيق بعكس أحلام محمد والبخاري وصدام. وربما نضيف جورج دبليو بوش الذي قال في شرم الشيخ إن غزو العراق مهمة إلهية أوكلها الله له في خُلم رآه في منامه. فالهوس الديني عندما يسيطر على العقول يصنع المستحيلات
عندما سأل المحاور السيد العفيف عن نقاط الضعف في الحالة الإسلامية التي يمكن علاجها بالإصلاح الديني، أجاب (ما زال الإسلام لم يرفع حتى الآن تحدّي عوائقه الثلاثة التي شخّصها رينان
Renan
في القرن التاسع عشر : احتقار العلم الوضعي
Le dédain de la science
ورفض البحث العقلاني
la négation de la recherche rationnel
في نصوصه بما هي كلام الله المُنزّه عن المساءلة العلمية وفي رموزه بما هم فوق البحث والمساءلة، والخلط بين الروحي والزمن La confusion entre le spirituel et le temporel.
وهي عوائق دينية وذهنية ونفسية تحالفت على كبت الإبداع الديني والسياسي والإقتصادي والعلمي والأدبي والفني؛ مثلا الرسم والنحت والموسيقى مازالت محرّمة في الإسلام. اليهودية التي أخذنا عنها هذه المحرمات الهستيرية تناستها لحسن حظ اليهود. ونحن مازلنا متسمرين فيها. تناست أيضا حد الرجم الدموي الذي أخذناه عنها. بالرغم من عدم وجوده في القرآن وتهافت الروايات عن رجم النبي لزناة… إيران والسعودية و”شباب الشريعة” في الصومال مازالوا يرجمون) انتهى
ولا شك أن رينان قد شخص أسباب تخلف الإسلام والمسلمين تشخيصاً دقيقاً ولكنه نسي أو تجاهل أحد الأسباب الرئيسية، ألا وهو فقه الولاء والبراء الذي جعل المسلمين يحجمون عن تبني أي فكرة أتتهم من الغرب لأنها تجعلهم كمن يتشبه بالكفار. وهذه عقبة كبيرة في طريق إصلاح الإسلام لأن شيوخ الإسلام يعتبرون الديمقراطية وحقوق الإنسان منجزات غربية تجعل من يتبناها متشبهاً بالكفار، ومن تشبه بقوم فهو منهم. وبدون الديمقراطية ومساءلة الحكام، لا يمكننا أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام
وقد أحسن السيد العفيف الأخضر الجواب عندما سأله المحاور عن أسباب الجمود في عالم الإسلام، فقال (هو تحريم السؤال وفرض الأجوبة الجاهزة الصالحة للجميع ولجميع الأزمنة وجميع الأمكنة، هو اليقين الجامد والتفكير الساذج وايمان العجائز. ايمان العجائز يصلح للعجائز ولكنه لا يصلح للباحثين. هو العجز عن التطور وإنتاج الأفكار المجددة. وهو في الوقت نفسه محاربة القلة المجددة التي تظهر من حين لآخر مثل الشيخ نجم الدين الطوفي الحنبلي الذي سُجن وأُتلفت كتبه ، الفلاسفة والمتصوفة الذين راموا إصلاح الإسلام في عصرهم وكلفهم ذلك أحيانا حياتهم مثل السهروردي والحلاج. ومحمد عبده الذي رفض الأزهر لنصف يوم صلاة الجنازة عليه والطاهر الحداد الذي شيع جنازته بضعة أصدقاء) انتهى.
جميع هذه الأسباب التي عددها الأستاذ العفيف الأخصر، أسباب صحيحة، ولكني أود أن أضيف إليها أن محاربة التجديد التي ذكرها السيد العفيف، وخوف المسلمين الفوبي من فكرة التجديد، هو وصف كل محاولة للإصلاح بأنها بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، كما يقول الحديث المروي عن محمد. يقول رجل دين سعودي اسمه سمير بن خليل المالكي الحسني المكي، في كتاب عنوانه “نصيحة للعلماء” ما يلي: (وقد اتفق السلف رحمهم الله على مجانبة أهل البدع وهجرهم والنهي عن مجالستهم والدخول عليهم إلا للإنكار عليهم وإقامة الحجة عليهم وموقفهم من غيلان الدمشقي ومعبد الجهني وبشر المريسي والجعد {بن درهم} والجهم والحلاج وغيرهم مشهور) انتهى.
ويضيف نفس رجل الدين ((وجاء إنسان إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام، فقال ابن عمر: (إنه بلغني أنه أحدث حدثاً {بدعة}، فإن كان كذلك فلا تقرأ عليه مني السلام)) انتهى. إلى هذه الدرجة وصل خوف المسلمين من التجديد – البدعة- فهل يمكن إصلاح دين يفكر فقهاؤه بهذا المنطق الأعرج ويرفض رد السلام على من قال بشيء مخالف؟ هذا ما يجعلني أجزم أن إصلاح الإسلام سوف يظل حلماً يراودنا إلى نهاية الحياة على هذا الكوكب
سأل المحاور السؤال الآتي: قلتَ في مقال يتيم عن إصلاح الإسلام أنّ إصلاحه يمرّ بالإنتقال من مدرسة اللامعقول الديني إلى مدرسة المعقول الديني. فماذا تقصد بذلك؟
وأجاب الأستاذ العفيف بالآتي: (الإصلاح حقيقي هو إعادة تأسيس، هو ابتكار لنموذج جديد من العقلانية الدينية التي لا تعترف من الدين خاصة في المعاملات إلا بما يقبله العقل. كل إصلاح ديني يمر بقتلٍ رمزي للأب. في موضوعنا يمر بالقطيعة مع لامعقول التراث، وبحلّ مشكلة تنفيذ الجديد بالأدوات القديمة. كلا العمليتين تتطلّبان إصلاح التعليم والإعلام والخطاب الديني جُملةً. لا، بل أن إصلاح الإسلام لن يتحقّق إلاّ بالإنتقال من مدرسة اللامعقول الديني المُستمرّة منذ قرون إلى مدرسة المعقول الديني المنشودة الوحيدة المؤهّلة لعقلنة التعليم والخطاب الديني بما فيه الخطاب الديني الإعلامي. الإنتقال من مدرسة اللامعقول الديني إلى مدرسة المعقول الديني يعني الإنتقال من القراءة الحَرفيّة للقرآن خاصة المدني السائدة إلى اليوم تقريبا في كل مكان من أرض الإسلام إلى القراءات الأخرى المنافسة لها والتي همّشتها أو كفّرتها كالقراءة التأويليّة والمقاصديّة والرمزيّة والتاريخيّة التي مارسها القرآن نفسه بالناسخ والمنسوخ أي نسخ الآيات التي لم تعد متكيّفة مع مستجدّات التاريخ. واصل الخلفاء الراشدون وبعض الفقهاء هذه القراءة الناسخة للأحكام التي لم تعد تستجيب للواقع المعيش. هذه القراءة الأولى للنّص المُؤسِّس التي مارسها الراشدون ضرورية لنا جدّا اليوم) انتهى.
ولا شك أن قراءة الإسلام عامةً، وقراءة القرآن بالأخص، قراءة عقلانية هو المطلوب إذا أردنا تحديث أو إصلاح الإسلام. ولكن المشكلة الرئيسية هي إذا قرآنا القرآن قراءة عقلانية، فسوف نُلغي أكثر من نصفه لأنه يتعارض مع العقل كليةً، مثل إرسال الملكين إلى بابل ليعلما الناس السحر، ومثل مغيب الشمس في عين حمئة، ومثل أن النجوم رجومٌ للشياطين، ومثل للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك شهادة المرأة نصف شهادة الرجل. وبما أن المسلم يعتقد جازماً أن القرآن هو كلام الله الذي نطق به جبريل، فإن إلغاء آية واحدة يُعتبر هدماً للدين. وتأتي المشكلة الأخرى وهي عدم وجود مركزية إسلامية يمكنها فرض رأيها على الآخرين. فمن هو رجل الدين الشجاع الذي يستطيع إلغاء آية من القرآن كما فعل عمر بن الخطاب؟ بل هل يستطيع الأزهر أو قم أو كربلاء فعل ذلك دون أن تحدث حرب فعلية بين السنة والشيعة؟ الأزهر عجز حتى الآن عن مراجعة صحيح البخاري، وهو كتاب بشري جمعه رجل غير عربي، وبعد أكثر من مائتين سنة من موت محمد، ومع ذلك يرتجف شيوخ الأزهر من فكرة مراجعته، فهل يمكن لمثل هؤلاء الشيوخ أن يراجعوا القرآن ويلغوا بعض آياته غير العقلية أو حتى يقرؤونها قراءة عقلية تخرج عن تفاسير السلف الصالح؟
في اعتقادي الشخصي أن إصلاح الإسلام من داخله أمر مستحيل لعدم وجود الميكانيزم التي تسمح لرجال الدين بفعل ذلك. ورجال الدين في عصرنا هذا همهم الأول هو المتاجرة بالدين وجمع أكبر مبلغ من المال ممكن وبناء أفخم القصور، ثم إيجاد الوسيلة التي يتمكن بها رجل الدين من الوصول إلى الحاكم للتعاون معه لتجنب غضبه، وبالتالي قطع الرزق. وعليه لا يمكن إصلاح الإسلام إلا بالوسيلة التي يتعامل بها الإسلام نفسه مع الغير، وأعني الديكتاتورية وفرض الرأي على الآخر. ولذلك يلزمنا ديكتاتور متنور مثل كمال أتاتورك أو الحبيب بورقيبة لأزاحة رجال الدين من منصة الدولة وفرض الإصلاحات المطلوبة على الكل، ولن يتجرأ وقتها أحد على الاعتراض، كما حدث في خلافة المأمون والمعتصم والواثق عندما فرضوا خلق القرآن على الجميع وقبل به جميع شيوخ الإسلام ماعدا أحمد بن حنبل، الذي يقول مؤرخو الإسلام إن الرسول بشره بالجنة على ذلك (ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للإمام الشافعي في الرؤيا: بشر أحمد بالجنة على بلوى تصيبه في خلق القرآن. فأرسل الشافعي لأحمد كتاباً ببغداد يخبره فيه برؤياه، فلما قرأه الإمام أحمد بكى، ودفع للرسول قميصه الذي يلي جسده، وكان عليه قميصان، فلما دفع للشافعي غسله وادهن بمائه). هذا أنواع الروايات التي يؤمن بها شيوخ الإسلام ويدرسونها لطلبة الأزهر، فهل يُعقل أن تتفتح عقول مثل هذه وتقبل أن تقرأ القرآن قراءة عقلية؟ أشك في ذلك كثيراً..