رغم حصافتي ، وتعقلي ، وترفعي عن الأساليب الغوغائية في التعاطي مع أي شيء، في الفكر ، والحياة ، اكتشفت فجأة بأنني مجرد بوق إعلامي، وتلميذ نجيب للفضائيات العربية، ولما تقوله وتروج له.
إذ ما أن أسمع رأياً بمطرب أو ممثل أو كاتب، أو نصيحة طبية، أو سرقة أدبية، أو فضيحة مالية أو سياسية أو رياضية ، حتى أسارع وأنقل كل ما سمعته حرفياً ، لكل من أعرف شخصياً أو هاتفياً أو بريدياً. ويصبح ما سمعته شغلي الشاغل ، وحديثي اليومي في البيت والمقهى والبقاليات ، وعلى الطريق مع ما لا يحصى من ثبوتاتي واجتهاداتي الشخصية، حتى أسمع نبأ آخر أو فضيحة أخرى.
وكان آخر ما سمعته في هذا المجال من إحدى الفضائيات العربية ، هو حديث طبي عن أهمية “الألياف” للجسم في سن معينة، والمواد الغنية بها من فاكهة وخضراوات، وحبوب، وأجبان وألبان. فأقبلت عليها جميعاً، هرساً، وعصراً ، وتقطيعاً ، لتعويض ما يكون قد فاتني من هذه المادة . حتى كدت في يوم من الأيام أن آكل “ليفة” الحمام.
كما كنت لسنوات طويلة، أعتقد بأن براعتي الأدبية أرض محرمة لا تستباح، وأنه لا الحاجة ولا المادة، ولا الغربة، ولا البطالة، ولا السوط، ولا الشهرة، ولا الإهمال، يشغلني لحظة واحدة عما يجري من حولي من أحداث وتطورات ومستجدات، إلى أن خضعت لأول اختيار عملي، حيث تبين لي أن كل آرائي ومواقفي الحازمة ضد هذا الاغراء أو ذاك، ما هي إلا أوهام وترهات، وأن ثقتي بنفسي ليست عمياء وصماء، بقدر ما هي مضحكة وبلهاء.
ففي منتصف العمر، دعيت للعمل معززاً مكرماً في إحدى صحف الخليج، فلبيت الدعوة على الفور لأسباب عديدة، وأهمها إغناء تجربتي الشخصية والطبقية، وكنت كلما سألني أحد، كيف، وأنا الثوري المتطرف في كل شيء ومع كل شيء أقبل أن اعتاش من مؤسسات وبلاد هي نقيض لذلك؟ أجيب بانفعال وعلى الفور: ماذا أفعل؟ الفم يساري، والمعدة يمينية.
وبعد سنتين من مكابدة الصحاري الرملية والبشرية، ومخالطة الهنود والباكستانيين والايرانيين والكوريين والسنغاليين، والأفغانيين، والأفخاذيين، المتصببين عرقاً وبؤساً وغربة، ادخرت مبلغاً من المال، اعتبرته كافياً لتربية أطفالي التربية الصحيحة، واتقاء مجاهيل الكبر والشيخوخة. وقد حرت في أمر صمود هذا المبلغ المدخر في أحد البنوك كوديعة بإحدى العملات المستقرة والمضمونة والبعيدة عن الأنظار، حيث أستطيع كسر الوديعة، واسترداد المبلغ متى شئت وحيث أكون، فوافقت على الفور، وأودعت شقاء الغربة في أحد المصارف الشاهقة الارتفاع بإحدى العملات المستقرة والمضمونة، ونمت تلك الليلة نوماً عميقاً هانئاً معافى ، بعد أن شربت قدحاً من “النسكافيه” قهوة الشباب العري الناجح.
ولكن ما إن استيقظت صباح اليوم التالي، حتى صار شغلي الشاغل هو متابعة أسعار العملات المحلية والعربية والأجنبية ، من الصحف والمجلات والاذاعات والاشاعات.
وصرت كلما سمعت نبأ اقتصادياً مزعجاً في أية بقعة في العالم، يركبني الغم، وأفقد شهيتي للطعام والعمل، وأقرر كسر الوديعة، وكلما سمعت نبأ إشاعة مغايرة، أتنفس الصعداء وأقرر الابقاء عليها.
وعندما وقعت بعض الاضطرابات السياسية والعشائرية في البلد الذي وضعت الوديعة بعملته، عكفت على قراءة تاريخه ومساحته ومناخنه، وعدد طوائفه وأحزابه، والتيارات المتصارعة فيه، ومن حوله، وما عليه من مسؤوليات وقروض. وكنت أرغم جلسائي بالقوة والحسنى على الحديث عنه وعن مستقبله، مؤكداً على متانة عملته وثبات اقتصاده، وأن كل ما يجري فيه ومن حوله مجرد سحابة عابرة سرعان ما تزول، لأن إرادة الشعوب لا تقهر، وإن المؤامرات الاستعمارية عليه ستفشل. وأن الرهان على العملة المتدهورة ليس خاسراً دائماً، بل العكس هو الصحيح، كما كانت الحال بالنسبة إلى المارك الألماني والين الياباني بعد الحرب العالمية الثانية. وعندما أخلو إلى نفسي أغرق في الهم والحيرة والتردد: هل أكسر الوديعة؟ أم أبقي عليها؟ وإذا كسرتها، فبأية عملة استبدلها؟
ومرت الأيام والشهور والسنوات…
وتغير مفهوم العمل في الصحافة والنقد والمسرح، وأساليب الكتابة والقراءة والالقاء والاصغاء.
ونزلت إلى الأسواق عشرات الصحف والمجلات، والدواوين الشعرية والقصص والروايات الأدبية الجديدة.
ومئات الأحزاب والطوائف والميليشيات والعشائر التقدمية والرجعية والأصولية.
واجتاحت اسرائيل جنوب لبنان
ونزل المارينز على شواطئ بيروت
واندلعت حرب الخليج
واغتيل أنور السادات
وجرت محاولة لاغتيال نجيب محفوظ
ومات أمل دنقل، ويوسف إدريس، وعاصي الرحباني، وميشال طراد
وشاخ من شاخ ، وخرف من خرف
وأنا لا عمل لي سوى التسكع في الطرقات والتساؤل: هل أكسر الوديعة؟ أم أبقي عليها؟ وإلى متى؟ لقد صارت عندي أهم من وديعة رابين… إلى أن سقطت ذات يوم في حفرة من حفر الانشاءات أو الترميم لا أحد يعلم، فكسرت يدي وقد انفقت واستدنت ضعفي قيمة الوديعة في العلاج والاستطباب.
وقد أشار علي أحد المنظرين العرب في قضايا حقوق الانسان، بأنني لست المسؤول عما حدث، وأن المسؤولية تقع على عاتق الجهة الرسمية التي لم تحتط للأمر، ولم تضع إشارة واضحة لوجود الحفرة لا في الليل ولا في النهار، وإنه يحق لي كمواطن المطالبة بتعويض قد يصل إلى مئات الألوف. وعندما قدت الجهة الرسمية المسؤولة عن مثل هذه الحفر، ويدي معلقة بعنقي، نصحني موظف الاستعلامات بأن أنصرف فوراً، وإلا كسروا لي الثانية.محمد الماغوط (مفكر حر )؟