إشكالية قبول الأخر

فواد الكنجي

إشكالية قبول الأخر

فواد الكنجي

إشكالية قبول الأخر؛ إشكالية بنيت معالمها بتجربة إنسانية وصلت إلينا نتيجة معاناة وعبر تجارب مرت بها مجتمعات العالم وانتقلت حصيلة تلك التجارب إلينا؛ فبنت مفاهيم تلك التجارب من خلال ما كان منسجما مع معطيات وطبيعة الأخلاق السائدة في البنية الاجتماعية للمجتمع الذي نعيش فيه؛ ففرضت نفسها كقيمة حضارية إنسانية عامة؛ ومنها ما كان معطياتها مخالفة ومتناقضة لما هو سائد في المجتمع وحضارته؛ ونستطيع القول بان إشكالية قبول الأحر .. أو الرأي الآخر.. أو عدم إقصاء الآخر.. أو عدم إلغاء الآخر.. والتعايش مع الآخر؛ لم يكن وليد لحضارة بعينها؛ وإنما أتت نتيجة وحصيلة تفاعل بين الحضارات المختلفة .

الاختلاف البشري والتنوع الفكري حقيقة واقعية

فـ(إشكالية قبول الأحر) هو من المفاهيم المعاصرة والحداثة؛ وهذه الحداثة لا يعني لم يكن لها جذور في ثقافات مجتمعاتنا؛ لأننا كـ(مجتمعات شرقية) نؤمن بحقيقة الاختلاف البشري وبالتنوع الفكري كحقيقة واقعية لا يمكن إلغاء هذا التنوع بقدر ما يجب إن نقوم به هو مواصلة في البحث والتعمق في معانيه لاغتناء محتواه بموضوعية من اجل وعي مدى أهمية (قبول الأخر) ومعرفة قيمة؛ بكونها واقع نعيشه نحن البشر ولأنها الحقيقة الإنسانية باعتباره حال فوق الاستلاب العقلي أو العاطفي، لان (قبول الآخر) يقتضي منا – أولا وأخيرا وقبل أي شيء – إدراك أن هذا القبول لا يتعدى من الناحية العملية سوى قبول وتفهم وجود هذا (الآخر)؛ وهذا القبول لا يعني أو يقتضي بأي حال من الأحوال اعتناق فكر هذا (الآخر) ليصبح هو نفسه ذلك (الآخر)، لان لكل فرد له قدراته وإمكانياته؛ وهذا لن يكون سببا في عدم التواصل معه وتقبله؛ لان قاعدة المرتبطة بـ(تقبل الآخر) تبنى وتنطلق من مبدأ فهم (الرأي الأخر) واستماع له؛ ولكن لست مقتنعا به؛ ولست مضطرا أن تعمل به؛ لأنه ليس من الصحيح إن تبذل مجهودا في إقناع الآخر برأيك؛ ومن الخطأ إن تحاور الناس كي تجبرهم على فعل ما تراه أنت صحيحا، لان أولا وأخيرا يجب إن نؤمن بحق هذا الآخر بالوجود؛ وبناءا على هذا البناء الفكري فإنه من غير الضروري أو المنطقي الخلط بين (قبول الآخر) – أيا كان هذا الآخر – وبين حالات الفتن الدينية.. أو المذهبية الفكرية.. أو سياسية.. أو الاعتداءات العسكرية؛ التي حدثت خلال مراحل مختلفة من تاريخنا؛ وحتى الديانات جميعها تتقبل حقيقة (الاختلاف) أنه – كما يقال – (لو شاء الله لجعل المختلفين أمة واحدة)؛ عندها لن يكون هناك مشكلة مع (الآخر) ولا في قبوله؛ لأنه لن يكون هناك (آخر) نختلف معه، لان – كما تذهب اغلب الديانات في العالم – لقد (خلقنا) هكذا منذ البدا (مختلفين)؛ لذا لنتأمل الكون بأشخاص متماثلين في كل شيء؛ عندها – لا محال – سيكون (الملل) مخيما على العالم .

الاختلاف هو نبض الحياة

ففي (الاختلاف) تنبض الحياة وتتطور البشرية ؛ وهذه هي حكمة الخالق، لذلك فان الفروق العرقية.. والدينية.. والثقافية.. والحضارية؛ أمر جوهري في (الحياة الاجتماعية) لا يمكن تخطيها؛ لأن التماهي بين هوية (الأنا) وهوية (الآخر) شرط وجوبي ووجودي للتعايش؛ في حين أن الفروق والتمايزات في الحقوق والحريات ناجمة عن (مفاهيم سياسية) ليس إلا، فـ(التعايش) ممكن بشرط إيمان الجميع بوحدة كيان سياسي واجتماعي ومحو الفروق؛ وفي هذه الحالات يمكن التعايش ولكن بعد صعوبات ناجمة داخل العملية نفسها مثل كيفية إجراء التنظيم والتنسيق بين الأطياف المختلفة التي تملك حق الوجود والمصير؛ كما إنه من الممكن تحقيق السلم الاجتماعي نتيجة (التعايش) وفق مبادئ مشتركة ووصول إلى الحل الوسط، وهنا لا بد من نبین بأن لكلا (الرأيين أو الاتجاهين) نقاط قوة وضعف، لكن علی الرغم من ذلك؛ هناك إمكانية لـ(التعايش) تعتمد على مدى الالتزام بثقافة التسامح.. والتآخي.. وتطبیق آليات ومناهج العمل وفق مبادئ أخلاقية رصينة، كما تعتمد أيضا على (حرية الإرادة) و(قبول الآخر)؛ ذلك أننا لا يمكن أن ننفي حقوق الأخريين؛ لأن (الحقوق) مفهوم عالمي لا تنحصر ولا تقتصر على (عرق ما أو (قوم ما) دون ‌غيره؛ وفضلا عن ذلك لابد من مراعاة الحقيقة البديهية والتي مفادها أننا لا يمكننا نفي وجود (الآخر) من حياتنا؛ لأن (هوية الذات) كبشر بقدر ما تعتمد على الرؤية الداخلية لأنفسنا، فإنها تعتمد أيضا على اعتراف الآخر بـ(هويتنا) .

تقبل الآخر حقيقة وجدت منذ بداية الخليقة

إن تتقبل (الآخر) يعني احترامه مهما كان الاختلاف معك في العرق.. أو الجنس.. أو حتى اللون؛ فان أخذنا (أسطورة الخلق) كما وردت في الديانات؛ فان البدا بدا منذ إن خلق الله (آدم) خلق له كائنا آخر هو (حواء)، فكانت تربطهم محبة وتعاونا فتكون مثالا جيدا لـ(تقبل الآخر) منذ بداية الخليقة.

ومن هنا نستنتج بان الضامن على المدى البعيد لعلاقة بين المختلفين تحكمها ضوابط (العيش المشترك) مع ممارسة كل طرف حقه في اعتناق ونشر ما يعتنقه من فكر، وهنا يكون (القبول) ضامنا للسلم الأهلي وبوجود الاحترام والحرية الفكرية؛ ومع ذلك فان تلك المسائل لها نقاش وبحوث من نوع آخر ولا ينبغي الخلط بين الناقشين أو هذه المواضيع؛ وعلينا إن نركز في حلقة (التعرف على الآخر)؛ فمن هو (الأخر)…………؟

(الآخر) هو كل إنسان مختلف عنك سواء كان هذا الاختلاف شكليا.. أو عرقيا.. أو ثقافيا.. أو دينيا؛ فالبعض عرفه (بأنه كل شيء يكون خارج نطاق الأنا)، أو يمكن إن يكون الأخ.. أو الأخت.. الزميل.. أو الصديق.. أو شريك الحياة.. أي كل من يختلف عنك في اللون.. أو الشكل.. أو المظهر.. والجنس.. والعادات.. والتقاليد.. أو حتى التوجه السياسي أو الديني .

قبول الآخر ثقافة تكتسب منذ الصغر عن طريق التنشئة والتربية

فان تقبل الإنسان نفسه وذاته فهو بدون ادني شك سوف يتقبل (الآخر)؛ وان كان الآخر بهوية (المجهول)؛ فان من طبيعة البشرية هو التخوف من (المجهول) والحذر منه؛ وهو التخوف والحذر مشروع؛ ولكن علينا إن ندخل عالم المجهول لكي يصبح معـــــلوم .

فـ(تقبل الآخر) شيء صحيح ويسهم في تقدم الشعوب؛ كما إن (الحيادية في التفكير) و(تقبل رأي الآخر) يمكن إن يفتح لدينا أماكن مظلمة لم ننتبه لها، بذلك فـ(تقبل الآخر) يمكن إن يضيف لدينا تقبل مفهوم (الاختلاف)، فإن وجود الانشقاقات والاتهامات المتبادلة بين الأفراد سواء على المستوى الفردي أو المجموعات قد يرجع ذلك إلى (عدم تعلم تقبل الآخر واحترامه)، وان عدم (تقبل الآخر) في (مجتمع ما) يرجع السبب بدرجة الأولى إلى عوامل (التنشئة) والتي تبدأ بـ(التربية الأسرية) و(التربية المدرسة)؛ فـ(سلبية التنشئة) هي التي تسبب عدم القدرة على التعبير بصورة إيجابية عن الذات؛ فتبدأ المشكلة من محيط الأسرة.. إلى المدرسة.. وتنتهي بالمجتمع .

ومن هنا فان (التربويون) يذهبون إلى التأكيد على بأن (قبول الآخر) ثقافة تكتسب منذ الصغر؛ لأن الإنسان قادر من خلال طريق (التنشئة) و(التربية) و(التثقيف) أن يصلح أخطاءه ويتجنب الشرور وإنكار (الآخر)؛ فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكن ترويضه وإصلاحه؛ إذن (التعايش) ليس بالأمر المستحيل؛ ولكن يحتاج إلى أمر آخر وهو (قبول الآخر)؛ وأنه يمكن تنمية فهم (الطفل) لـ(الآخرين) وذلك من خلال:

أولا … من خلال احترام الآخرين عبر تمييز وقبول (الاختلافات) معهم، وتمييز القدرات والمواهب الخاصة والأداء المتميز لديهم .

وثانيا … وكذلك من خلال فهم مشاعر (الآخرين) من خلال تمييز واحترام مشاعرهم واحتياجاتهم؛ وفهم تأثير تصرفات الشخص على مشاعر وسلوك غيره .

وثالثا … وكذلك من حلال مهارات العيش في جماعة وتتمثل في القدرة على التفاهم مع (الآخرين) والتعاون داخل جماعة إنسانية رئيسية أو ثانوية؛ والقدرة على الدخول في صداقات وإمكانية التشارك والمشاركة مع (الآخرين) بروح من اخذ وعطاء.. وتمييز مزايا العمل مع (الآخرين).. وفهم وتلمس الاحتياج للقوانين والاتفاقات بعد امتلاك القدرة على وضعها أو سنها ثم الامتثال للعيش في ظلها .

ومن هذه المعطيات علينا إن نعالج كل مظاهر السلبية التي تظهر في المجتمع لنربي أبناءنا على تربية (تقبل الآخر).. وثقافة التعددية.. وثقافية التسامح.. وثقافة التعايش.. وثقافة التآخي؛ بعيد عن (التعصب) و(الاختلاف)؛ لان (تقبل الآخر) يعطي فرصة لتبادل الخبرات وإزالة الأفكار السلبية؛ لان بغلاف ذلك فن ما يسود في المجتمع الذي (لا يتقبل الأخر) و(لا يتقبل الاختلاف) يكون المجتمع عرضة للتفكك ويكثر فيه الصراع.. وينعدم الأمن.. والاستقرار؛ وبذلك يكون هذا المجتمع بيئية خصبة للجماعات المتطرفة .

لا يمكن جمع الناس بفكر وفعل واحد دون وجود اختلافات بينهم

لان (الاختلاف) بين الناس سنة كونية منذ إن خلق هذا الكون و(قبول الآخر) طبيعة بشرية؛ لان من الطبيعة البشر هو المستحيلات جمع الناس بفكر وفعل واحد دون وجود (اختلاف) بينهم في الرأي.. والفعل.. والتصرف، لذلك فان (قبول الآخر) هي سمة إنسانية لتعايش المشترك؛ وبهذا (التعايش المشترك) يتجاوزون على مشاكل ومحن التي يواجهونها في حياتهم، و(ثقافة تقبل الآخر) يعني بالضرورة ما يجب أن يستقر في وعي الجميع من خلال ما ينشر من الوعي في (وسائل الإعلام) المرئية والمقروءة؛ وما يجب أن يدرج في (مناهج التربية والتعليم) ويطبق على أرض الواقع ويقوم في كيانه على الاحترام وتقدير حجم الاختلاف الثقافي.. والإثني.. والديني.. والبيئي بين أفراد هذا المجتمع المتعدد؛ مع تقبل أوجه هذا (الاختلاف) من الجميع والتذكير دوما بأهمية انضواء تحت (الهوية الثقافية) لـ(الوطن) قدر المستطاع، والحرص على خطاب التعايش؛ لذلك فـ(قبول للآخر) وتعايش معه هو واقع ألفى (الاختلاف) بين الناس ودليل على كمال العقل البشري الواعي والسعي إلى تحقيق هذا المشترك بين الناس بين غافل لها.. أو متغافل عنها.. من الذين ترعرع في الجمود والانغلاق والانكماش وقصور في الفهم.. ونشؤ على التفرد والاستبداد بالرأي والفكر بغلق أبواب عقولهم على الذات.. وبين الواعي العاقل المتقبل (للأخر) وهم من ذوي المعرفة والرقي يبحثون عن أدرك حقيقة والتعايش و(قبول الآخر) وتأدب بآداب المعرفة وضوابطه وأدرك المقاصد ويتلهفوا إليها باعتبارها همزة وصل تفتح لهم آفاق غير محدودة لتنور إنسانيتنا من خلال (الآخر) ليشرق مستقبلنا في أمن وأمان .

التعايش فلسفة للحياة ومن متطلبات لاستمرار الحياة

فـ(التعايش) ما هو إلا استجابة للحياة المستقرة علی الرغم من أنه أهم متطلبات لاستمرار الحياة؛ فهو أيضا نتيجة للتفاهم والتوافق حول بعض المسائل شرط عدم التدخل في اعتقاد الغیر أو فرض الرأي علی الآخر؛ بمعنى إن (التعايش) ليس انعدام رأي خاص حول مسألة معينة؛ وإنما انعدام عائق في طريق التفاهم والتناغم الاجتماعي، فإن (التعايش) كـ(مسايرة) الوضع ومجاراته أو التنازل عن المعتقدات؛ هو عبارة عن تجارب ومعاناة مريرة وفهم قسري لحقيقة مزدوجة مفادها أن لا مخرج للجميع، إلا من خلال العيش سوية؛ أي ليس اختيارا ذاتيا؛ وإنما حالة اضطرارية وقسري يتطلب أمره (التسامح) بسبب عدم وجود بديل آخر؛ لان القناعة ليست ذاتية وليست نابعة عن تفاهم؛ وإنما (مداراة) و(مسايرة) الوضع لكي لا تسيء الأمور؛ علی الرغم من انعدام الارتياح والقبول الداخلي، إذن (الظروف الموضوعية) هي التي تقرر هنا؛ وبالتالي تؤمن مساحة مشتركة؛ وليس الأمر بدافع من رغبة ذاتية للتعايش المشترك كمصير لإنسان .

لذا (التعايش) كاختيار ذاتي وقبول الآخر كعملية أخلاقية وفق مبدأ الاختلاف.. والحرية.. والمساواة؛ وإيجاد حلول مشتركة للوجود الاجتماعي لكل فرد وجماعة تختلف كليا عن (المسايرة)؛ لذا لا يشترط عدم وجود (نقد) علی الآخر؛ بل إن القبول يعني: (أن أقبل رأيك كما هو في حياتك دون المساس به.. وبالمقابل تعترف بنفس الحق تجاهي كمبد‌أ وواجب أخلاقي واجتماعي وليس كتكتيك سیاسي)، لان (أخلاقية التعايش) تحتاج إلى (العقل السليم) الذي بقدراته الذهنية السليمة يحسم الخلافات واقتراح حلولها، فالحرية.. والمساواة للجميع كقانون كوني مطلق والاعتراف بهذا الأمر يعني (قبول الآخر) کما هو لتحقیق التعایش السلمي ولیس ألقسري.

لذلك فان الإنسان بحاجة لفهم (فلسفة التعايش) والمعنى الحقيقي لمفهوم (التعايش) للظفرِ بحكمه؛ لأن فَهم (فَلْسفة التواصل والتعايش مع الآخر) أمر ضروري في عصرنا الراهن، وذلك من اجل مواجهة ظواهر العنف التي بدأت تتسع ركعتها في كل المجتمعات العالم نتيجة انعدام العيش المشترك لها نتيجة التعصب والركض بغير وعي وراء أشخاص متعصبين ومتحجري (العقل) وإخراجه عن وظيفته الطبيعية في تناول قضايا المشتركة بين بني البشر؛ ليصبح استيراده للأفعال والأقوال اتجاه الآخرين من زاوية واحدة دون أدنى حرج؛ وهو من أبرز سمات وأسس هذه الأزمة المتجذرة والتي تتمثل في نبذ الآخر وعدم قبوله .

الإنسان كانسان في أي بقعة من العالم يتساوى مع غيره من الناس في كل شيء

أن (التعايش) هو مشترك إنساني وضرورة واقعة وأمر طبيعي بين بني البشر وهذه السمة هي من الفطرة الإنسانية التي يؤمن بجوهرها جميع البشر بكونهم متساوون في الحقوق.. والكرامة الإنسانية؛ ولا يوجد هناك تمييز بين الأفراد سواء أكان (عرقيا) أو (ثقافيا) وغير ذلك؛ لان الإنسان هو إنسان في أي بقعة من العالم ويتساوى مع غيره من الناس في كل شيء؛ وهذا الفهم هو ما يدفع بالإنسان للعيش المشترك مع الآخرين واحترامهم وقبولهم؛ لأن (التعايش) و(قبول الآخر) يعد ضرورة اجتماعية ووجودية؛ لأنها تعني الاعتراف بوجود الذات (الأنا) و(الآخر)؛ لان (التعايش) – أولا وأخيرا – ما هو إلا عملية عقلانية وسلوك أخلاقي نابع من التربية السليمة؛ لأنه لا يتم من دون (قانون أخلاقي) بمفهوم عام لمعنى (الأخلاق) و(التعایش) والذي لا يتم من دون الاعتراف بحق (الآخر) ورؤية (الذات) و(الآخر) على السواء؛ وهذا مبدأ أساسي لمفهوم العدل والديمقراطية؛ لان المنطق يقول:

(لا) العدل و(لا) الديمقراطية تنجح من دون التعددية.

ولا (التعددية) من دون (التعايش).

ولا التعايش من دون (قبول الآخر).

لنصل الى نتيجة مفادها:

بان ( قبول الآخر) شرطا وجودي لا يمكن إغفاله في حياتنا كأفراد.. ومجتمعات.. ومعتقدات .

لان أهمية (التعايش) تكمن في الحقيقة التي تضمن البيئة النفسية والجسدية اللازمة للأفراد والمجموعات أو المنظمات والجماعات؛ وذلك يتم من خلال تقليص الفجوة بينهم وحل النزاعات الطارئة بطريقة سلمية تضمن حق وجودهم وتواجدهم مع الآخر في نفس الوقت؛ لكي تكون العلاقات الجارية بين الفئات بصورة اللا عنف لأنها مبنية علی مبدأ (المشاركة) و(الوفاق) في كل نواحي الحياة، لنفهم :

بان لا وجود سلمي من دون (التعايش).

لأن (التعايش) مع الآخر يسبق وجود الذات.

لان الوجود الإنساني لا يكتمل من دون العلاقة التي تربطه بالآخرين.

لان الحياة من دون الآخرين بلا معنی ولا قيمة.

نعم.. إن تفاوت (الإدراك) أثناء إعمال العقل.. والفكر.. والنظر في الأمور وتباين المقاصد والمرامي نتيجة تدافع مصالح الناس؛ وهذا الأمر الذي يفرز (الاختلافات) متعددة السبل والطرق؛ ولكن هذا (الاختلاف) أمر طبيعي ولا ضرر في ذلك ما دام (الاختلاف) ينطلق من فعل نبيل؛ ومنه نفهم أن (الآخر) إن كان قصده سليم لا ضرر بما يصدر منه لان (التعايش) هو الإقرار بحق (الاختلاف) بين مختلف الأفراد في مجتمع واحد، وأن من حق كل فرد إن يمارس حقه في التعبير بشكل مختلف؛ لان (الاختلاف) بطرق سلمية بعيدة عن النزعة الفردية والتعصب لان طريقة التفكير من اجل تحقيق (التعايش) والذي يستند على مقومات العقل السليم أي (التفكير العقلاني) المتجرد من الأهواء.. والعواطف.. والانفعالات (المذهبية والعرقية) ويحتكم إلى الصالح العام.. ويتسم بالموضوعية.. وعدم التحيز لأي أمر كان، وهذه الطريقة في التفكير هي نقيض التعصب.. والتطرف.. وإلغاء الآخر.. واحتكار الحقيقة.. والتمييز بين أفراد المجتمع ومكوناته .

التفكير العقلاني السليم يعزز من قيم التسامح والاحترام وحق الآخرين

إن طريقة (التفكير العقلاني) السليم يعزز من قيم التسامح.. واحترام حق الآخرين في الاختلاف والتعامل الحضاري والإنساني مع الآخر؛ سواء أكان ضمن نطاق المجتمع أو الآخر؛ وترفض احتكار الحقيقة؛ لان (الحكمة) تقول يجب التركيز على (العقل) في التعامل مع (المشكلات) أو (الاختلافات) بين مكونات المجتمع وتعزز من التآخي.. والعيش المشترك بسلام بين الجميع، وفي حال (غياب التفكير العقلاني) ستكون النتيجة أما (تحجر الأذهان) و(صمم الآذان)؛ الأمر الذي يبرز الضعف.. والوهن.. والتشرذم في المجتمع؛ بسبب افتقارها إلى أبسط مبادئ (التعايش) .

فـ(قبول الآخر) هو قبول الاستماع إليه.. والدخول في حوار معه.. و قبول التعامل معه.. والمحبة.. والتآخي.. والتساهل في كل ما لديه من اعتقادات وسمات وأفكار وتصورات وتصرفات؛ و كذلك يشمل مبدأ (قبول الآخر) في فكرة التزاوج وقبول التعايش برفقته، ففكرة قبول الآخر (لا) تعني بالضرورة التنازل للآخر والتسليم بكل ما يعتقد فيه أو يفكر به أو التساهل أمام سلوكه مهما كان وأمام أقواله مهما كانت مغلوطة، وهنا لابد من التميز بين :

أولا.. فكرة القبول.

ثانيا.. فكرة الاتفاق.

لان هناك فرق شاسع بين المصطلحين فـ(الاتفاق) يعني تحديد النقاط التي يجمع عليها أشخاص يهتمون بموضوع أو موقف مشترك؛ وقد يعبر عن مجموعة القيم.. والمعتقدات.. والاتجاهات.. التي يتخذها أعضاء ثقافة معينة، والتي تمثل إطارا متفقا عليه بغية تحقيق التكامل الاجتماعي؛ لذا فإن من الضروري أن يوجد قدر (ما) من الاتفاق حول شرعية النظام السياسي.. وتوزيع الأدوار.. وتحديد المسؤوليات.. وبناء المكانة.. والاتفاق على نوع من التضامن والمشاركة في القيم.. والأهداف.. والقواعد التي تحكم النسق الاجتماعي وهو شعور بالوحدة أو الكيان الكلي؛ ولكن هذا (لا) يعني بالضرورة أن (الاتفاق) يأتي كاملا داخل هذا النسق في كل الأوضاع والظروف والأحوال؛ وهو قد يكون كبيرا في موضوعات معينة أو مواقف محددة؛ وصغيرا أو محدودا بالنسبة لأخرى؛ وكذلك تختلف نسبة السكان الذين يشتركون في (الاتفاق) حول نقاط محددة؛ ومن العسير تحقيق اتفاق أو إجماع مطلق في المجتمعات الكبيرة المعقدة التي توجد بها طبقات مختلفة المصالح.. وجماعات.. وديانات.. وثقافات فرعية متنوعة.. ومجتمعات محلية متعددة.. وتوزيع غير متعادل للقوة والسلطة.. وتباين القدرات.. وفرص التعليم.. والموارد.. والمهن.. والوظائف، لذلك فان (الاختلاف) هي في صميم الطبيعة البشرية لا يمكن إنكارها؛ ولو تأملنا في هذه الأمور سنجد أن المشكلة التي تواجهنا في الكثير من الأحيان هي عدم قبول (الاختلاف) وليس (الاختلاف) في حد ذاته، وبسبب (عدم قبول الآخر) اندلعت حروب على أساس دينية أحرقت الأخضر واليابس وقتلت وأحرقت المختلفين دينيا وعقائديا ونتيجة ذلك يتم كراهية الآخر بدرجة قد تصل لتبرير العمليات الإرهابية ضده .

الهوية اعتراف متبادل بيني وبين الآخر فوجود (الأنا) من دون (الآخر) غير ممكن

وفي حقيقة الأمر، فإن (الاختلاف الفكري) بين البشر يمكن تحويله إلى طاقة (إيجابية) بدلا من طاقة(سلبية) إذا تأملنا في أسبابه وأدركنا أعماقه؛ لان (التعايش السليم) و(ثقافة تقبل الآخر) في مجتمع كـ(مجتمعاتنا الشرقية) المتعددة الجنسيات.. والديانات.. واللغات؛ يكون من أساسيات الواقع الذي يجب أن يعاش ويفرض وفق مبدأ الاحترام المتبادل؛ و أداء كل فرد واجباته اتجاه (الشعب) و(الوطن) وفق الواجب المكلف به، ولاشك في أن (التعايش) شرط ضروري لصيرورة أي النظام وإقامة حكومة مدنية.

لذا يبدو بان (التعايش) و(قبول الآخر) من المرتكزات الأساسية في (السياسية) و(فلسفة الحياة) بغية رسم خارطة سلمية للتنوع (العرقي) و(الديني) من ناحية ومن ناحية أخرى هو بمثابة مؤشر أخلاقي في التطبيق العملي؛ لأنه يبين مدى عمق (المسؤولية الأخلاقية) تجاه الذات أولا ثم الغير والعكس؛ لان علاقة (الذات ..الأنا) بـ(الآخر) مرتبط بمفهوم (الهوية)، حیث إن الأخلاق جزء لا يتجزأ من هوية الإنسان؛ كما أن الهويـة الخلقية لـ(أنا) تشتمل علی اختيار وقرار عقلاني كأساس للعمل.. والفعل.. والسلوك؛ بمعنى إن الفاعل الخلقي يطلب أن يكون صاحب قرار.. وحرا في الاختيار.. وفي تصرفاته؛ وهنا (الأنا) هو بمفهوم شمولي يشمل كل شخص (عاقل) و(حر)؛ خارج التحديد (الزمني) و(المكاني)؛ وهذه الخاصية تصبح بالتالي بمثابة تعريف عام لصاحب (الهوية) الخلقية والتي تشمل كل كائن إنساني؛ ولكن هناك نقطة مهمة مفادها أن الذي يحدد هوية (الذات..الأنا) ليس فقط صاحبها؛ وإنما (الآخرين) أو (الآخر)؛ وهذا من خلال اعترافه بـ(هويتي).

إذن (الهوية) اعتراف متبادل بيني وبين الآخر، وبالتالي فإن وجود (الأنا) من دون (الآخر) غير ممكن؛ لأن قولي (أنا) إنما يدل على تميز ذاتي من غيري الذي هو (الآخر) شرط وجودي (لذاتيتي الإنسانية)؛ هذه (المعادلة الوجودية) لا يمكن نكرانها؛ إذن فالمسألة تتعلق باعتراف حقوقي تجاه الغير في الحياة السياسية والاجتماعية؛ وهذا الاعتراف يمر عبر حرية الإرادة والاختيار كي يكون (الفرد) أو (الأنا) مسئولا عن أفعاله وما يصدر عنه، فـ(الحرية) هو مفهوم على (انفتاح الذاتي)؛ وهذا (الانفتاح) ليس إلا تحرر (الفرد) من الوضع أو الحالة التي وقع فيها نفسه، إما بسبب (ذاته) أو بسبب (غيره)؛ ولكي یکون الإنسان (منفتحا) على (الأخريين) لابد أن يقرر بنفسه ويختار بحريته؛ ومن هنا فان (الحرية) شرط ضروري لـ(الأنا) ولـ(الآخر) على السواء؛ فـ(الحرية) في تقرير المصير الذاتي لـ(الأنا) مقابل (الآخر)؛ وهذا الأمر يدل على (هوية مستقلة)؛ ولكي ننظم كيفية ونوعية العلاقة مع الآخر؛ لابد من وجود مبدأ (أخلاقي موضوعي) يضمن ويؤسس هذه العلاقة .

This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.