(مراجعة نقدية لبحث أكاديمي إسرائيلي)
“إسرائيل وحماس – بين الصراع الفكري والصراع الديني ” دراسة اكاديمية سياسية تاريخية لثلاثة باحثين هم: الدكتور شكيب رجا صالح من قرية المغار ،محاضر أكاديمي في جامعة بار ايلان وكلية صفد، الدكتور الياس عفيف سليمان من قرية الجش له إصدارات في الدراسات الشرق أوسطية ويعمل مديرا لقسم المعارف في مجلس الجش المحلي، والباحث يعقوب حبقوق، أيضا له إصدارات ويعمل في وزارة الدفاع الإسرائيلية. ما لفت انتباهي في البداية إطلاق صفة مستشرقين للمؤلفين على أنفسهم، الأمر الذي رأيت فيه خطأ وتسرع، ربما يلائم الأمر الباحث اليهودي. رغم مرور أكثر من عقد على صدور الكتاب الا انه يتميز بكونه وثيقة هامة لفهم هذه العلاقة التي باتت تشكل اليوم واقعا مقلقا لإسرائيل وللشعب الفلسطيني.. وأهميته في كشف الانتقال من التماثل إلى الصراع.. وهي حالة لا تختلف عن التماثل واللقاء في المصالح الأمريكية والغربية عامة مع تنظيمات أصولية مثل القاعدة ووريثها تنظيم داعش، وسقوط وهم تماثل المصالح.. ويبرز الثمن اليوم بكارثيته للعالم العربي ولاقطار اوروبية عديدة.
طبعا هذا يعمق أهمية الكتاب وقيمته في استعراض أحد المواضيع شديدة الأهمية في الواقع الفلسطيني والإسرائيلي، التي تلقي ظلالها القوية على مساحة الشرق الأوسط كله.. واليوم مع ما يجري في الشرق الأوسط يلقي ظلاله المؤلمة والمخيفة على أقطار العالم قاطبة.
المؤلفون يقدمون عرضا تاريخيا وفكريا لتطور حركة حماس ، عبر التمهيد بدراسة الحركات الإسلامية، خاصة حركة الإخوان المسلمين وامتدادها العربي ودورها في المناطق الفلسطينية، كذلك تأثير حرب حزيران 1967 ( حرب الأيام الستة) وصولا إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى ( انتفاضة الحجارة) وصراع التيار الإسلامي مع منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح واليسار الفلسطيني (الماركسي) ، لكن البحث يتجاهل أن حركة فتح لم تخلوا أيضا من تيار إسلامي منذ نشأتها وحتى اليوم.
يستعرض الكتاب بالتفاصيل الكاملة بداية تشكيل حماس، نجاحاتها، علاقاتها مع العديد من الدول العربية وإيران وأساليب عملها.
لست في باب استعراض المضامين الهامة للكتاب، التي تشمل كل الموضوع الإسلامي في الشرق الأوسط. بما فيه الصراع السياسي الديني بين الإسلام عامة وحماس خاصة ودولة إسرائيل، سأكتفي بإشارة إلى أن المؤلفين لم يتركوا جانبا دون عرضه بشكل علمي وموضوعي، مما يجعل الكتاب مرجعا هاما لمختلف الدارسين والباحثين في علوم الشرق الأوسط والإسلام السياسي.
إنما لي ما يقال حول التوطئة والمقدمة للكتاب، إذ وجدت أن بعض المنطلقات الفكرية والسياسية تحتاج إلى أعاد ترتيب الأوراق، وفهم أفضل لمساراتها ومضامينها لتكون الصورة أشمل وأكثر دقة..
ففي التوطئة جاء انه :”في بداية القرن العشرين، بدأت تتسرب إلى هؤلاء العرب المسلمين أفكار جديدة منشأها غرب أوروبا وأهمها الفكرة القومية”.
كان من الأهمية في التوطئة الإشارة إلى دور مسيحيي الشرق ، وخاصة العرب الأورتوذكس في نشر الفكر القومي العربي. وكان الدافع أن ما يوحد الجماهير العربية هو الانتماء ألوطني وليس الانتماء الديني. وبالتأكيد ساهم بدء التعليم المبكر ، خاصة بواسطة الارساليات الروسية، الى تطوير الانتماء للثقافة العربية وفهم المواطنة بمعيارها القومي وليس الديني. كانت الارساليات الروسية ، تعلم باللغة العربية ، بينما الارساليات الأخرى لم تعط للغة العربية أهميتها في التعليم. كذلك كان لا بد من الإشارة إلى أن نشوء القوميات والفكر القومي في أوروبا، جاء بأعقاب الثورة الصناعية ، أي بعد فترة التنوير ( الرينيسانس) التي قطعت أوروبا عن فكر العصور الوسطى الإقطاعي والكنسي الاستبدادي. ماركس في أبحاثه أشار إلى الدور الهام والأساسي للاقتصاد في نشوء القوميات. لذا يمكن القول ان الظاهرة القومية هي ظاهرة ارتبطت بتطور البرجوازية.
اقتصاد دول الشرق الضعيف لم ينجح بإنشاء قومية عربية متماسكة، من هنا ظل الوزن النوعي للانتماء الديني متفوقا ، وازداد قوة امام الفشل في تطوير اقتصاد عربي وعلوم وتعليم وتقنيات ، وبقاء العالم العربي حارة خلفية ضعيفة التطور في عالم ينجز خطوات هائلة في رقيه الحضاري ومستوى حياة الانسان.
كانت تجربة الناصرية هامة ومثيرة، فشلها هو الفشل بإحداث نهضة اقتصادية تنويرية تغير الواقع الاجتماعي والثقافي والمدني في مصر أساسا. يبدو واضحا ان سيطرة الجنرالات على السلطة بكل وزاراتها ،الاعلام بمختلف وسائله ،الجامعات ومختلف جوانب الحياة واخضاعها لسيطرة الجنرالات، كان وراء فشل التجربة الناصرية. وواضح إن الواقع العربي ظلت تميزه راديكاليته الدينية وليس راديكاليته القومية.
بالطبع هناك عوامل محلية ودولية ساهمت في تطوير الراديكالية الإسلامية المتطرفة. الفشل في أحداث تغيير في الواقع العربي نتيجة ما يعرف بالانقلابات العسكرية، التي لم تقدم للشعوب العربية غير القمع والفساد والتحالف مع التيار الديني، نفس عبد الناصر قال بعد نكسة حزيران :” سقطت دولة المخابرات” عن نظامه الذي بناه من العسكريين وأفشلوه في أخطر تجربة تواجه النظام الناصري والعالم العربي كله. لكن الزمن لم يسعفه ليقود التغيير الذي كنا نحلم به وظل حلما محطما مع ورثائه الفاسدين.
سبق المفكر الإسلامي الكبير عبد الرحمن الكواكبي عصره في رؤيته التنويرية الهامة كما وردت في كتابه (طبائع الاستبداد) فقد توقف هنا عن الدعوة إلى قيام الخلافة الإسلامية، واستعاض عنها بدعوة إلى قيام دولة مدنيّة قوميّة تضمّ مسلمين وغير مسلمين ، في كتابات الكواكبي كان منذ البداية يدعو إلى قيام حكومة مدنيّة.
العوامل الدولية تمثلت بالتحالف بين السعودية وتيارها الإسلامي الوهابي مع الولايات المتحدة في الحرب ضد النظام السوفييتي والفكر الشيوعي.وقد مدوا الحركات الإسلامية بالمليارات من الدولارات، وابرز هذا الدعم كان دعم ما يعرف باسم المجاهدين الأفغان (والقاعدة التي هي عمليا حركة سعودية وهابية) ضد الوجود السوفييتي في أفغانستان، ثم دعم حركة طالبان، والدعم تجاوز الجانب المادي إلى الجانب السياسي والثقافي والفني، لدرجة إنتاج أفلام سينمائية تروج للمجاهدين ضد السوفييت ( فيلم من أفلام رامبو لسلفاتور ستالوني مثلا) من نفس المنطلق دعمت إسرائيل حركة حماس ضد حركة فتح وضد القوى الوطنية والشيوعية، لدرجة إن الكثيرين من الباحثين يقولون أن إسرائيل ساهمت بإنشاء حماس.
يورد الكتاب إثباتات قاطعة على ذلك. مثلا ضابط الأديان في القطاع أفنير كوهن كتب في تقرير له في 12 يوليو 1984 :” أعتقد أن استمرار تغاضينا أو تسامحنا مع المجمع الإسلامي قد يضرنا في المستقبل. لذا أوصي أن نبحث عن وسائل وأن نحطم هذا المجمع قبل أن نفقد القدرة على ذلك”. كلام لا يحتاج إلى تعليق.
يورد الكتاب إثباتا آخر:”أشار ضابط آخر في المناطق المحتلة (الجنرال شايكي ايريز) ، إلى الخطر الكامن في تقوية المجمع الإسلامي .فكتب:” إن أعمال الجماعات الإسلامية المتطرفة، الظاهر منها والمستتر… قد تستمر وتتعاظم بحكمة كبيرة. إن غض الطرف عنها او التسامح معها قد يضر بنا مستقبلا،عدم مواجهتها قد يفهم على انه ضعف من طرفنا ويسهل سيطرة المتطرفين على الشعب الفلسطيني”.
لكن استراتيجيات السياسة الإسرائيلية كانت تقوية المجمعات الإسلامية وضرب فتح والشيوعيين والمنظمات القومية’ هذا حدث داخل إسرائيل أيضا. وهو لم يتناقض مع النهج الأمريكي حيث ساهمت أمريكا وبالتعاون مع السعودية بدعم القاعدة وتقوية مكانة الأصولية الإسلامية بكل تفرعاتها ، في مختلف أنحاء الوطن العربي وفي اوروبا أيضا ، بفهم خاطئ ان دورهم سيصب في مصلحة الغرب في الصراع الدولي بين المعسكرين الشيوعي والراسمالي… وذلك قبل انهيار الاتحاد السوفييتي ومجموعة الدول الاشتراكية .
من ناحية أخرى فشل المشروع الماركسي في العالم العربي ، وانهيار المشروع القومي، خاصة بعد نكسة حزيران وغياب جمال عبد الناصر، لم يترك في الساحة إلا الحركات الإسلامية، التي شكلت مؤسسات اجتماعية وصحية قدمت خدمات هامة بظل غياب أي خدمات منافسة حتى من الدولة. ومصادر الأموال كانت السعودية والولايات المتحدة ودول غربية أخرى…من فهم استراتيجي فكري مبتذل وخاطئ، بأن الحركات الإسلامية ستظل خادما أمينا لمشاريعهم. حقا التقوا في العداء للشيوعية والتيارات القومية. ولكن مع فراغ الساحة السياسية ، عملوا لتعبئة الفراغ وهنا حدث الصدام. لذا ليس صدفة تحميل الولايات المتحدة مسؤولية تطور حركات اصولية اسلامية (داعش مثلا) تعيث خرابا في العالم العربي ومختلف أقطار العالم الغربي.
السؤال من بدأ الانتفاضة (القصد انتفاضة الحجارة الفلسطينية) يبدو لي غير ذات بال، الانتفاضة هي فعل شعبي وليس فعل حزبي، وقد تزعمت منظمة فتح الانتفاضة عبر أجهزتها المحلية، وربما في قطاع غزة كانت الشراكة أوسع مع حماس.
الإنتفاضة هي ظاهرة باستيلية ( ثورة الباستيل الفرنسية) في الفكر السياسي.لا بد من الاشارة الى انه حدثت انتفاضات صغيرة عديدة قبل الانفجار الانتفاضي الكبير. وقد برز مروان البرغوتي كقائد سياسي في حركة فتح في أتون الانتفاضة.
هذه عدة نقاط لا تؤثر على قيمة البحث التاريخي والسياسي والفكري .
الكتاب انجاز هام يضاف لمكتبتنا العربية .
******
الكتاب: إسرائيل وحماس – بين الصراع الفكري والصراع الديني
المؤلفون: د.شكيب صالح / يعقوب حبقوق / د. الياس سليمان
nabiloudeh@gmail.com