السيناريو الأول – تل أبيب
سعيد عبد الهادي شاب في السابعة والعشرين من عمره، من قرية عنبتا قضاء نابلس الأراضي المحتلة، أشقر وعيناه خضراوان، طويل القامة، حسن الهندام، كان يعمل خراطًا في مصنع صغير للحديد يملكه عامي يعقوبي. بعد أن اجتاحت التكنولوجيا كل شيء، اضطر المصنع إلى إغلاق أبوابه، ومعظم مصانع الحديد الصغيرة والكبيرة فعلت مثله، مما جعل سعيد عبد الهادي في موقف لا يحسد عليه، فلا هو قادر على إيجاد عمل، ولا هو قادر على تبديل عمله، صرعته التكنولوجيا، ومشت على جثته.
في أحد الأيام، وهو يتمشى على الكورنيش، ويفكر في وضعه، طوقته ثلاث سيارات شرطة، وقيد تحت تهديد الأسلحة إلى المركز.
– أنت في وضع قانوني، قال له الضابط صموئيل، بطاقة الإقامة، بطاقة العمل، لا شكوى ضدك من أحد، أضافَ، وهو يفحص حاسوبه، صحيفة سوابقك عذراء، كل شيء تمام.
– يمكنني الذهاب إذن، قال سعيد بهدوء.
– يمكنك الذهاب، قال الضابط صموئيل، وهو يعيد إلى سعيد أوراقه.
نهض الشاب، واتجه نحو الباب، إلا أنه سمع ضابط الشرطة يقول من ورائه:
– منذ متى أنت عاطل عن العمل؟
استدار سعيد عبد الهادي مستغربًا:
– لم أقل إنني عاطل عن العمل!
– أجب على سؤالي من فضلك، أنت عاطل عن العمل منذ متى؟
– …
– منذ شهور ثلاثة أنت عاطل عن العمل؟
– نعم، تمامًا كما تقول، منذ شهور ثلاثة. كنت أعمل خراطًا، اليوم معظم مصانع الحديد…
– …تفلس.
– نعم، تمامًا كما تقول، تفلس.
– وكيف تتدبر أمرك؟
– لدي بعض النقود التي ادخرتها…
– …والتي على وشك النفاد.
– نعم، تمامًا كما تقول، والتي على وشك النفاد.
– وماذا ستفعل عندما تنتهي النقود التي ادخرتها؟ هل سترجع إلى قريتك في “الأراضي”؟
– هذا آخر ما أفكر فيه، أن أرجع إلى “عنبتا”.
– لماذا؟
– أن أرجع بخفي حنين.
– أفهم ما تقول.
– هل يمكنني الذهاب؟
– يمكنك.
أعطاه الشاب ظهره، فسمع الضابط صموئيل يقول:
– مر لترى زميلي في المكتب المجاور قبل ذهابك، فلديه ما يقوله لك.
– زميلك.
– الضابط جوش في المكتب المجاور.
– الضابط جوش.
– في المكتب المجاور، وأنت خارج على اليمين.
– وأنا خارج على اليمين.
– وأنت خارج المكتب الأول على اليمين.
طرق سعيد عبد الهادي الباب الزجاجي لمكتب الضابط جوش، فأشار إليه بالانتظار دقيقة واحدة ريثما ينهي مكالمته. انتظر عشر دقائق، ربع ساعة، ساعة، والضابط جوش يرفع قدميه في وجه الشاب، ويبدو عليه أنه لن ينتهي من حديث لا أول له ولا آخر. وضع الضابط جوش السماعة، وما لبث أن تناولها، وركَّبَ رقمًا آخر. وبينما هو ينتظر محدثه، أشار إلى سعيد من وراء الباب الزجاجي بالانتظار دقيقة واحدة، فنفخ سعيد، وجلس على المقعد الخشبي الوحيد في الممر. أغمض عينيه، ولم يفتحهما إلا بعد ساعة، على صوت الضابط جوش:
– سيد سعيد عبد الهادي تفضل.
دخل الشاب المكتب، وأراد الجلوس.
– ابق واقفًا، أمره الضابط، خمس دقائق، وأتركك تذهب. هذا المكتب منطقة خضراء، فلا داعي للتدخين.
– أنا لا أدخن.
– كنت أعتقد…
– …أنني أدخن. كنت أدخن، وتوقفت عن التدخين منذ فترة، منذ سنة تقريبًا.
– حسنًا.
جلس الضابط جوش، ورفع قدميه في وجه الشاب.
– لماذا لم تجد عملاً خلال ثلاثة شهور طويلة؟
– لأن معظم مصانع الحديد تفلس.
– هذا ما قلتَهُ لزميلي، لكنه ليس مقنعًا كجواب. ثم كيف تعيش دون عمل كل هذه المدة؟
– لدي بعض النقود التي ادخرتها.
– هذا ما قلتَهُ أيضًا لزميلي، لكنه ليس جوابًا كافيًا.
– لم يزل لدي بعضها لثلاثة أربعة شهور أخرى.
– وبعد ذلك، بعد أن تنتهي النقود التي ادخرتها؟
– بعد ذلك سأرى.
– كيف سترى وكل مصانع الحديد تفلس؟
– سأرى.
– كيف سترى؟
– سأرى، سأرى.
– كيف سترى، كيف سترى؟
– كيف سأرى؟
– كيف سترى؟
– سأتعلم مهنة أخرى.
– ستتعلم مهنة أخرى.
– أية مهنة كانت.
– مثلاً.
– أية مهنة كانت.
– مثلاً.
– أية مهنة كانت.
– مثلاً.
– …
– أنت لا تعرف.
– أنا لا أعرف.
– أنت تقول…
– …لا أعرف.
– لا تعرف.
– لا أعرف.
– لن أطيل الكلام في ما تعرف وفي ما لا تعرف، لكني مضطر لتحويلك.
– لتحويلي.
– أوراقك حسب الأصول، لكنه وضعك.
– ما له وضعي؟
– قلت ابق واقفًا!
– لم أشأ الجلوس.
– أنت لا تعرف ما ستفعله عندما تنتهي النقود التي ادخرتها، وضع كهذا، بلا نقود، سيجعل منك فريسة سهلة.
– فريسة سهلة.
– بلا استقرار كل شيء ممكن.
– ليس معي.
– معك ومع غيرك.
– ليس معي.
– قلت ابق واقفًا.
– لم أشأ الجلوس.
– لا تنرفز.
– أنا لا أنرفز.
– ابق واقفًا، نبر الضابط جوش، وهو يقف.
– أنا واقف.
– أنت لا تطيع، أنت سيء الطبع!
– أنا…
– لا تجب!
– أنا…
– قلت لا تجب يلعن دين، لا تجبني، لا تفه بكلمة واحدة!
– …
– هكذا.
– …
– فريسة سهلة.
– …
– أنت من هذا النوع الذي يجعل منك فريسة سهلة، صحيح ما أقول أم غير صحيح؟
– …
– أجب يلعن دين!
– قلتَ لي “لا تجبني”.
– قلت لك لا تجبني والآن أقول لك أجبني.
– لا أعتقد.
– لا تعتقد ماذا؟
– لست من هذا النوع الذي يجعل مني فريسة سهلة.
– هذا جوابك؟ سنرى!
ضغط الضابط جوش على زر، فحضر شرطي.
– خذه عند أمه.
– عند أمي!
– لترضعك.
– لترضعني!
– لتعرف أن الحليب الذي في ثديها ليسه كأي حليب.
– أريد محاميًا.
– …
– أريد محاميًا.
– …
– أريد محاميًا.
– …
كلبشه الشرطي، وساقه في الممر، ليحيط به شرطيان آخران، أركبوه في سيارة، وشقوا به شوارع تل أبيب، ونفيرهم يفتك برأسه فتكًا ذريعًا، حتى مقر الشين بيت.
في إحدى الحجرات التحت الأرضية أخذوا يضربونه ضربًا مبرحًا، وهم يشبعونه شتمًا، سيل من الشتائم: أختك، أمك، أخوك، أبوك، جدك، أجدادك، كل أجدادك! أغشي بصره، وأغمي عليه. قذفوه بدلو ماء، فأفاق من غشيته، وعادوا يشتمونه، ويضربونه حتى أغمي عليه من جديد، وهذه المرة لم ينفع معه ليفيق من غشيته لا دلو ماء ولا دلوان. عندما أفاق من غشيته في اليوم التالي، عادوا يشتمونه، ويضربونه حتى أغمي عليه. لم يفق من غشيته في اليوم التالي للتالي، فحملوه ليسعفوه. جعلوه يتناول وجبة شهية، وتركوه ينام. عندما أفاق من نومه، قادوه إلى أحد المكاتب الفارغة اللهم إلا من طاولة وكرسيين، وأقفلوا الباب عليه بالمفتاح آمرينه بالبقاء واقفًا. بقي واقفًا رغم حديد الجروح! بعد انتظار طال، وبينما هو يهم بالجلوس، اندفع باب داخلي، وظهر وجه مبتسم لامرأة فائقة الجمال. اعتدل سعيد عبد الهادي، وكل جسده يتشنج مسببًا له أشد ألم. ندت عنه بعض التأوهات، فرجته الضابطة:
– اجلس، أرجوك!
جلسَ، وجلستْ.
– أنا آسفة لما حصل، قالت، وقع خطأ، لم يكن المقصود أنت، من النادر أن يقع أمر فادح كهذا في “بيتنا”، وأنا قمت باللازم، سيعاقب كل الذين ضربوك، نحن على أي حال لا نضرب، لا نعذب، ليس هذا سلوكنا في الشين بيت، وشعار الشين بيت “لا تصل إلى غايتك بكافة الطرق”! التعذيب شيء لا إنساني، والإنسان يظل إنسانًا، يكفي أن تعرف كيف تعامله، أو، إن أردت، كيف تتعامل معه. أنا لن أطيل في الكلام، وسأدخل في صميم الموضوع مباشرة…
راحت الضابطة الحسناء تحكي، وسعيد عبد الهادي ينظر إلى شفتيها، ولا يسمع شيئًا مما تقول. بقيت تحكي ساعة، ربما ساعتين، والشاب يحلم، وهو يركض بها على الشاطئ، وهو يعوم معها، وهو يغطس معها، وهو يقبلها تحت الماء، وهو يقبلها فوق الماء، وهو يحملها على كتفيه، وهو يرميها بين ذراعيه، وهو ينثر شعرها، وهو يضيع على ظهرها… أغمض عينيه، وأغفى. عندما فتح عينيه لم تكن الضابطة هناك، والباب كان مفتوحًا. لم يكن أحد في الممر، لم يكن أحد في مكتب الاستقبال، لم يكن أحد في الخارج. عندما وجد نفسه في الخارج بالفعل، أخذ يعدو تحت سماء مرصعة بالنجوم. أول شيء فكر فيه ألا يذهب إلى مسكنه، لأنهم سيكونون هناك بانتظاره. طرق الباب على زميله دافيد، ففتح له، واستمع إلى قصته. لم يصدق قصته، ورجاه أن يعفيه من المشاكل. طرق الباب على معلمه يعقوبي، ففتح له، واستمع إلى قصته. لم يصدق قصته، ورجاه أن يعفيه من المشاكل. طرق الباب على صديقته ساره، ففتحت له، واستمعت إلى قصته. لم تصدق قصته، ورجته أن يعفيها من المشاكل. وجد نفسه في الليل وحيدًا، فبكى. أثارت دموعه وجروحه شكوك بعض العابرين، فهاجموه، إلا أنه استطاع الإفلات منهم، ليقع من جديد بين مخالب بعض العابرين الآخرين، الذين كادوا يجهزون عليه، لولا دفاع امرأة عنه، امرأة لبؤة، مسحت دمه، وساعدته على النهوض، والمشي حتى بيتها. ضمدت جروحه، وسقته فنجان شاي ساخن، وتركته ينام على الكنبة. في الصباح، لم تجده. عاد سعيد عبد الهادي إلى مكاتب الشين بيت، وعلى التحديد إلى مكتب الضابطة الحسناء.
* * *
مشى سعيد عبد الهادي على شاطئ تل أبيب، وهو يلف حول صدره حزام المتفجرات، بينما ينعم المصطافون بالرمل الناعم والماء الدافئ. كان يبحث عن مكان فيه أكبر عدد من الأبرياء، لم يقولوا له هذا، لكن هذا ما قاله لنفسه. لم يكن دافع ذلك الانتقام من أحد، من شيء، كانت لعبته الجهنمية الأخيرة، وكان يريد الظفر بأقصى متعة شيطانية. وهو على وشك إدارة المفجِّر، وصله صوت امرأة عرفته، وعرفها. كانت تلك المرأة اللبؤة التي ضمدت جروحه، وسقته فنجان شاي ساخن، وتركته ينام على كنبتها. عند ذلك، تراجع سعيد عبد الهادي عن تفجير نفسه، وتفجيرها هي وغيرها معه. أخذ يركض باتجاه البحر تحت النظرات الدهشة للمرأة، وجعل الموجات تذهب به بعيدًا، بعيدًا. وهو وحده مع نفسه، مع قلبه، مع عقله، أحاط به قاربان بمحرك، ومنهما أطلقوا النار عليه، وفجروه.
* * *
شنت وسائل الإعلام حملة سياسية لم تكن الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، عن رجال الأمن الذين “حيّدوا” إرهابي تل أبيب، وحموا الناس. تبنت منظمة الجهاد الإسلامي “العملية”، ووعدت بتحرير فلسطين حتى الرمق الأخير. رأى حميد عبد الهادي، الأخ الأصغر لسعيد، صور أخيه على التلفزيون، وكم كان فخورًا بأخيه. تناول أضخم سكين في مطبخهم، وذهب ليَقتل أول امرأة صادفها من المستوطنة المجاورة لقريتهم، وليُقتل بدوره.
السيناريو الثاني – باريس
لم يتوقع محمد عماري أن يجد شخصًا آخر غير مدير السجن في مكتب هذا الأخير، شخصًا يراه لأول مرة، بنظارتين طبيتين مدورتين، ووجه طفل، ومع ذلك كان في الأربعين من عمره، وكان صلعه يهاجم جبهته، ربما لهذا لم تكن له أمارات الرجل. قدم نفسه تحت اسم ماتيو روزنبرغ، واكتفى بذلك، لم يقل من هو، ولأي جهاز يعمل. بدا محمد عماري حائرًا أمام الابتسامة الدائمة والثنيتين الناعمتين اللتين على طرفي الفم، أكثر مما هو عليه أمام الشخص. التفت إلى الباب، كمن يتوقع أن يأتي مدير السجن، لكن الرجل أمسكه من ذراعه، وجلس وإياه على الأريكة.
– سوف تفهم كل شيء بعد قليل، طمأنه ماتيو روزنبرغ.
– لقد استتبت لي الأمور بعد عامين قضيتهما في هذا الفندق خمس نجوم، تهكم محمد عماري، رؤساء العصابات أنا رئيسهم، كان عليّ أن أكون رئيسهم، وإلا ما كنت لأنجو بجلدي. عندما تنادي على الحراس، فيبح صوتك، ولا أحد يأتي لنجدتك، عليك أن تتدبر أمرك، أن تُخرج الشيطان الذي في بدنك ليدافع عنك، تفعل ما عليك أن تفعل، تضطر إلى فعل أبشع الأفعال، فماذا تريدني أن أفهم؟
– خذ سيجارة.
– أنا لا أدخن، إنها رغبة أمي مذ كنت في المدرسة الابتدائية، نعم كان هناك من يدخن في المدرسة الابتدائية.
– والمخدرات؟
– المخدرات شيء آخر، المخدرات كيلا أسرق أمي لأني كنت أبيعها غاليًا، وكيلا أشرب السجائر لأن أمي لا ترغب في ذلك.
– كما أرى علاقتك بأمك قوية جدًا.
– وعندما كنت مضطرًا لسرقتها، كنت كمن أستدين منها، القمار أنا ربه، هل تعلم؟
– هذا، أي نعم، أعلم.
– بعد ذلك كنت أعيد لأمي نقودها كلها.
– لن تقول لي إنك ملاك الخير الآن، تهكم ماتيو روزنبرغ.
– ملاك الشر.
– للشر ملاك؟
– كل الجرائم التي ارتكبتها ليكون كل أولاد القحبة ضحاياي، للشر ملاك إذن هو أنا.
– ليس كل أولاد القحبة.
– كلهم أقول لك.
– هل أنت متأكد، كلهم؟
– كما لو كنت أرى وعيناي مغمضتان.
– ليس كل أولاد القحبة.
– أنت مهبول أم تتظاهر بالهبل؟ تهكم محمد عماري، كلهم.
– في مرة أردتَ أن تقتل الأب، فقتلت الابن، أيها القذر، طفل في السابعة من عمره.
– لم تكن غلطتي.
– غلطة من إذن، يا قحبة الغائط؟
– غلطة الأب، يا دين الرب! لماذا لم يتركني أقتله ابن القحبة؟ فعل ذلك عن عمد لأتعذب طوال حياتي.
– تتعذب أنت؟ أنت لا قلب لك!
– أبي لا قلب له.
– وأنت طلعت على أبيك.
– كان يريد أن يقوّم الخطأ على طريقته، فيقع في الخطأ، كل متدين يفعل مثله، لكني أنا غير متدين.
– متدين أم غير متدين أنت طلعت على أبيك، لا قلب لك، مجرم، منيك غائطي، إرهابي، أبوك كان مسلمًا صالحًا على الأقل، أما أنت فلست من الإسلام والصلاح شيئًا. أيها القدر! هل تعرف لماذا أنا هنا؟ أنا هنا لأجعلك تختار بين إرسالك إلى معتقلات بوتفليقة “نتاعكم” (قالها باللهجة الجزائرية)، يعني أفظع المعتقلات في العالم، أو أن تصفي حساباتك مع كل أولاد القحبة، كل أولاد الله أكبر!
– بين المسجد والمعتقل أفضل المعتقل، همهم محمد عماري.
– ليس كل أولاد القحبة الذين هم في فرنسا.
– سأتعذب على الرغم من ذلك طوال حياتي.
– روحك ليست في سلام.
– روحي ليست في سلام.
– وستبقى.
– وستبقى.
– أريد القول ستبقى، أنت، في السجن مدى الحياة.
– هذا ليس مهمًا أن أبقى في السجن مدى الحياة، المهم روحي، روحي ليست في سلام.
– كنت أعرف أنك عنصر إيجابي على الرغم من قذارتك.
– ماذا تعرض عليّ، موسيو روزنبرغ؟
* * *
– أنت جهاد ومجاهدون! قال أحمد عماري لأخيه الكبير ساخرًا.
– أقنعني شيخ كان معي في الزنزانة، قال محمد عماري لأخيه الصغير مبررًا.
– لم أكن أحلم بالإفراج عنك، فلا تتركني يا وليدي، بكت الأم.
– صحيح ما تقوله أمك، أكد الأب.
– أنت لا تتدخل بيني وبين أمي، نبر محمد عماري في وجه أبيه.
– هذا كلام لا يقوله مجاهد لأبيه، احتج الأب.
– لأني سأكون مسلمًا أفضل منك!
– أنت من لا يعرف الإسلام إلا بالاسم!
– سأثبت لك.
– اثبت لي وشيخك أنكما جاهلان.
– كفى، صاحت الأم، وهي لا تكف عن البكاء.
– وإذا ما جئت معك؟ قال الأخ الصغير.
– لن تجيء معي.
– أريد أن أجاهد مثلك.
– يا رب، خذني لأرتاح، انفجرت الأم باكية.
– فليأخذهما الله، هما، لنرتاح، صاح الأب بغضب، هذا أولاً، قال، وهو يصفع محمد، وهذا ثانيًا، أضاف، وهو يصفع أحمد.
نهض الأخ الكبير، ورد الصفعة لأبيه، فأخذت الأم تلطم، وتولول، ولولا تدخل الأخ الصغير لتعارك الأب مع ابنه.
– سأترك بيت الجهاد والمجاهدين هذا ولن أعود إليه إلى الأبد، نبر الأب، وفتح الباب ليخرج، وفرانسواز صديقة أحمد تدخل.
– كما أرى لم ترب أبناءك كما ينبغي، يا حفيد الرسول! صاحت الأم في ظهره.
– ماذا هنالك، سألت الفتاة باستغراب.
– لا شيء، أجاب الأخ الصغير، نريد الذهاب إلى سوريا.
– أنت تريد الذهاب إلى سوريا! تلعثمت فرانسواز، وهي تجلس على حافة الأريكة، بتنورتها القصيرة الضيقة التي تكشف عن نصف فخذيها.
– أنا أمنعك، نبر محمد عماري، وهو يرفع إصبعًا مهددة في وجه أخيه.
– لماذا؟ تريد الجهاد لك وحدك؟
– أنت لا تعرف قراءة الفاتحة.
– وأنت كذلك.
– يا رب! ابتهلت الأم، وفرانسواز تجفف لها دمعها.
– هل أقول لك الصدق؟ ابتسم أحمد عماري.
– لا صدق ولا كذب.
– لا تلتهم بعينيك فخذي فرانسواز، يا قحبة الغائط!
– أنا ألتهم! لم أطرف بعيني نحو ملكة جمال العالم “نتاعك”، الست فرانسواز الغائط!
– أنت تعرف أخاك كم يغار على أشيائه، بررت فرانسواز، لم يغيّر عادته الكريهة هذه.
– كل هذه المدة في المعتقل لم أعد أعرف! تقولين أشياءه؟
– هذا لأنه يعتبرني كأي شيء ملكه.
– ها هو جهادي على كيفِك!
– على كِيف كيفَك!
– هلا تركتماني أتكلم؟
– يا رب! عادت الأم إلى الابتهال.
– لم أعد أطيق فرنسا…
– لم تعد ماذا؟ تطيق فرنسا! رمت فرانسواز باستغراب.
– …لم أعد أطيق الفرنسيين…
– لكن أنا أحلم! عادت فرانسواز ترمي باستغراب، قل لي هل أحلم؟
– …لم أعد أحب ضحكهم، لم أعد أحتمل ظلالهم، لم أعد أعبد بناتهم (ضحكت فرانسواز بتشنج)، لم أعد أجن بموضاتهم، بأطباقهم، بحلوياتهم، كل شيء مُر حتى أحلى شيء.
– لأنك عاطل عن العمل تقول هذا.
– لأنني ولدت وأنا أكره العالم، لكني لم أعرف هذا إلا اليوم.
– أنت لم تكرهني يومًا، احتجت فرانسواز.
– أنا عرفت هذا منذ زمن طويل، همهم الأخ الكبير، لهذا قتلت.
– أية قوة على العيش تملك، همهم الأخ الصغير، في هذه المخرأة التي هي الضواحي حيث نموت، وقد انعدم الأمل، ولم يبق للشباب شيء ممكن، وكل شيء افتراضي، التغيير أول شيء، ما عدا الضياع، الضياع، الضياع، آه، ما أبدع الضياع! ناكونا كما يجب، أولاد القحبة!
– الحياة ليس لها أي معنى، عاد محمد عماري إلى الهمهمة، الحياة كابوس لا ينتهي، الحياة لا معقول، عبث مطلق، طريق طويل نحو الهاوية.
– نحو الخلاص بأية طريقة، عاد أحمد عماري إلى القول.
– بما أن الأمر كذلك، صاحت فرانسواز، وشرارات الدموع تتطاير من عينيها، وأنا أيضًا أريد الجهاد مثلك.
– بتنورتك القصيرة الضيقة، قهقه الأخ الكبير، هذا أحسن جهاد على الأرض.
– لا يضيرني ارتداء الحجاب.
– أفهم ما تقولين، رد الأخ الصغير.
– ماذا؟ تفهم ما تقول! تعجب الأخ الكبير.
– يا رب! يا الله! عجل بأخذي قربك! همهمت الأم.
– استني شوية يما! تفهم ما تقول!
– هل نسيت غيرته؟ سألت فرانسواز.
– والله نسيت، استسلم محمد.
– هكذا يكون مرتاحًا إلى يوم الدين.
– والصلاة والصوم والقتال؟
– سأصلي وسأصوم وسأقاتل.
– أنتِ لستِ فرنسية كما أرى.
– تريد القول لستُ قحبة؟
– ولستِ جزائرية.
– أنا غائط تحب أخاك، ومستعدة لكل شيء كي تبقى قربه.
– مستعدة لكل شيء حقًا؟
– لا تلتهم بعينيك فخذيها، يا دين الرب!
* * *
داخل مخيم داعشي في الشمال السوري، كانت الفاشية الدينية عملة رائجة، تجذب الشباب من ذقونهم وعقولهم، وكأنهم نعاج، كانوا أقوياء بضعفهم، عقلاء بخبلهم، أتقياء ببربريتهم، كانوا كلهم يتشابهون، فلا اختلاف بينهم، وكانوا كلهم يفكرون كشخص واحد، وحيد، أوحد، وقد اختلط العابد بالمعبود، ولم يعد هناك أدنى تمييز بين آلهة وبشر. لم يكن هذا حال محمد عماري الذي هو هنا لمهمة، بينما غدا حالُ أخيه أحمد حالَ غيره ممن هم معه، وخاصة حال فرانسواز، التي ارتدت الحجاب كما كانت ترتديه عاهرات المعابد، وراحت تنام مع إخوتها في الدين، على مسمع ومرأى خطيبها، دون أن يبدر عنه أي رد فعل دافعه غيرته المتأصلة فيه، أو بالأحرى غيرته التي كانت متأصلة فيه. لم يعد يغار عليها، بل على العكس صار يغار من بربرية هذا أو ذاك من ملته. غدت البربرية دينها الإسلام، وبالتالي غدت قانونًا مقدسًا، وبديماغوجية رهيبة، وجدت البربرية جذورها في الفتوحات العربية، وفي واقع كان منذ 1400 سنة، لا علاقة له البتة بواقعنا. و… تمشي الخطط، وتتحقق الأهداف، الخطط والأهداف الخسيسة، وتمشي الحلمات على أعتاب المواخير أو، الصوامع على حد سواء. لم يكن بإمكان محمد عماري أن يقتل كل أولاد القحبة، فكان يخفف عن نفسه بالتدخين، ولا بأس من زعل أمه. جمع كل المعلومات التي طلب منه ماتيو روزنبرغ جمعها، وخلال قصف الطيران الفرنسي للمخيم، اضطر إلى استعمال القوة مع أخيه وخطيبة أخيه ليجبرهما على مغادرة الجحيم.
* * *
قال أحمد عماري لأخيه، وهو ينظر من النافذة:
– باريس تحتضر، تلتهمها الجراذين.
– وماذا يهمنا، نحن جزائريون، رد محمد عماري.
– نحن ولدنا هنا، رمى أحمد عماري، وهو يستدير.
– نحن جزائريون، نحن أولاد قحبة عن حق، أصيلون، رمى محمد عماري بدوره.
– أولاد قحبة الإسلام؟
– أولاد قحبة وفقط، ولكن أولاد قحبة رجال، وليس أولاد قحبة نساء مثلهم.
– أنا مستعد لكل شيء كمسلم.
– وأنا كخراء.
– أنت غريب أمرك، ليس أنا.
– وذاك الخضرجي العربي، وذاك الحلواني، وذاك التمرجي، أليس كل واحد منهم مسلمًا؟
– هم هم وأنا أنا.
– أنت مهبول والله، أنت لن تفجر نفسك لأجل لا شيء.
– لأجل دين الله.
– سأمنعك، والله سأمنعك. ثم، تم الاتفاق على كل شيء دون أن يلحق أحدنا الأذى.
– اعتبار للمصلحة العامة! قول أخينا ماتيو روزنبرغ ابن القحبة، لتبرير ما يبرره غير الدين، نبر الأخ الصغير.
– الرأسمالية كدين مقابل الإسلام كسياسة، نبر الأخ الكبير.
– العكس هو الصحيح.
– تتدين بالنسبة لي تتعهر، وها أنت تتعهر الآن.
– إذا كان التعهر مكافأته الجنة…
– لا أريد أن تفجر نفسك.
– إذا كان الموت نهاية للموت…
– سأمنعك.
– إذا كانت جهنم هدية لغيرنا…
– والله سأمنعك.
أشعل محمد عماري سيجارة، وألقى صندوق السجائر وعلبة الكبريت على السرير، وحط بينهما صمت عميق. أخرج أحمد عماري سيجارة، ولم يعرف كيف يشعلها، فأحرق أصابعه، وهو ينط كالطفل، ومحمد عماري يضحك عليه. كانت سيجارته الأولى. فتحت الأم الباب، وصاحت عليهما لأنهما يدخنان، فطردها محمد، بينما أطفأ أحمد سيجارته، وذهب ليدفن رأسه في حضنها. جاءت فرانسواز بتنورتها القصيرة الضيقة، والأخ الكبير يلتهمها بعينيه. جلست، وفرشت أصابعه على فخذيها، فلم يبدر عن الأخ الصغير أي رد فعل كالماضي.
– لم يعد يحبني، همهمت فرانسواز، ودمعة تسيل من عينها، لم يعد يغار عليّ.
* * *
في فندق جورج الخامس، تبادل الأخوان عماري النار مع رجال الشرطة، فسقط بعض النزلاء، وفي الخارج، تم تفجير إنسان آلي عن بعد. خلال المعمعة، تمكن الأخوان عماري من الهرب. في المساء، قالت وسائل الإعلام إن محمد عماري سقط صريعًا في الغارة التي شنها رجال الدرك على مزرعة، وإن أحمد عماري يطارده رجال الأمن، بينما كان كلاهما في مكتب ضابط الإدارة العامة للأمن الداخلي ماتيو روزنبرغ.
السيناريو الثالث – الرياض
نظرت الأميرة بتول من أباجور النافذة، كما هي عادتها عندما تزهق روحها من روتين كل يوم بين جدران الثراء، ولفت انتباهها صبي في الثالثة عشرة من عمره، وهو يسرق هذه الساعة من هذا الرجل وذلك الخاتم من تلك المرأة، بكل ذكاء. أمتعها دهاء الأصابع، وأطربها أسلوب اللص، فأخذت تضحك، وتنادي على وصيفاتها، اللواتي أتين، وأخذن يلاحقن بنظرهن معها مشهدًا من مشاهد فيلم “اللص الظريف”، ويشاركنها الضحك، حتى اللحظة التي سقط فيها على الصبي شيخ بعصاه، وأشار إلى أفراد من هيئة الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، الذين في الحال أفرغوا جيوب الصغير، وقيدوه، وفي الحال كذلك شكلوا محكمة، وحاكموه بقطع يده، ونفذوا الحكم تحت أعين سمو الأميرة ووصيفاتها، وهن يرسلن صيحات الاحتجاج والاستنكار، ولا أحد يسمعهن.
لم يمض وقت طويل حتى أحضر شيخ آخر بعصاه شابًا في العشرين من عمره، اتهمه بالزنا، ولجمال الشاب، تخيلت الأميرة بتول نفسها عارية في أحضانه. لم تُخْفِ على وصيفاتها ذلك، فانفجرن ضاحكات، ولم يوقف الضحك في حلوقهن شيء آخر غير قرار هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بجلده مائة جلدة، تنفذ في الحال، وسمو الأميرة ووصيفاتها يطلقن آهات الألم، وهن يغمضن أعينهن.
ما أن أنهى الجلاد عمله حتى جاء شيخ ثالث بشاب في السابعة والعشرين من عمره، وعصاه تسبق رؤاه، قال عنه زنديقًا لأنه يقرأ كتبًا شيعية، فأفرغ الجلاد ثلاث قناني كوكا كولا في حلقه، ليسترد نشاطه، وراح بالزنديق جلدًا. ولكنه ليس زنديقًا، صاحت الأميرة بتول دون أن يسمعها أحد، ارحموه، ارحموا شبابه! بكت هي ووصيفاتها عليه، ولم يذهبن، داومن على مشاهدة ما يجري من فظائع، غير بعيد من القصر. ثم ألصق سادي بالشاب تهمة المثلية، فذهبوا به إلى المعتقل، ليتوزع الجلادون جلده ألف جلدة خلال سنة.
هذه المرة، كان أحدهم في الأربعين من عمره، وكانت التهمة الكفر بشكل واضح، فمن يرفض مؤسسات الدين، فهو ليس من الدين، ومن ينادي بالتغيير، فهو كمن يرقص مع الشياطين! لم تكن الهيئة في حاجة إلى الحكم لا بمائة جلدة ولا بألف، انقض عليه ابن عمه، وأخذ به طعنًا حتى أرداه قتيلاً. لم تستطع الأميرة بتول ووصيفاتها متابعة المشهد حتى النهاية، غادرن النافذة، وهن يشهقن، بينما سحبت شرطة الدين “اللص الظريف” إلى زاوية، ودمه يسيل من يده المقطوعة، وكل عذابات البشرية عذاباته، وأخذ أفرادها يغتصبونه واحدًا واحدًا.
* * *
اجتمعت الأميرات العظميات الخمس مع الأميرة بتول، ودار الحوار التالي بينهن…
– كفى، نبرت الأميرة بتول، لقد بلغ السيل الزبى! ابتداء من اليوم، لا نريد أن نسمع بالوهابية!
– كان هذا رأيي منذ زمن بعيد، قالت الأميرة حفصة، الوهابية كراهية!
– الوهابية إقصائية! هتفت الأميرة نورة.
– الوهابية اغتصابية! هتفت الأميرة عائشة.
– الوهابية عرقية! هتفت الأميرة خيرة.
– ووحشية ودموية وهمجية! هتفت الأميرة مسعودة.
– الإجرام في الرأس، يا أخواتي الكريمات، عادت الأميرة بتول إلى القول، وكله، قبل الإجرام في الواقع.
– الحضارة كذلك، أكدت الأميرة حفصة.
– في الرأس، أكدت الأميرة نورة.
– لا في اللباس ولا في البنيان، أكدت الأميرة عائشة.
– في الرأس، أكدت الأميرة خيرة.
– لا في القعود ولا في القيام، أكدت الأميرة مسعودة.
– العبادة مبادئ، جمال، تآلف الأنغام، قالت الأميرة بتول.
– إيقاع، قالت الأميرة حفصة.
– انسجام، قالت الأميرة نورة.
– موافقة، قالت الأميرة عائشة.
– مطابقة، قالت الأميرة خيرة.
– والأهم من كل شيء حرية، قالت الأميرة مسعودة.
– على عكس كل ما يقال، نظل نحن النساء قويات على رجالنا، رمت الأميرة بتول.
– أوضحي، يا أختي الأميرة، رجت الأميرة حفصة.
– بقليل من دهاء الأصابع وأسلوب اللص يمكننا قلب نظام الحكم، قالت الأميرة بتول دون أقل تردد.
– قلب نظام الحكم! شهقت الأميرات العظميات الخمس.
– منذ قليل كنتن ضد الوهابية!
– ضد الوهابية لا ضد السلطة.
– دون أن تكن ضد السلطة لن تكن ضد الوهابية.
– ضد السلطة!
– السلطة هي أزواجنا، ونحن خير من يعلم من هم أزواجنا.
– لكل واحد نقطة ضعف.
– لكلهم نقطة ضعف واحدة، أنتن على علم بها.
– نحن على علم بها و… أمريكا؟
– أمريكا كالشرموطة –اسمحن لي سمواتكن- إن لم نرغمها على تغيير سياستها، فلن تغير سياستها.
– كالشرموطة! ضحكن.
– نريد كل شيء عندها كما تريد كل شيء عندنا.
– المسارح.
– معاهد الموسيقى.
– السينمات.
– العلم.
– التكنولوجيا.
– …
– …
– هذه الليلة إذن ستكون ليلتكن، لنخلص وتخلص معنا السعودية.
* * *
– يا ابن عمي، نادت الأميرة بتول زوجها، وهي عارية في مضجعها.
– انتظري قليلاً ريثما أحول نصف مليار دولار إلى داعش، ونصف مليار دولار إلى النصرة، ونصف مليار دولار إلى نوادي المثليين في باريس، و…
– إلى نوادي المثليين!
– اطمأني، أنا لا أحب الرجال (كان يكذب)، كيف أحبهم، وفي فراشي قنبلة نووية مثلك؟!
– ظننت.
– ونصف مليار دولار إلى الوهابيين في جميع أرجاء العالم.
– نعم حول إليهم إلى الوهابيين أبناء الشرمو…
– رجاء بتول سموك!
– يا طويل العمر أطلت عليّ، لهذا لم أستطع إمساك لساني.
– أخر ضربة على الحاسوب و… ها أنا، أنا طوع يديك، يا أغلى أميرة على قلبي في العالم.
– أغلى أميرة على قلبك في العالم تريدك أن تخنقها.
– ماذا؟ أن أخنقك!
– أضحكتني سموك، يا ابن عمي.
– آه! أن أخنقك.
– وأن تجعلني أولول عند خنقي.
– أنا أرى، تريدين إنهاكي، القضاء عليّ.
– انهاكك أكيد، القضاء عليك لا والله العظيم.
– إذا كان الأمر كذلك، فهلم بنا!
قلب الأمير الأميرة، وراح بها خنقًا من ظهرها، وهي تولول، ليس من اللَّذة، وإنما لتثيره أكثر، وتنهكه أضعاف ما اعتاد عليه. لم يطل به الأمر حتى تساقط كالحبل الرخو، فصفقت الأميرة بتول، لتقفز وصيفاتها عليه. كممنه، وربطنه، ونزلن به إلى زنزانة من زنازين القصر.
* * *
وقع الشيء نفسه مع الأميرات العظميات الخمس، ثم رحن، وعلى رأسهن الأميرة بتول، ليعزلن العجوز مع عجوزته ومرحاضه الذهبي، وتوجن الأميرة بتول ملكة على السعودية، التي كانت قراراتها الأولى، فتح النوافذ، ووقف تحويل المليارات إلى داعش والنصرة والوهابيين في العالم، ورمي كل أفراد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السجون التي كانت ما أكثرها، مقابل إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين وغير السياسيين، وكذلك منع الحجاب، ومنع مكبرات الصوت على المآذن، ومنع كل ما هو ممنوع، إلى جانب فتح الرؤوس، وتغيير العقول مجانًا على أيدي أعظم الجراحين من الأطباء في العالم.
السيناريو الرابع – نيويورك
جيمس ستيوارت، رئيس تروست البيتزا الأمريكي المعروف، كان يحب كلبته ماريلين مونرو أكثر من زوجته، ويدللها أكثر من كل بناته، يطعمها البيتزا بالكافيار، ويسقيها الماء المعدني الفرنسي فيتيل، وعندما يأخذها معه إلى حفلة من الحفلات، كان يغسلها بالعطر، ويلف عنقها بالألماس، ويكسوها بالحرير، وكان يجند ثلاث خادمات للعناية بها، وثلاثة حراس لحمايتها. لكنه في السنترال بارك، غير بعيد من شقته الفخمة، كان ينزه كلبته بنفسه كأي شخص عادي، يبتسم لمن يعرفه، ولمن لا يعرفه، ولا يتوقف عن التكلم في تلفونه المحمول، وكأنه مربوط بالعالم على الطرف الآخر.
– كم بيتزا بعنا حتى هذه الساعة؟
كانت الساعة لم تتجاوز بعد العاشرة صباحًا.
– في العالم؟
– في أمريكا.
– مائة مليون بيتزا.
– وفي أوروبا؟
– خمسون مليون بيتزا.
– وفي الشرق الأوسط؟
– مليون ونصف بيتزا.
– مليون ونصف بيتزا فقط!
– إنهم يفضلون ساندويتشات الفلافل.
– يا له من ذوق متخلف ذوق العرب!
– همجي!
– سندخلهم من باب الحضارة العريض رغم أنوفهم.
– ماذا تعني؟
– سأقول لك فيما بعد.
– خلال عدة دقائق العداد ارتفع.
– كم؟
– بيعت في أمريكا مائة وعشرون مليون بيتزا.
– وفي أوروبا؟
– ستون مليون بيتزا.
– وفي بلاد الهمج؟
– مليون ونصف بيتزا دومًا.
– ماذا؟ لم يتحرك العداد في الشرق الأوسط؟
– لم يتحرك.
– سأنيك عرضهم.
– هذا رأيي أيضًا، أن تنيك عرضهم، فيضطرون لأكل بيتزا أكثر.
– انتظر على الخط قليلاً ريثما أكلم سكرتير الدفاع… هاي جوني! هل أعجبتك البيتزا بالكافيار التي أرسلتها لك مساء أمس؟… كنت أعرف ذلك، فهي البيتزا التي تفضلها كلبتي بين مائة نوع بيتزا… شكرًا شكرًا! والشيك الصغير هل استلمته؟… أنا تحت أمرك، سيكون المبلغ الذي تريده في المرة القادمة… قل لي جوني، الهمج، أنت تعرف من أعني، لا يأكلون بيتزا كما يجب… نعم، نعم، هي بيتزا خراء كما تقول، فهل يستحقون خيرًا منها؟… نعم، نعم، الكافيار لك ولكلبتي وللعرب الخراء كالعادة، لكنهم لا يأكلون منه كما يجب… نعم، نعم، أريد شغلة عملة بعض العون… أن تمنع تصدير الحمص الناشف لفلافلهم؟ ليس هذا بحل، فهم سيبدلونه بالفول الناشف، وعلى أي حال الحمص الناشف والفول الناشف والعدس الناشف مواد غذائية يصدرها التروست، يعني أنا، وأنا أبحث عن حل استراتيجي… نعم، نعم، الشيك القادم لن يتأخر، والمبلغ الذي تريده… العراق والسعودية وبلدان الخليج يأكلون الشاورما، أنا أعرف، فهم محشوون بالنقود القذرون… الحل؟… لا فض فوك! ستشعل حربًا بين الشاورما والفلافل لتخرج منها البيتزا رابحة وبالملايين! وبالمليارات تقول؟ شكرًا جوني، ماذا؟ نصف مليار دولار! تريد نصف مليار دولار وفي الحال؟ مقابل ألف مليار بيتزا هذا لا شيء؟ أوكي جوني، أوكي، مع السلامة!… مع ألف داهية! هل ما زلت هنا يا عاهرة البيتزا؟
– ما زلت هنا.
– هذا القذر جوني يريد نصف مليار دولار مقابل خدمة صغيرة طلبتها منه.
– من هو هذا القذر جوني؟
– سكرتير الدفاع.
– شهيته مفتوحة كما أرى ليس فقط للبيتزا.
– للخراء.
– هل تريد آخر أرقام العداد؟
– قل لنرى.
– مائتان وعشرون مليون بيتزا في أمريكا، مائة وعشرون مليون بيتزا في أوروبا، ثلاثمائة مليون بيتزا في جنوب آسيا، نصف مليار بيتزا في الصين…
– نصف مليار بيتزا في الصين! قليل هذا.
– لم يعتد الصُّفر بعد على بيتزانا، فهم يفضلون البط المبرنق.
– سأكلم سكرتير الدفاع بشأنهم في المرة القادمة.
– هل تريد القيام بحرب نووية؟
– لِمَ لا والبيتزا أقوى من كل شيء؟
– نصف مليار بيتزا في الهند…
– سأكلمه كذلك عن الهند.
– ستكلم من، يلعن دين؟
– جوني، سكرتير الدفاع، يا عاهرة البيتزا!
– هؤلاء الهنود كريهو الرائحة لن تنفع معهم كل الحروب النووية عندما يتعلق الأمر بالرز تاعهم، لهذا أنصحك بالاكتفاء بنصف مليار بيتزا تبيعها عندهم، ورمي كل ثقلك على الهمج.
– على الهمج؟
– هل نسيت؟ على الهمج!
– آه، الهمج! من هم، يا عاهرة البيتزا؟
– العرب، يلعن دين!
– وهل لهم حساب في الوجود هؤلاء القذرون؟ طيب طيب، سأرمي كل ثقلي على الهمج.
– أرقام العداد ترتفع ترتفع، ثلاثمائة مليون بيتزا في أمريكا، مائتا مليون بيتزا في أوروبا، نصف مليار بيتزا في جنوب آسيا، مليار بيتزا في الصين…
– وفي بلاد الهمج؟
– تحرك العداد.
– كم؟
– مليون ونصف بيتزا وبيتزا واحدة فقط.
– بيتزا واحدة فقط لا غير منذ ساعة.
– قل لجوني صاحبك أن يعجل.
– جوني صاحبي من؟
– سكرتير الدفاع، يلعن دين؟
– والله نسيته هذا القذر ولم أنس نصف المليار دولار تاعه.
– قل له أن يعجل.
– سأقول له أن يعجل.
– ليضطر همج الشاورما إلى دفع الفاتورة لهمج البيتزا.
* * *
بعد عدة أيام، والمعارك حَمِيَ وطيسها في الشرق الأوسط، قرع الهاتف المحمول لجيمس ستيوارت، وهو يطعم كلبته بنفسه البيتزا بالكافيار في الصالون الفخم.
– آلو!
– جيمس؟
– هو بعينه، يا عاهرة البيتزا!
– عندي رقم مفرح لك.
– مليار بيتزا بيعت في أمريكا حتى الساعة.
– مليار بيتزا بيعت في بلاد الهمج.
– ماذا؟ أنا لا أصدق أذنيّ! مليار بيتزا بيعت في بلاد الهمج؟
– غلب عليهم التمدن بعد تمزيقهم إلى دويلات.
– سأفتح قنينة شمبانيا حالاً، وسأشربها على صحة مليار البيتزا أنا وكلبتي.
– آه! يا إلهي…
– لماذا تصيح هكذا، يا عاهرة البيتزا؟
– أرقام العداد في بلاد الهمج لا تتوقف عن الارتفاع: مليار بيتزا ومائة مليون، مليار بيتزا ومائتا مليون، مليار بيتزا وثلاثمائة مليون، مليار بيتزا وأربعمائة مليون، مليار بيتزا وخمسمائة مليون، مليار بيتزا و… و… و…
السيناريو الخامس – معان
لم يتخيل أحد في معان أن يعود ليث كريشان إلى البلد من أمريكا، ومعه امرأة في غاية الجمال، وفوق ذلك ابنة لأغنى عائلة في العالم، “روكفلر”، وأن تكون له منها ساندي ذات السنوات الخمس. ما أسهل الأمر في الواقع عندما يكون لأسباب خارجة عن إرادتنا، وكان الحب أقوى الأسباب مع ليث وليلي، وهما يدرسان الطاقة التجديدية في جامعة هارفارد.
– أهلُكَ طيبون، قالت ليلي، أهلٌ بكل خير.
– أمي وأبي يعبدانك، عادلة أختي تعبدك، كلهم يعبدون ساندي.
– وساندي تعبدهم.
– ساندي بدأت تتكلم العربية معهم.
– قلتُ لكَ كلمها بالعربية أنت وهي صغيرة.
– لا تخافي عليها، لم تزل صغيرة.
– أنا لن أتعلم أبدًا لغتكم.
– لكنك تتفاهمين مع أمي وأبي بالإنجليزية المكسرة التي لهما.
– لغتهما ليست مكسرة إلى هذه الدرجة.
– أبي من الرعيل الذي قرأ في المدارس، وكذلك أمي، ليسا بدوًا كجدي وجدتي من أمي وأبي.
– ما أجمل البداوة على أي حال التي أعطتني واحدًا مثلك!
– شكرًا، يا حبي!
– ومعان، ما رأيك بها؟
– معان مدينة ذات جمال خاص.
– مثلك، يا حبي!
– مثلي شيء كثير، معان حضارة وطبيعة!
– وشمسها؟ ماذا عن شمسها، يا سيادة مهندسة الطاقة؟
– شمسها من أروع شموس الأرض، ذهبية، وذهبها نقي، وهي في دورة كوكبنا حولها أطول شمس عرفتها في حياتي.
– هل تليق بمشروعنا؟
– هل يليق مشروعنا بها؟
– مشروعنا للطاقة التجديدية سيكون أكبر وأعظم مشروع لمعان ولباقي الأردن.
– لمعان وللأردن ولكل المنطقة.
* * *
عرض المهندسان على الحكومة مشروعهما للطاقة التجديدية، وأدخلا في ملفهما كل ما يقنع، أهم ما يقنع: على عكس الطاقة النووية، الطاقة التجديدية، أبعد ما يكون عنها تلويث البيئة، أضف إلى ذلك أن الغرب يفهم اليوم تمامًا الأضرار التي تُلْحِقُ مفاعلاتُهُ بالطبيعة، وهو يحاول أن يستدرك الوقت الضائع بإنشاء مراياه العاكسة ومراوحه الدائرة.
– قدمنا أعظم فكرة من أفكار القرن الحادي والعشرين فرفضوها، نبرت ليلي بغضب.
– متذرعين بأن لا مال لديهم، وهم يسرقون كل مال، نبر ليث بغضب.
– هذا البلد ليس أهلاً بحكامه، عادت ليلي تنبر.
– حكامه من أكثر الأغنياء في العالم ثراء، عاد ليث ينبر.
– ماذا سنفعل؟
– نحن لن نحزم متاعنا عائدين إلى أمريكا.
– نحن لن نحزم أي متاع، وسنتصرف على هوانا.
– لا تفكري في الحكام السعوديين ولا في أي حاكم خليجي.
– سنقول لهم إننا سنفتح كابريهات وكازينوهات توفر عليهم عناء الذهاب إلى سان فرانسيسكو.
– لن ينفع معهم أي شيء، فما هم سوى أدوات لكم.
– أعرف.
– أدوات صدئة، ومع ذلك، وربما بسبب ذلك، ما زلتم تشغلونها على هواكم.
– سنعرض مشروعنا على البيت الأبيض.
– البيت الأبيض غير فاض لمشاريع طويلة الأمد، البيت الأبيض يسعى إلى الربح هنا والآن، وبأيسر الطرق، الحرب والدمار والتفتيت أولها، هذا أسهل عليه بكثير من بناء المنطقة، وما سيتضمن ذلك من جهد وعناء.
– وجدتُهُ.
– من وجدتِ؟
– دادي.
– ستطلبين من دادي تمويل المشروع؟
– وهو في حياته لم يرفض لي طلبًا واحدًا.
– هل دادي مستعد للإنفاق على مشروع خيالي في مدينة من الرمل لم يسمع بها سوى القليل من الناس؟
– قلتُ لكَ دادي لم يرفض لي في حياته أي طلب.
– دادي عنده ما يكفي من المليارات لتمويل عشرة مشاريع كهذه لكن…
– سأتصل به فورًا.
– انتظري قليلاً.
– لا داعي للانتظار لا قليلاً ولا كثيرًا.
– لنحاول مع الحكومة ثانية.
– لن نحاول مع أية حكومة.
– ليلي، يا حبي، أبوك لن يوافق.
– ها أنا أعمل رقم هاتفه المحمول، ها هو هاتفه المحمول يرن، ها هو دادي. دادي؟
* * *
رفض السيد روكفلر المساهمة في مشروع الطاقة التجديدية حتى ولو بدولار واحد، وصف ابنته بالجنون كزوجها، فالأردن لم يخرج من عصر ما قبل التاريخ، وأهله أكثر ما يوائمهم حفر آبار الماء ليسقوا ناقاتهم. قطع المكالمة، فانفجرت ليلي باكية.
– ماذا قلتُ لكِ، يا حبي؟
– هذه أول مرة يرفض لي فيها طلبًا.
– جففي دموعك.
– لم أكن أعلم أن أبي قاسي القلب.
– عندما يتعلق الأمر برؤوس الأموال لا دخل هناك بالقلب رقيقًا كان أم قاسيًا.
– لكني ابنته، والمشروع رابح لا خاسر، فليعتبر ما أطلبه دينًا.
– وعندما يتعلق الأمر بنا نحن البدو لا دخل هناك بالربح قليلاً كان أم كثيرًا.
– ماذا سنفعل؟
– سنفكر في الأمر.
– ليس طويلاً.
– لا قيمة للزمن في بلدنا.
– أعظم قيمة للزمن في رأسنا.
– سنفكر في الأمر قلت لك.
– ليس طويلاً.
– ليس طويلاً.
– عدني.
– أعدك.
* * *
عاد ليث وليلي بمشروعهما إلى الحكومة، بعد أن قلصا التكاليف إلى النصف، بدلاً من مليار دولار نصف مليار، مع وعد بالاستثمار خلال ستة أشهر، واسترداد ما يتم إنفاقه خلال ستة أشهر. ألحقا بمشروعهما الأساسي مشاريع أخرى ثانوية تتوقف على الطاقة كتكنلجة المدينة، وبيع طاقة شمسها في كل مدن الأردن وكل مدن المنطقة، مما يوفر على البلد معظم ما يستورده من نفط، ويجعل منه وطنًا مستقلاً.
– لا فائدة من ذلك، حكام هذا البلد يعملون على إخضاعه، على إماتته، لأنهم بذلك سيظلون حكامًا عليه، ويداومون على نهبه.
– عندي فكرة.
– قولي، يا حبي.
– سنعود إلى دادي.
– لا تنرفزيني رجاء.
– أنا على أي حال سأنرفزك.
– ما هي فكرتك؟
– أن نقول لأبي داعش خطفتني، وهي تريد مقابل إطلاق سراحي، فلنقل مليار دولار.
– أنت مجنونة أم ماذا؟
– دادي يحبني وسيدفع.
– وإذا اكتشف الكذبة.
– لن يكتشف أي شيء، ولن نقول لأحد، لا لوالديك، لا لأختك، لا للشرطة، سيبقى الأمر بيني وبينك. يا الله اتصل بدادي.
– يجب أن تختبئي في مكان ما.
– غير ضروري، عندما يعلم دادي سيحول المبلغ حالاً، هو يثق بك.
– هو لا يثق بي.
– بكلامك.
– بكلامي أقل.
– هو يثق بما ستقول.
– …
– خذ هاتفي المحمول، كلمه.
– وإلى أين سيحول المبلغ.
– لا نريد حسابات هنا في بلد اللصوص، سيحوله على حسابي في سويسرا.
– على حسابك في سويسرا، هذا غير منطقي، وأنت رهينة!
– على حسابكَ أنتَ.
– ليس لي حساب في سويسرا.
– هو لن يحول المليار دولار إلى داعش.
– من المفترض هذا.
– إذن عندي فكرة أخرى.
– ما هي؟
– سنقول له خطفت داعش ساندي.
– ساندي! أبدًا! أبدًا! أبدًا! لا أريد أن يكون لابنتنا الصغيرة أي دخل في الموضوع لا من قريب ولا من بعيد.
– هو يحبها أكثر مني، أنت رأيته كيف بكى عندما ودعها، وهكذا تحويله لمليار الدولار على حسابي السويسري سيمضي بشكل لا أكثر منه طبيعيًا، على اعتبار أنني من ستتصرف بعد ذلك.
– وأين سنخبئ ساندي؟
– لماذا نخبئها؟ لن يعلم أحد بالموضوع.
– يجب أن نخبئها.
– لن نخبئها قلت لك، سنذهب ثلاثتنا للبيات عند أختك عادلة ريثما يتم التحويل.
* * *
طلبت ليلي من أبيها بدل المليار دولار ثلاثة، بعد أن درست مع ليث شق قناة البحرين، البحر الميت والبحر الأبيض المتوسط، وما سيدر مشروع كهذا من مكاسب في الطاقة وفي التحلية وفي السياحة على مستوى البلد والمنطقة والعالم.
– داعش؟ سأل السيد روكفلر بهدوء، داعش أزلامنا، سأكلم مدير السي آي إيه حالاً، وأحل لكم المشكل في عدة ثوان.
– إياك أن تفعل، دادي! سينهون على ساندي، هل تريد أن ينهوا على حفيدتك التي تحبها أكثر من أي مخلوق آخر في الوجود؟
– إنهم مجرمون أعرف، مجرمون كعربيك المجرم الذي تزوجته، وفضلته على أبيك!
– دادي، سبق وتكلمنا في هذا الموضوع ألف مرة، واتفقنا على ألا نطرحه ثانية.
– كلهم مجرمون، هم مجرمون منذ مولدهم!
– دادي!
– أوكي ليلي، يا حبيبتي، لأجل ساندي ولأجلك، فقط لأجلكما ستتم إجراءات التحويل.
– حالاً.
– حالاً، يا حبيبتي.
– سأفتح الكمبيوتر على حسابي، وسأنتظر.
– سأعطي أوامري في الحال.
* * *
خلال ستة أشهر كان مشروع الطاقة التجديدية قد انتهى، ومع أولى نَطَحات الجرافات في البحر الميت، انهالت على السيد والسيدة كريشان قروض كل بنوك بلدان العالم، وغدا التنافس ما بينها بعرض أقل الفوائد. إلا أن ما لم يتوقعه أحد على الإطلاق اختطاف الصغيرة ساندي بالفعل، وتهديد داعش بذبحها إن لم يتم دفع عشرة مليارات دولار كفدية خلال 48 ساعة. اضطرت ليلي إلى قول كل شيء عن الاختطاف المفبرك لأبيها، وهي تذرف الدموع الحرى، وأملت أن يلبي السيد روكفلر ما تفرضه المنظمة الإرهابية عليهم مقابل تحرير ساندي، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فما أن عرف أبوها الحقيقة حتى لعنها، ولعن ابنتها، وقطع المكالمة.
بعد مضي 48 ساعة، وجدوا على العتبة علبة فتحوها: كان رأس ساندي المقطوع فيها.
السيناريو السادس – غزة
أبو زكي تاجر في السبعين من عمره، لحيته أطول من لحية شيخ، لكن عينه فارغة، كلما مرت امرأة محجبة أمام دكانه، انتهرها قائلاً:
– احتشمي، يا امرأة، الله يحب الاحتشام!
في إحدى المرات، تصدت له إحدى النساء:
– طب ما أنا محجبة ومحتشمة من قمة رأسي حتى أخمص قدمي أكثر من جدة جدتك!
– أكثر من جدة جدتي! قال بقرف واشمئزاز، أعوذ بالله من غضب الله!
– غضب الله لماذا، يا حاج؟
– لأن الحجاب للصبابا الفاتنات لا للعجائز الشمطاوات، يا ابنة الناس.
– شايب وعايب ونفسه خضرة.
– شايب نعم، نفسه خضرة نعم، عايب لا.
– عايب لا، سنرى.
دخلت المرأة الدكان، وبين شوالات الحمص والفول والعدس، رفعت حجابها، وكشفت عن فخذ لم ير أبو زكي بجمالها إلا في الأحلام، فخر على قدميه متوسلاً:
– دعيني ألمسها، فقط ألمسها، لا أريد أكثر من أن ألمسها.
– وماذا ستعطيني بالمقابل؟
– الدكان، مكاني في الجنة، ثروتي، حياتي…
– سيرانا الناس.
جذبها من ذراعها إلى مكان أعمق في الدكان.
– هنا لن يرانا أحد.
– سيرانا الله.
– الله اتركيه عليّ، أنا وهو صاحبان.
– سيرانا شرطيو الأخلاق.
– أنا أعرف كيف أكشف عن لا أخلاقهم بحفنة سكر أو حفنتي رز.
وخرّ مرة أخرى على قدميه.
– مكانك في الجنة لا أريده، فما الذي سيضمن لي أنك ستعطيني الدكان؟
– أنا رجل دين وعبادة وكلامي كحد السيف القاطع لا رجعة فيه.
– المس إذن، هتفت المرأة وهي ترفع حجابها حتى وسطها.
داخ الرجل على مرأى الفخذين المصبوبتين، فتماسك، وبأصابع مرتعشة لمسهما، وفجأة ألقى بوجهه عليهما، وراح بهما قبلاً، والمرأة تضربه، وتشتمه، وتدفعه، حتى تمكنت من التخلص منه.
– ليس هذا ما اتفقنا عليه، لهثت.
– الرحمة، يا ستنا العدرا! لهث.
– ستنا العدرا! أنت مسيحي أم مسلم؟
– أنا… مسلم، مسلم.
– وستنا العدرا ليش؟
– تريدين الحق أم أخاه؟
– كمسلمة طبعًا أريد الحق.
– الحق أن من “عاش مع القوم أربعين يوم” صار منهم.
– أنت إذن مسيحي.
– وطي صوتك، يا بنت الحلال، لجدران حماس آذان!
– وإذا ما فضحتك؟
– أنا في طولك، أنا في عرضك!
ذهبتْ إلى صندوق النقود، وأفرغته في شنطتها.
– خذي كل ما تريدين.
– وهل تظن أني سآطلب منك الإذن بعد الآن؟
جذبها إلى ما وراء الحاجز الداخلي، وتوسل إليها:
– اكشفي عن وجهك.
– سأفزعك.
– أنت تكذبين.
– وماذا ستعطيني بالمقابل، مكانك في الجنة أم مكانك في الجحيم؟
– الدكان وأخذتِها، فماذا يبقى؟
– الدكان لم آخذ منها سوى صندوقها.
– الدكان صندوقها.
– اليوم أخذتُ الصندوق، وغدًا آخذ الدكان، هذا شرط كشفي عن وجهي.
– موافق.
كشفت المرأة عن وجه أجمل من وجه هيفاء وهبي، فصرخ أبو زكي من الرعب، كل ذاك الجمال كان بسطوة كل شرطة حماس عليه، بجبروت كل مساجدها، ببأس كل شرعيتها، بأيد كل ضرائبها، كل جماركها، كل لصوصيتها، كل عنجهيتها، كل تجبريتها، وكل سرسرية الأتقياء. انهار، فأمسكته بين ذراعيها، ودفنت وجهه بين نهديها.
– هذا ما كنت أخشاه، أن أميتك بجمالي.
والآخر ما انفك يردد:
– يا ستنا العدرا! يا ستنا العدرا!
– كفى لهذا اليوم.
رمته على كرسي، وخرجت، وهي تضع في شنطتها كل ما تصل إليه يداها من أكياس.
* * *
في اليوم التالي، جاءت المرأة المحجبة، وجذبت أبا زكي من لحيته حتى ما وراء الحاجز الداخلي. فتحت قنبازه على صدره، وأخرجت الصليب.
– أيها الجبان! صاحت، لماذا تخفي حقيقتك عن الناس؟
– لأن حقيقة الناس هي أحق حقيقة. وأنتِ؟
– أنا؟
– نعم، أنتِ؟
– أنا أخفيها ليس جبنًا وإنما حيلة.
– أنتِ شرموطة؟
– أنا راقصة باليه.
– يعني شرموطة.
– يعني راقصة باليه.
رماها على صدره، وحاول تقبيلها من وراء نقابها، فأوقفته عند حده.
– عندما تريد شيئًا، اطلبه بأدب.
– بأدب؟ بابتزاز!
– أنا أمارس الحيلة ولا أمارس الابتزاز.
– لماذا تفعلين هذا؟
– لماذا لا أفعل هذا؟
– أريد شيئًا واحدًا.
– أريد أشياء.
– أترين؟
– أريد أولاً أن أطعم تلاميذي…
– أنتِ لكِ تلاميذ يرقصون في مسرح البولشوي تاعك؟!
– …أريد ثانيًا أن أبني مسرحًا…
– أن تبني مسرحًا والناس لا تجد أين تنام؟!
– …أريد ثالثًا أن تخلع النساء الحجاب كالماضي…
– أن تخلع النساء الحجاب والرجال يربون لحاهم؟!
– …أريد أريد أريد!
– كل ما تريدين مستحيل.
– كل ما أريد على علو طموحي.
– ولم تجدي غير أبو زكي لتحلبيه.
– الباليه ثقافتكم، والإخوان المسلمون لن يعطوني عشرة شيكل.
– وماذا ستعطينني؟
مد أصابعه، وأراد أن يفتح الحجاب عن صدرها، فضربته على أصابعه.
– لن أعطيكَ شيئًا.
– إذن أنا كذلك لن أعطيكِ شيئًا.
في تلك اللحظة، وصلتهما طرقات عصا، ونداء “أبو زكي!”، فأشار أبو زكي إلى المرأة بالسكوت، وهو يضع إصبعًا على فمه، وخرج من وراء الحاجز الداخلي.
– أنا تحت أمرك، يا سيدي! همهم التاجر أول ما رأى الملتحي وعصاه.
– هذه المرة أريد ضعف المعتاد، هدد الملتحي.
– ضعف المعتاد!
– أما إذا كنت تريد أن أحمّل كل شيء، فهذا أسهل ما يكون عليّ.
– أنا تحت أمرك، يا سيدي! عاد أبو زكي إلى الهمهمة.
تناول من الصندوق حزمة كبيرة من النقود، وأعطاه إياها.
– في المرة القادمة اخف صليبك كما يجب، واشكر ستك العدرا على عدم فضحي إياك، ألقى الرجل قبل أن يختفي.
– لماذا لم تتركني أتصدى لهذا القذر؟ قالت المرأة من ورائه، فالتفت أبو زكي والدموع حبيسة في عينيه. هل تعرف كيف يقتل صيادو غزة الأسماك المتمردة؟ بالطبع تعرف، يضربونها بالقدوم على رأسها حتى تلفظ أنفاسها. هل تعرف لماذا؟ لأن الأسماك لا تتقن العض.
– أعدك أن تكون هذه المرة الأخيرة مع هذا القذر.
– أبو زكي!
– تعرفين اسمي؟
– ومن لا يعرف من هو أبو زكي الطيب الغزي!
– نقود هذا القذر وكل القذرين الآخرين ستكون لمسرحك، هل أنت مبسوطة مني الآن؟
– تقول مسرحي وكأن المقصود مسرح بولشوي.
– أنا حائر معك.
– يجب الذهاب مع الناس…
– أعرف، أعرف، على دفعات، كالفكرة عند السيد المسيح.
– لماذا كالفكرة عند السيد المسيح؟ كالفكرة، فقط كالفكرة، فهم الإخوان المسلمون ذلك، وأنت لم تفهم.
– كالفكرة. سيقص الرجال لحاهم ليلعبوا القمار، وستخلع النساء أحجبتها لترتدي المايوهات، وأخيرًا سيكفر الجميع بالله، أستغفر الله، يا رب لا تسمع لابنك الإنسان، يا ستنا العدرا ما هي سوى زلة لسان!
– هذا لأننا بعد أن نبني المسرح سنبني الكازينو والكباريه؟
– سنبني الكازينوهات والكباريهات ونفتح الخمارات والكراخانات ونعمل من غزة لاس فيغاس.
– تعال معي، أيها الحالم المجنون.
– إلى أين؟
– إلى أول الحُلم.
سار أبو زكي وراء المرأة، فجذبته من ذراعه، وجعلته يسير جنبها. سارا طويلاً، حتى بقعة كل شيء فيها دمرته القاذفات الإسرائيلية في الحرب الأخيرة. وشيئًا فشيئًا بدأت تصلهما سيمفونية بحيرة البجع لتشايكوفسكي، وفي الأنقاض، أخذا يريان البنات والأولاد وهم يرقصون الباليه على أنغامها.
السيناريو السابع – موسكو
في الكرملين:
– ما الفرق بيني وبين لينين؟
– ستالين.
– ما الفرق بيني وبين ستالين؟
– لينين.
– ما الفرق بين لينين وستالين؟
– الجولاج.
– الثروة البروليتارية، أوه! معذرة… الثورة البروليتارية…
– تقول بروليتارية؟
– ماذا أقول؟
– الثورة.
– فقط؟
– فقط.
– الثورة لا حاجة بها إلى إراقة الدماء، لأنها لا تهاجم البشر بل المؤسسات.
– هذا ما كانه برنامج السبارتاكيين الألمان الذين أغرق أصحابهم العصيان البروليتاري…
– تقول بروليتاري؟
– ماذا أقول؟
– العصيان.
– فقط؟
– فقط.
– لكنه كان عصيانًا للعمال.
– طيب هذه المرة.
– …هذا ما كانه برنامج السبارتاكيين الألمان الذين أغرق أصحابهم العصيان البروليتاري في الدم.
– كان علينا أن نفهم ما كانه برنامج السبارتاكيين الألمان بعد عقود من الرعب على أحسن وجه. انظر إلينا الآن، أنا أحكم دون أن أريق قطرة دم واحدة.
– وتحقق ما عجز عن تحقيقه لينين… عفوًا، ستالين.
– ما الذي عجز عن تحقيقه ستالين؟
– أن يحكم دون أن يريق قطرة دم واحدة.
– ليس هذا لأنني ديمقراطي.
– أن تكون الرئيس مرة ورئيس الوزراء مرة أنت أبعد عن أن تكون ديمقراطيًا.
– إنه التعاقب عند الغرب على الطريقة الروسية.
– على الطريقة الروسية!
– على طريقة ماذا إذن؟
– على طريقة الدمى الروسية.
في الساحة الحمراء:
– كنت أعتقد أنني أستطيع تغيير الأشياء.
– الذهاب إلى السجن لمظاهرة ستشارك فيها، طز في الأشياء وتغييرها.
– ألف طز!
– لا أحد يعرف ماذا سيحصل له غدًا.
– لا أحد.
– لهذا أرغمتُ صديقتي على أن تحبل مني.
– بالقوة؟
– بالقوة.
– أنا عندما أكون متشائمًا أرغم نفسي على التفاؤل.
– بالقوة!
– بالقوة.
– هذا شيء طبيعي لشيوعي قديم.
– ليسه التفاؤل التاريخي.
– ما هو إذن؟
– التفاؤل الخرائي.
– فهمت.
– ماذا فهمت؟
– تفاؤلك شيء كقرون الثيران عندما تنبثق من سيبيريا مجتاحة بالخراء.
– عند ذاك أفكر في الأمراض التي تجتاح أفريقيا، ويضطر الأفريقيون إلى الغناء على إيقاع التام تام.
– بالقوة؟
– بالقوة.
– لهذا نحن في ألف خير في روسيا.
– في ألف خراء.
– ألف خراء أحسن من ألفي خراء.
– عندك حق.
– عند روسيا حق.
– روسيا عندها حق، والعالم كله يهاجمنا.
في المترو:
– مترو موسكو بحافلاته المثالية ولوحاته الجدارية وبوظته الشتائية هو الأفخم في العالم!
– عندما أريد الخروج من عالمي المغلق آخذ القطار.
– للذهاب إلى أين؟
– إلى لامكان.
– اللامكان شيء منتج في زمن الأحياء المسيرة ذاتيًا.
– شيء غير منتج.
– شيء منتج أقول لك عندما تكون هذه الأحياء “الاشتراكية” على مقربة من دكاكين آخر صيحات الموضة في الغرب.
– شيء غير منتج، شيء غير منتج!
– لأنك لا تستطيع التبضع منها شيء، ولأنك تصنع منها اغترابك شيء آخر.
– الاغتراب شيء غير منتج.
– منتج، يلعن دين، منتج!
– منتج في عالم العبث الذي هو عالم موسكو يعني غير منتج.
– نحن إذن متفقان.
– عندما أعود إلى المكان، إلى عالمي المغلق، إلى شقتي، ذات النمط الستاليني، أعمل على زخرفتها.
– زخرفتها؟
– زخرفتها.
– شيء منتج وغير منتج كذلك.
– إنه عالم موسكو دومًا، عالم العبث.
– بين أيام ستالين وأيام بوتين لم يتغير شيء إلا بالشكل.
في حانة:
– أعطني قدح فودكا ما قبل القدح الأخير.
– كم قدحًا شربتِ؟
– أنا لا أعدها.
– كم قدحًا ستشربين؟
– أنا لا أعدها.
– لماذا إذن تقولين “ما قبل القدح الأخير”؟
– لأوهم من هم في الحانة أني على موعد مع واحد.
– واحد من؟
– زبون.
– لكن لا زبون لك.
– قلت لك لأوهم.
– ولماذا تريدين أن توهمي.
– ربما لأعطي نفسي بعض الأهمية.
– جمالك ذبل، وأنت لا تريدين الاعتراف.
– التهمته الذئاب.
– أنا حزينة من أجلك.
– لأني أمك تقولين هذا؟
– لأني مومس مثلك.
– هذا شعور نبيل من مومس ابنة تجاه مومس أم.
– ماما!
– ماذا، يا حبيبتي؟
– فلتذهبي إلى الجحيم!
– لا تغضبي، يا حبيبتي، فهي مهنة كباقي المهن.
– سيذبل جمالي مثلك، لكني لن أجد من يحزن لأجلي.
– ليست لك ابنة.
– ليست لي ابنة، ابنة كلب أثير حزنها.
– أنتِ تغمرينني بعطفك.
– أما أنتِ، فلا.
– أعرف، دومًا ما كنتُ أمًا قذرة.
– ماما!
– أليس هذا ما تودين قوله.
– لا، ماما! بماذا أقسم لك؟
– أصبحتُ مومسًا لأجلك، يا حبيبتي!
– أعرف، ماما!
– ولن أندم على ذلك.
– ماما! أحبك، يا ماما!
– وأنا أيضًا أحبك، يا حبيبتي!
– لا تؤاخذيني إذا جرحتك.
– أنتِ لم تجرحيني، نحن عاهرتان ما بيننا في نهاية المطاف.
– كما تشائين، ماما!
– لا تبالي بما أقول، يا حبيبتي! أنا أقول أي شيء، لأن لا شيء أقوله لديّ، إنها حياة كل مومس في موسكو، تقول أي شيء، لأن لا شيء تقوله لديها، نعم، لأن لا شيء تقوله لديها، تقول أي شيء… هل يأتي قدح فودكاي ما قبل قدحي الأخير؟
في مسرح بولشوي:
– نحن كلنا نرتدي البيجاما.
– والبابوج.
– لأن روحنا المعنوية في الحضيض.
– لا نعرف كيف نقاتل ضد هذه الماكينة.
– منفانا الداخلي.
– مجتمعنا المتراجع.
– لهذا نجتمع في الأماكن المغلقة.
– في ثياب النوم.
– وكأننا نريد أن نحلم بما ستكونه المسرحية.
– لأننا لا نعيش كما ينبغي، نحن العزاب والمتزوجون والمثليون.
– لماذا تقول كما ينبغي؟ لأننا لا نعيش.
– لأننا أبدلنا الشعور بالكرامة بالشعور بالإهانة.
– ارفع صوتك.
– من يبدل الشعور بالكرامة بالشعور بالإهانة لا يتكلم بصوت عال.
– من يتكلم بصوت عال إهانةُ الآخرينَ لديْهِ لَذتُهُ.
– السياسيون.
– والممثلون.
– لماذا الرجال منهم يرتدون أحذية نسائية؟
– لأن النساء منهم يرتدين أحذية رجالية.
– كنت أعتقد أن لهذا سببًا منطقيًا.
– لا منطق هناك عندما يتعلق الأمر بالسياسيين، بالممثلين.
– ابن سياسي اشترى حذاء بألفي روبل اضطر إلى ضربه بحجر حتى يلين في قدمه، ويلعب الكرة بكل راحة.
– أن يرتدي الرجال من الممثلين أحذية نسائية أرخص بكثير لجيب المنتج (الدولة)، يكفي أن يكسروا كعابها، فيظفروا بالراحة المرجوة.
– لهذا السبب في نهر الفولجا الكعاب تنبثق من سطحه كرؤوس الأسماك.
– لهذا السبب ولسبب آخر.
– ما هو؟
– إنها كعاب الذين تركوا البلاد عاجزين عن الكفاح.
السيناريو الثامن – ستوكهولم
مجدي ماجد سوري في الثالثة والعشرين من عمره، يتعالج في أحد مستشفيات ستوكهولم من جرح حارق أصاب ذراعه وكتفه وعنقه ووجهه، ويبقى يتحرق شوقًا إلى أنامل جوانا، الممرضة التي تبدل له الضِمادة، كل يوم، إلى ابتسامتها البيضاء، إلى شعرها الذهبي، وفي الليل، يحرق فحمة ليله في التفكير فيها، ويقيم حوارًا بينه وبين نفسه:
– اشكر الله على نعمته، يقول لنفسه.
– جرح خطير كهذا نعمة، يؤكد لنفسه.
– كل الجروح نعمة من فضل الله بين أنامل جوانا.
– كل الجروح جوانا.
– جوانا كل الجروح.
– البيضاء الشقراء الثلجية.
– الغيداء الحوراء السكرية.
– يحسدك كل الأصحاء.
– يغير منك كل الشبان.
– لن يحلم بها أحد غيرك.
– لن يحس بها أحد بعدك.
– بعدي ليس بأكيد.
– هذا صحيح.
– جوانا تداوي الجميع.
– هذا صحيح.
– جوانا حمامة على وجهها تهيم.
– هذا صحيح.
– ما العمل إذن بعد أن أبرأ؟
– يجب ألا تبرأ.
– مستحيل.
– يجب ألا تخرج من المستشفى.
– مستحيل.
– يجب أن تفعل المستحيل.
– مستحيل.
– افقأ جرحك كلما اندمل جرحك.
أخذ مجدي ماجد يفقأ جرحه كلما اندمل، فأثار استغراب جوانا، لكن ما لبث الأمر أن أسعدها، أمر بربري كهذا أثار في نفسها كل ما عجزت عن تحقيقه، فانجذبت إلى الشاب السوري، وبأناملها الناعمة راحت تبادل الإرهاب بالإعجاب، والإعجاب بالدكتاتورية.
* * *
سعد الله عبد الله كاتب سوري في الخمسين من عمره، يحلم بجائزة نوبل رغم أنه لم يكتب سوى عشرة كتب بينها ثلاث روايات أو أربع، لهذا أنفق “تحويشة العمر” ليكون من بين المهاجرين إلى السويد. سيترجم كتبه إلى السويدية، وسينشرها بالسويدية، وسيهديها بنفسه إلى أعضاء الأكاديمية الصانعة للخالدين. سيكون أول عربي أول عالمي ينال الجائزة دون خلفيات سياسية، بفضل القيمة الإبداعية لأعماله.
– الآن وقد ترجمتَ كتبك إلى السويدية ونشرتَها على حسابك بالسويدية ماذا ستفعل؟
– سأنطر أعضاء أكاديمية نوبل على الباب لأعطيهم أعمالي وأوصيهم بها خيرًا.
– وما الذي يضمن لك أنهم سيقرأونها؟
– أعضاء الأكاديمية أسماء لامعة ومسئولة.
– هذا لا يعني شيئًا.
– كيف هذا لا يعني شيئًا؟
– كم نسخة بعتَ من كتبك؟
– ليس كثيرًا.
– تريدهم أن يقرأوك دون قراء؟
– سيكون لي قرائي بعد أن يقرأوني.
– تعني بعد حصولك على نوبل؟
– تمامًا.
– أنت تحمل السلم بالمقلوب.
– تمامًا.
– وبالعرض.
– تمامًا.
– نحن في السويد لا في سوريا.
– حتى ولو كنا في جهنم.
– نحن في ستوكهولم لا في دمشق.
– حتى ولو كنا في زحل.
– التكنولوجيا والديمقراطية هي نوبل.
– التخلف والدكتاتورية هي نوبل.
– نوبل هي إدراك نوبل.
– نوبل هي إجبار نوبل.
– أنت لا تعرف العقلية السويدية وأقل عقلية أعضاء نوبل.
– أعضاء نوبل لا يعرفون العقلية السورية وأقل عقليتي.
* * *
كانت أنّا السويدية وصديقتها أمينة السورية تشربان البيرة مع بعض الأصدقاء والصديقات من حول نار في موقد في الليل في الثلج، وكانت أنّا تقول إنها نابتية، وإن قتل الحيوانات جريمة ضد الإنسانية.
– وقتل الخضروات؟ تهكمت أمينة.
– الخضروات لا روح لها، أجابت أنّا.
– للخضروات روح وللفواكه روح وللأعشاب روح، فكل شيء من روح الله.
– الله السوري لا الله السويدي.
– هل هناك الله سوري والله سويدي؟
– هناك.
– الله السويدي من هو؟
– الثلج.
– للثلج روح؟
– للثلج روح.
– إن كانت روح للثلج، فهي روح عاتية! انظري إلى دكتاتورية الأبيض من حولنا، حتى في الليل الأبيض يظل أبيض، ونحن السويديين نحاول التحرر منه على طريقتنا.
– بالنار والبيرة.
– والمضاجعة.
– المضاجعة حيوانية.
– لهذا أنا نابتية… بيتر، تعال! أشتهي بعض اللحم، الجزر المبشور على الغداء لم يكن طيبًا! يا للهول أن تكون نابتيًا! لا تملأني بالثلج، يا وغد! تمارس الإرهاب على طريقتك؟ أنت ابن الثلج، وهذا شيء طبيعي؟ ابن قحبة بالأحرى! بعد عظيم البرودة عظيم السخونة، هذا ما تردده أمي، لكنها هي ليست نابتية، هي أشبه بأمينة، تحب اللحم، تلتهمه من أفواهها الثلاثة، لِتَخضع كما يجب. يجب الخضوع لإلهنا الثلج، ليكتفي بخضوعنا، ويترك الصيف وشأنه، صيف خراء على كل حال، شمسه عند منتصف الليل أفظع شمس.
السيناريو التاسع – واشنطن
– أرجوك، يا سيدي السيناتور، ألا تبالغ، ابتهلت مس براون.
– أنتِ تبتهلين إليّ بأية صفة؟ سأل السيناتور.
– بصفتي سكرتيرتك.
– بصفتك الرسمية إذن.
– هكذا اتفقنا.
– وكيف تريدينني أن أجيبك؟
– بصفتك الرسمية طبعًا.
– من الضروري ألا نخلط بين علاقتنا في المكتب وعلاقتنا في الفراش.
– من الضروري، وإلا لن تمشي الأمور كما يجب.
– الأمور تمشي هكذا جيدًا جدًا.
– هذا هو رأيي كذلك.
– لكني أحيانًا أرغب في مضاجعتك في المكتب.
– رغبتك في مضاجعتي في المكتب ليست كل يوم، ويا للحظ!
– ويا للحظ لماذا؟
– لأن علاقتنا في الفراش ستغلب على علاقتنا في المكتب، وستمشي الأمور بشكل مضطرب.
– بشكل مضطرب كيف؟
– بشكل عاطفي.
– وما الضرر في ذلك؟
– الضرر في ذلك كبير.
– أوضحي.
– أن تدير الأمور بعاطفتك شيء وأن تديرها بعقلك شيء آخر.
– كنت أعتقد أن الأمر شكلي.
– على الإطلاق.
– بكلام آخر العقل تديره العاطفة في مجتمعنا عندما يتعلق الأمر بأكثر الأشياء عقلية، ونحن كل ما نفعله أننا نتظاهر بتجاهلها. العاطفة، نعم العاطفة! القوة المحركة لرأس المال، لهذا ليس بريئًا كل شيء، ليس نزيهًا. هذا لا يعني أننا سيئون، نحن نعمل من خلال نظام مصنوع هكذا.
– أرفض أن تكون العاطفة سببًا لكل الملايين التي تربحها، هاري.
– التنافس شيء لا يعقل، التنافس ابن عاهرة، سوزي.
– التنافس ليس التآمر.
– بلى! التنافس بشكل من الأشكال تآمر على الخصم، ليس بالمعنى القانوني، وإنما بالمعنى التجاري، البورصة كالبيت الأبيض، خير مثال على ذلك.
– ثديي إذن يحسن التآمر على أكمل وجه.
– لكنه يظل رمزًا للجنس.
– للعهر.
– للجنس للعهر ليس الأمر مهمًا إلى هذه الدرجة، فما هي سوى تسميات لا أكثر، وهي في نظامنا تغطي الجوهري، والجوهري هو مقدار ما أحققه من ربح أيَّةً كانت الوسائل.
– والآخرون الذين يشيرون إلى ثديي المتآمر بأصابعهم العشر؟
– سنقول إنهم يخرجون عن الموضوع، يُنَظِّرون على هواهم، فهل من ثدي في العالم يتآمر؟ بينما تطحن ماكنتنا بأضراسها كل ما يعترض طريقها بكل “موضوعية”.
– دواليب ثديي تحتاج إلى بعض الزيت.
– لقد أثرتُ رغبة ثديك كما أرى.
– يريد أن تمزقه بمخالبك.
– سأغلق الباب بالمفتاح.
– عجّل!
– أغلقتُ الباب بالمفتاح.
– وأنا خلعتُ ثيابي.
– سنقوم بفعل لا أخلاقي لكنه جد عادي في أخلاقنا.
– كفعل الحرب.
* * *
– في علم الإنسان، قال بيل ضابط الإف بي آي، لم يفطنوا إلى أن الحمل الوديع أصل الجنس البشري.
– إذن على عكس دارون، قال ريان ضابط الإف بي آي، أنت ترى أن الإنسان في أصله لم يكن قردًا.
– على عكس دارون لا، كما يقول دارون مع بعض التعديل، تعديل توجبه الحداثة.
– الحداثة تحت أي مفهوم؟
– المفهوم كما هو سائد في قسم البحث والتقصي.
– مفهوم ماخوري على كيف كيفك!
– ماخوري هي الكلمة، لكنها في عرفنا كلمة نبيلة.
– أبعد ما يكون عن النبل.
– انظر إلى هذه المدينة، واشنطن، أخطر مدينة في العالم، الحرية فيها تؤدي إلى الجريمة.
– تتكلم عن الجريمة كما يتكلم أعضاء الكونغرس عن الشمبانيا.
– جريمة أم غير جريمة الحرية شيء جوهري في ثقافتنا.
– أتفق معك.
– الحمل الوديع حالة الإنسان الحر بلا جريمة.
– أتفق معك مرة ثانية، ولكن تحت شرطين.
– ما هما؟
– الشرط الأول ألا نحول دون الجريمة بجريمة.
– والشرط الثاني؟
– ألا يخضع حملك الوديع لحريته، فيتعذر ضبطه.
– شرطك الأول غير ممكن عندما نعمل على تعميم المخدرات، وشرطك الثاني غير ممكن كذلك عندما يعتاد مواطننا عليها.
– ما العمل إذن؟
– إنها الحلقة المفرغة.
– اتفق معك مرة ثالثة.
– عندما يصبح المخدر نقطة ضعف، المخدر تحت كل أشكاله الإعلامية أولها، فهو يعري العظمة الزائفة، عندئذ يكون من واجبنا التدخل في كل شيء في حياة الناس إلى درجة يغدو فيها هذا التدخل شيئًا عاديًا كتناول الطعام كل يوم.
– لماذا ذكرتني بالطعام، يا ماخور الغائط؟
– كم الساعة؟
– تجاوزت الثانية عشرة.
– فتحتُ شهيتك عن غير قصد مني، فاسمح لي.
– سأظل أمريكيًا رغم كل شيء، أريد القول حملاً وديعًا، نعم حتى أنا رجل الإف بي آي!
* * *
فكتوريا عانس في الخامسة والثلاثين من عمرها، تحب النظر إلى نفسها في المرآة، لا لتتأمل جمالها بل لتحصي عدد التجاعيد على جبينها وتحت عينها وحول فمها، ولتجدها يومًا عن يوم في ازدياد دائم. تحول خوفها من ضياع حياتها دون حياة، والحياة في مفهومها الزوج والأبناء، إلى خوفها من بيئتها، وفي عصر الإرهاب من كل ما له علاقة بالإسلام. أقنعت نفسها بما لا يُقْنِعُ: سبب مأساتها هم، أولئك السمر الذين يبتسمون لها سواء أكانوا جيرانًا أم عابرين. رأت في ابتساماتهم هزءًا بعنوستها، وهي لهذا أعلنت عجزهم عن تحقيق ما يرمون إليه، وذلك بنصب شباكها، ليس انتقامًا، ولكن لأن هذا جزء من نظرتها إلى العالم.
– هل تحب ثديي؟ سألت فكتوريا المسلم الأول، وهما عاريان في الفراش.
– ثديك ينطق على شفتي، قال الشاب الباكستاني، ويتلو آيات قرآنية.
– أنت مخطئ! ثديي لا يعرف القرآن، ثديي مسيحي.
– وأنا أغمره بعطفي، يغمرني بعطفه.
– هذا ثدي خائن، قالت فكتوريا باكية، وسيرى.
تناولت سيخًا، وغرزته في حلمتها، تحت النظرات المستنكرة للشاب الباكستاني، ونادت الشرطة، وهي تصرخ، والدم من ثديها يتفجر.
– هل تحب بطني؟ سألت فكتوريا المسلم الثاني، وهما عاريان في الفراش.
– بطنك يغني بلساني، قال الشاب السعودي، فتُطربُ الكونَ مواويلُنا البدوية.
– مواويلكم تطرب الصحراء التي لكم!
– وأنا ألعقه لعقي للشهد، يرشف النحل رحيق الزهر في كل حدائق العالم.
– هذا بطنٌ عاهر، نبرت فكتوريا غاضبة، وسأعرف كيف أعيده إلى طريق الصواب.
وبأظافرها راحت تخدشه، والشاب السعودي يتوسل إليها ألا تدمي الذهب في حلمه، غير أنها نادت الشرطة، وهي تولول، والحياة على بطنها عشب أحمر.
– هل تحب فرجي؟ سألت فكتوريا المسلم الثالث، وهما عاريان في الفراش.
– فرجك كل الأديان، قال الشاب المقدسي، فلا فرق بينها عند الولوج.
– أنت إذن لست مسلمًا.
– أنا مسلم.
– أنت إذن لست مسيحيًا.
– أنا مسيحي.
– أنت إذن لست يهوديًا.
– أنا يهودي.
– لماذا تكذب؟
– أنا لا أكذب.
– عليك أن تختار دينًا من هذه الأديان، وإلا أبلغت الشرطة بكونك تمارس الإرهاب ليس باسم الإسلام بل باسم الإسلام والمسيحية واليهودية.
– أنا اخترت مركز الكون في جسدك.
– أين موساك؟
– ها هي.
– افتح بها مركز الكون.
– بموساي؟
– بموساك.
– سأقتلك.
– اقتلني.
السيناريو العاشر – بكين
– اسمي كْسِن كْسِنيانغ، كمقاطعة كْسِنيانغ الواقعة شمال غرب الصين، مقاطعتي. الجغرافيا تجمعني مع هذه المقاطعة، والتلوث، والجفاف. منذ عدة أعوام، بدأت الصحراء تزحف إلى قرانا، وفي الوقت نفسه بدأ السرطان يزحف إلى رئتيّ. ألم أقل لكم إن لِكْسِنيانغ ولي مصيرًا واحدًا؟ لهذا السبب كنا نموت نحن الاثنين ببطء، ولا أحد يبالي بنا. رحل كل سكان قريتي أسوة بسكان القرى الأخرى، فالرمل دون الماء لا يسمن ولا يغني من جوع. قالوا لي تعال معنا، هناك بنايات جديدة، ولكل واحد منا شقة، لكني لم أذهب. أردت الموت في المكان الذي أحمل اسمه، فأنا سأموت على أي حال، والشقة الجديدة لن تمنع موتي. أردت الموت في المكان الذي ولدت فيه، في المكان الذي يموت مثلي. كان ذلك إخلاصنا، الواحد للآخر، الإخلاص عندما يخدعك الكل، حتى ولو كان ذلك على الرغم من كل إرادة. لم يفعل أحد شيئًا للحيلولة دون غاز الدفيئة، لم يرسل أحد إنذارًا نهائيًا بخصوص الدخان، لم يحتج أحد على موت الأرض، بالتدريج كما أموت الآن بالتدريج، ولا فائدة من علاجي. كانت مصائرنا ترتبط بالأوزون، كنا نعلم ذلك، لكننا لم نفعل شيئًا. لم يكن دافع ذلك اليأس، كان دافع ذلك الكسل، والاتكال على صدقات الدولة. رشتنا الدولة ببعض اليوانات، فسكتنا عنها، لأن هذه دومًا وأبدًا غايتها، أن نسكت عنها، بينما خزائنها تمتلئ بالمليارات، بمليارات المليارات، ليس لتطوير الصين، وإنما لجعل الصين قوة إمبريالية، لتحل الصين محل أمريكا، لا لتطوير الصين، ولا لتطوير العالم، لتطوير هيمنتها العالمية، والذهاب بالكون من سيء إلى أسوأ. تمامًا مثلي، أنا، كْسِن كْسِنيانغ، ومقاطعتي كْسِنيانغ، التي كانت جنة قبل عدة عقود، واليوم هي جهنم.
كثيرًا ما قالت لي سيم ابنتي: بابا، ستموت وحدك مثل جرذ، تعال عندي في بكين، فأعنى بجثمانك، أعطره قبل إحراقه، وأحتفظ برماده، أضع رماده في قارورة أتركها تحت مخدتي. وكل الرماد الذي من حولي، أقول لها، ألا يكفي؟ عمَّ تتكلم، بابا؟ عن قريتنا، أقول، احترقت قريتنا، ولم يبق منها إلا الرماد. تبكي سيم ابنتي، وتضمني. تتذكر كيف كنا نزرع حقلنا بالأرز، ومع الأرز نزرع الأسماك، تتذكر كيف كانت الأسماك تلعب تحت أقدامنا. كانت الأسماك تدغدغ ماما من قدميها، تقول سيم ابنتي، فتضحك، وأضحك معها، ولا تفعل غير الإمساك بها. كانت ماما تقول، الأسماك تريدنا أن نأكلها، لهذا تدغدغنا من أقدامنا، إنها تدعونا إلى العشاء. وإذا ما خرج عليك سرطانك، بابا، تقول سيم ابنتي، ماذا ستفعل، وأنت وحدك؟ كانت تتكلم عن سرطاني كأنه واحد منا؟ تقول خرج عليك، كخروج العصاة في ساحة تيننمن. سرطاني لم يخرج عليّ إلى حد الآن، أقول. وإذا ما خرج عليك، سيخرج سرطانك عليك في يوم ما، وإذا ما خرج عليك، ماذا ستفعل؟ أنا لست هنا لأعمل على تخفيف ألمك، أنا لست معك، بابا. أنتِ لستِ معي. أنا لست معك، أنا بعيدة، أنا في بكين. أنتِ بعيدة، أنتِ في بكين. وإذا ما خرج عليك سرطانك، كل سرطان يخرج على صاحبه، فيذيقه أقسى ألم، وإذا ما خرج عليك سرطانك، بابا، ماذا ستفعل، وأنت وحدك؟
كنت كمن يريد أن يعاني أقسى ألم بعيدًا عن سائر البشر، وأول البشر سيم ابنتي. لم أكن أريد إزعاجها، فكيف إيلامها، لأني كنت أعرف أنها ستحس بألمي ذاته، فتفقد ابتسامتها الدائمة على شفتيها، وتضيع في الكحول. كان ضياع ابنتي في الكحول أشد وطأة من سرطاني عندما يخرج عليّ، عندما يتحداني، ويخرج عليّ، عندما يرفسني بحافره كما كانت ترفسني فرسنا بحافرها قبل أن تموت من دخان المصانع، قبل أن يتغلغل ثاني أكسيد الكربون في رئتيها، كما يتغلغل في رئتيّ، وتصاب بالسرطان كما أصاب. لهذا فضلت احتمال الألم بعيدًا عن سيم ابنتي، وأردت الموت بكل حرية، فما أرهب الموت في وسطٍ يبكيك، ويحنو عليك، وينتظر إحراقك بحرقة وشوق.
حفرت قبري بيدي، وتمددت فيه. كان علي أن أموت قبل أن يخرج سرطاني عليّ، لأنني سأموت على أي حال، ولأنني لا أريد أن أتألم، لا أريد أن تتألم سيم ابنتي، لا أريد أن تتألم الرياح، لا أريد أن أترك لحمي للكواسر من طيور كْسِنيانغ، فتتألم قريتي الميتة، لا أريد أن تتألم أرواح أجدادي، لا أريد أن تتألم نجوم الصين، لا أريد أن يتألم المغامرون الذين يعبرون من هنا بعد مائة عام عندما يعرفون قصتي، لا أريد أن يسعد الرأسماليون عندما يشربون كأس نبيذ فرنسي نخب ألمي، لا أريد أن يتألم الجنود عندما تجتاح الرمال فلولهم بلا أمر ضباطهم، فلا انتقام من أحد، ولا أحكام بالموت، ولا تدابير ثأرية…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أفنان القاسم – من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدَرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا…