قبل عدة أسابيع وبالصدفة شاهدت حوار خاصا بالتعليم في العالم العربي على قناة ال بي بي سي العربية.. كنت أتمنى ان تعطيه القناة مساحة اوسع للحوار مع شخصيات متعددة من أقطار عربية مختلفة.. نظرآ لمدى أهميته وتأثيرة على مستقبل المنطقة العربية. ولكن ولسوء الحظ.. لم يحظى الموضوع بغير بضع دقائق أقتصرت على مشاركة الأستاذ فيليب معلوف ممثل اليونسكو.. ومديرا معلما من إحدى المدارس في اليمن.. وإقتصر بحث الموضوع على أن عدد الأميين البالغين في العالم العربي يزيد عن 48 مليون.. تحليل الأستاذ فيليب كان حول أن مستوى التعليم حتى في الدول الخليجية الغنية بالموارد متدني للغاية.. وأن الحاجة ملحّة لتنظيم التعليم وآلياته.. أما المدرس اليمني فاقتصر تحليله على أسلوب التعليم الغير متماشي مع العصر وضعف مستوى وأداء المعلمين في العالم العربي.. وغياب وسائل النقل.. كلاهما أتفق على ضرورة تحديث المناهج التعليمية.. بدون الدخول في ماهي المواد الأساسية في المنهاج التعليمي العربي التي تحتاج إلى تغيير جذري ويحتاجها الإنسان العربي في القرن الحادي والعشرون لتساعده على التوائم مع العالم من حولة وتحسين مستقبله؟
بعدها.. جاء برنامج حوار مفتوح أدارته المذيعة القديرة رشا قنديل حول جودة التعليم.. ومستقبل التعليم بين الدكتور طلال أبو غزاله والمستمعين.. والذي حاول من خلاله الدكتور ابو غزالة تبيين الفرق ما بين التعليم.. وعالم المعرفة الذي يصل العالم كله عن طريق الإنترنت.. والذي أصبح بلا حدود ولا دين.. عالم المعرفة الذي يتصل إتصالا وثيقا بالفكر والإبداع.. والذي هو أيضا بلا حدود ولا دين ولا جنسية.. الذي سيضمن مستقبلآ عالميا بلا حدود. وهو محق كل الحق.. ولكن وقبل وصول الطالب إلى هذا المستوى العقلي الراقي فإنه لا بد وأن يمر بالتعليم المدرسي كما عرفناه.. ولكن؟؟؟؟
من خلال البحث والتقصي وجدت أن أهم ما يؤكد الحاجة الملحة لتغيير أسلوب ومناهج التعليم العربي لإحداث التطور المجتمعي داخليا… وأهميته خارجيا للخروج من الصورة القاتمة للإنسان العربي… أن ما يزيد عن 40% من السكان في المنطقة العربية هم دون سن الثامنة عشر !!! وهو السن التي ومن الممكن ان تكون بداية الدخول إلى عالم المعرفة إلا من قلة من المحظوظين في العالم العربي التي تتمتع بمستوى مادي.. وثقافي أعلى من المتوسط وتملك القدرة المادية للسفر ولشراء أدوات التكنولوجيا الحديثة…
… وبالتالي فإن مقالتي هذه لم تقتصر على آراء شخصية وإنما هي مزيج من ما ’كتب عن موضوع المناهج التعليمية وتحليلا لها..
من المعروف بأن أهداف إنتفاضات الشعوب العربية.. عيش حرية وكرامة إنسانية.. أي من أجل تغيير جذري على الصعيدين السياسي والإقتصادي ولم تطالب بأي وقت او صورة بتغيير جذري في أنظمة التعليم مع أن التعليم ’يعتبر احد المحددات الرئيسية للقدرة التنافسية الإقتصادية أي ما يدخل تماما في العيش والكرامة الإنسانية…. غير واعية بأن تحقيق هذين الهدفين لا يمكن أن يتم بطريقة سريعة حتى وإن كانت ثورية…. لأن كلاهما بحاجة إلى إحياء التربة المجتمعية الصالحة التي تعطي الطالب الإحساس بالأمان فالبيئة المدرسية – والبيتية.. في معظم الدول العربية إستبداية وقمعية..إضافة إلى منهج تعليمي لا ’يحفّزه على المنافسة الإبداعية الخلّاقة.. لخلق جيل جديد يؤمن على الصعيد السياسي بالتعددية وبالمواطنه.. ويؤمن على الصعيد الإقتصادي بحق كل المواطنين بتكافؤ الفرص والعدالة الإجتماعية.. وكلاهما لن يفهم معنى ذلك بدون إعادة تشكيل مجتمعاتهم بحيث تقوم هذه المجتمعات بدور أكثر انفتاحاً عالمياً على قيم الديمقراطية في العالم.. وهذا لن يتأتى بدون ثورة تعليمية.. لإعادة بناء الشخصية العربية.. وأنسنتها..
وبالتالي.. لا يمكن تقوية الزخم الشعبي لهذه الإنتفاضات.. بدون تحقيق إصلاح مجتمعي يتقبّل القيم الديمقراطية.. الحرية.. المساواة والعدالة الإجتماعية للجميع وإحترام التنوع وحقوق الآخر..وبدون منهج تعليمي حر يؤكد هذه القيم و’يرسّخ للمواطنه والتعددية.. ويعمل على إبراز تناقضها مع إيمان الأحزاب الدينية بان الهوية الدينية أشمل وأهم من الهوية الوطنية وأن التسليم بهيمنة خطاب واحد يؤدي إلى تكوين عقلية ذات تكوين أحادي البعد.. يقمع ويتعارض مع التعددية المجتمعية.. والحل الوحيد هو السماح بالحريات.. ولا أعني هنا الحرية الجنسية لأن هذه خيار خاص ولا شأن له بتقدم المجتمع.. وإنما أنادي بالحرية الفكرية وحرية التفكير بشكل نقدي وإحترام وجهات النظر حتى مع إختلافها. وهو ما يتعارض تماما مع حوار الإسلاميين الذي يفرض التسليم بخطاب واحد فقط وتعليم يستند إلى الدراسات القرآنية ودراسات السيرة والفقه.. مما يفرض على المجتمع المسلم أن يتنكر لتعدديته وأن يبقى أسير هذا الخطاب.. ويلغي قدرته في التعبير عن نفسه.. خاصة حين يستند هذا الخطاب إلى الآيات القرانية.. ويقوم على الدعوة بالموعظة والمجادلة بالحسني ولكنه يرفض كليا أي نقاش في أي مخالفة صريحة لعقيدته..
إن أهم مايزيد ويفاقم المشكلة التعليمية في المنطقة العربية..إضافة إلى الاعتماد على الحفظ والتلقين.. وإكتظاظ الفصول الدراسية..،إضافة إلى تدني أجور وكفاءة المدرّسين.. وأن نسَباً مرتفعةً من المدرّسين دخلت المهنة.. لكسب العيش.. مع إفتقارها إلى الإعداد الأكاديمي والتدريب ما قبل الخدمة، ولا تتلقّى التطوير المهني الملائم أثناء الخدمة. هو غياب الإرادة السياسية.. وإلإلتزام الحكومي.. لإقرار إصلاحات تعليمية جدّية.. خوفا من التحول المجتمعي إلى مواطنين مسؤولين يستطيعون بالوعي تعزيز هذا التحوّل الاجتماعي… وخوفا مما يترتب على هذا الوعي من التمرد السياسي على حكومات شمولية قائمة على تعيين برلمانييها من أفراد عوائلها.. و غضها النظر عما يرتكبه هؤلاء من أخطاء في سياساتهم وفي تخطيطهم والقائم في معظم الحالات على مدى العمولات التي سيتقاضوها !!! إن هذه السياسة الحكومية.. تتلاقى وتتوافق تماما مع المناهج التعليمية التي تخرّج رعايا مطيعين ومدجنين للتوافق مع آراء ورغبات الحاكم..ولكنه وفي ذات الوقت يقوم على خطاب ديني يتجاوز في أمور أخرى سياسات الدولة وقد يتعارض مع مصالحها..
وبرغم ان المسائل السياسية والاقتصادية أكثر إلحاحاً في الوقت الحالي.. وخلال الفترة الإنتقالية.. إلا أن وصول الأحزاب الإسلامية إلى السلطة كان بالتأكيد سيؤثر على المدى البعيد على السياسات التعليمية.. إما بإقصاء وحرمان المرأة من التعليم كما حدث حين تولت طالبان الحكم في افغانستان.. أو إلى إضفاء المزيد من الأهمية على القيم الإسلامية المحافظة على حساب المعتقدات الدينية الأخرى.. فمثلا وحين يتعرف الطالب المسلم والمسيحي على جوانب مضيئة وإيجابية من الإسلام.. من خلال آيات قرآنية وأحاديث لتعلم قيم إجتماعية راقية.. مثل الصدق والإحسان.. يواجه كلا الطالبين المسلم والمسيحي بآيات أخرى تخالف عقيدة غير المسلمين…. حين تتناقض العقيدة الإسلامية وحدة الخالق.. مع عقيدة الثالوث المقدس التي يؤمن بها المسيحي.. إضافة إلى أن طغيان الثقافة الإسلامية والتوجة الإسلامي يشجع على تقديس كل ما هو إسلامي.. وذم أو إنتقاد كل ماهو مخالف للشريعة الإسلامية.. كما في شرب الخمر.. وعدم ضرورة تحجّب الفتيات عند المسيحيين.. ويتوه كلا الطالبان.. وتضيع الجوانب الإيجابية….وتخلق حالة متجذرة لدى كلاهما من الإزدواجية.. ففي العلن يتوافقان وفي الخفية يتكرّه كل منهما للآخر.. مما يؤسس لحالة نفسية غير متصالحة مع ذاتها…
إن أهم ما يغيب عن البرامج والمناهج التعليمية في الدول العربية..إقتصار إعترافها على الأديان السماوية الثلاثة.. وعدم إعترافها بالأديان الأخرى الموجودة في العالم.. وبالتالي تكفير كل ما هو مختلف.. إضافة إلى عدم وجود أي تعريف أو أعتراف بالمذاهب الإسلامية الأخرى في الدول ذات الأغلبية سواء السنية أم الشيعية… أو إفساح المجال للبحث والنقاش المفتوح الحر.. وبالتالي لا تساهم المناهج التعليمية الحالية في تطوير التعارف والتفاهم بين الأديان.. ولا في تعزيز مفهوم التعددية وتقبل وإحترام المختلف في العقيدة.. لأنه يستند إستنادا مطلقا إلى “إن الدين عند الله الإسلام “… وهو ما يتعارض مع حرية الإعتقاد.. وفقه الولاء والبراء المستند إلى آية “” ولا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء من دون الله “” وكلها تتعارض مع قيم المساواة وإحترام الآخر.. وهما البنية التحتية الأساسية للديمقراطية.. ولا ننسى هنا فقه الذمي.. وفقه المرأة.. وكلاهما يرسّخ لعدم المساواة.. وتحقير الذمي والمرأة !!!!
وعليه وبرغم تاييد البعض لمبادرة التعليم الديني التي إقترحها بيت العائلة المصرية بقيادة الأزهر.. بإعتبارها خطوة في الإتجاه الصحيح.. لتأكيدها على التنوع والحريات.. إلا أنني أعتقد بأنها ستفتح بابا كبيرا للتأويل والتفسير الديني وستدخل المجتمعات العربية في متاهات متناقضة مع نفسها لفترات طويله جدا.. في مرحلة حرجة, الإنسان العربي فيها أحوج ما يكون إلى الخروج من هذه التأويلات.. ووضعه الداخلي والدولي لا يسمح له بالإنتظار..
وأؤمن إيمانا قاطعا. بان أسرع وأسهل طريق لتجذير الديمقراطية والخروج إلى عالم المعرفة العالمية خلال فترة زمنية معقولة.. هي في أمرين لا ثالث لهما..
الأول.. ثورة تعليمية تنادي بالتعليم الحر.. لتعميق الإحساس بالمسؤولية الوطنية ,, وترسيخ الشعور بالمواطنة والمساواة.. تستند إلى المواثيق العالمية لحقوق الإنسان بدلا من لي اعناق الآيات والأحاديث.. وهو الأمر الذي تنبّهت له السعودية مؤخرآ.. حيث جاء التقييم بشبه إجماع بين كتاب الصحف والمعلقين.. على أن مشكلة تأخر المستوى التعليمي.. تكمن في المناهج.. وكما جاء في مقالة لأحد الصحفيين السعوديين البارزين بأنها “” قضية قديمة تنقسم في اتجاهين، الأول الجدل حول تغوّل حصة الدين واللغة على حساب العلوم والرياضيات، والثاني حول محتوى التعليم الديني والإنسانيات، وتوظيفه لخدمة رؤى ضيقة وغير متسامحة، ولا تتفق مع كون المملكة بلداً منفتحاً على العالم،كبار العلماء الرسميين يقاومون بشراسة أي مساس بهذه المناهج”””. فهل يستطيع الوزير الجديد السيد خالد الفيصل أن يكون قدوة لبقية الدول العربية في هذا التحدي لتطوير المناهج ؟؟؟؟
والثاني.. تعديل النظام القضائي في المنطقة العربية كلها والمرتبط إرتباطا وثيقا بالتشريع الديني فيما يتعلق بحقوق المرأة وبحقوق معتنقي الأديان الأخرى.. لنظام قضائي واحد.. وليس أنظمة قضائيه مختلفه في بلد واحد.. كما في لبنان مثلا.. والذي يوجد به 19 نظام قضائي لوجود 19 طائفه كل منها تعمل بتشريعها الديني الخاص.. مما يؤسس لإنعدام العدالة.. وإنعدام المساواة في وطن واحد.. وتضييع سيادة الدولة.. والمواطنة.. نظام قضائي يربط مرجعيته مع الميثاق العالمي لحقوق الإنسان والمرأة لتجذير العدالة الإجتماعية التي هي أصل المساواة.. لإخراج المجتمعات العربية من حالة التخبط والتخلف والدفاع المستمر عن النفس.. بدلآ من ربطه بنصوص فقهيه متناثرة ومختلفه وأحيانا متناقضه إختلف العلماء في تفسيرها وتأويلها.. وإن صلحت في القرون الغابرة إلا أنه ثبت عدم صلاحيتها. ولا تمت للعصر الحاضر…
منظمة بصيرة للحقوق الإنسانية