نقترب من العشرين من الشهر الجاري، الوقت المحدد لانتهاء المفاوضات بين إيران والغرب حول برنامجها النووي دون أن تُزال العقبات، وفي وقت تعيش فيه المنطقة حالة لم يسبق لها مثيل من التوتر، وبروز ما يسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وتجدد العنف بين إسرائيل وحماس.
هذا الوضع ينعكس توترا كبيرا على القيادة الإيرانية، وخيبة أمل للشعب الإيراني، فالشعب كان ينتظر رفع المقاطعة والتحرر والانفتاح على العالم، أما القيادة فإنها تحصد ما زرعت، وتدفع ثمن الدور الكبير الذي لعبه قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري».
شعرت إيران أنها القوة العظمى في العراق وسوريا ولبنان وحتى اليمن والبحرين، وذهب سليماني بعيدا جدا في طموحاته وخططه فأيقظ العالم السنّي. منذ تسلمه قيادة «فيلق القدس» قبل 15 عاما وهو يخطط كيف يعيد رسم الشرق الأوسط لمصلحة إيران. عام 1979 أوجد آية الله الخميني نموذج «فيلق القدس» بهدف حماية إيران وتصدير الثورة الإسلامية، ومنذ ذلك الوقت عمل هذا الفيلق على التخلص من أعداء إيران، وتوسيع نفوذه في كل الشرق الأوسط.. عندما انتهت الحرب العراقية – الإيرانية بدأت إيران مشروعها في تمديد التأثير الشيعي عبر العراق وسوريا حتى المتوسط. عام 1982 في بدايات الحرب العراقية – الإيرانية، أمر الخميني رجاله بأن يستمروا في الانطلاق «ليحرروا» العراق والوصول إلى القدس.
عام 1990 قال المرشد الأعلى علي خامنئي في إحدى خطبه إن مهمة «فيلق القدس» إقامة خلايا محلية لـ«حزب الله» في كل العالم.
على عربة كل هذه الطموحات اندفع سليماني فأيقظ كل العالم بالنشاطات المجنونة. نسي أنهم أقلية في بحر من السنة. الآن العربة السنّية تحولت عليهم بكل قواها، لذلك من المؤكد أن إيران ستحتفظ بالنووي لسبب واحد وهو تثبيت نظامها. تشعر أن السلاح النووي ضروري ضد العالم السنّي الذي يتهددها، وضد العالم الغربي الذي لا تثق بأنه لا يريد الإطاحة بنظامها، وضد إسرائيل التي تهدد دائما بأنها ستقصف المفاعلات الإيرانية. لكن النووي الإيراني سيكون مثل النووي الإسرائيلي للردع وليس للاستعمال.
في مقال مطول عن سليماني نشرته مجلة «نيويوركر» في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي تحت عنوان «الظل» كتب دكستر فيلينس: «خلال حملته ضد الولايات المتحدة في العراق، تجاوز سليماني الخط الفاصل بين الشيعة والسنة (…) في بداية الحرب شجع سليماني رئيس الاستخبارات السورية على تسهيل تحرك وعبور المتطرفين السنة من سوريا لمقاتلة الأميركيين في العراق، وفي عدة حالات سمح بحرية تحرك تنظيم القاعدة في إيران أيضا». يروي على لسان ريان كروكر الذي عين سفيرا لدى العراق عام 2007، أنه في شهر مايو (أيار) 2003 وصلت الأميركيين معلومات أمنية عن أن مقاتلي «القاعدة» في إيران يستعدون للهجوم على أهداف غربية في المملكة العربية السعودية. يقول كروكر إنه أصيب بقلق «كانوا هناك، في ظل الحماية الإيرانية، يخططون لعمليات». يضيف أنه سافر إلى جنيف وبعث بإنذار إلى الإيرانيين، إنما من دون فائدة. استهدف مقاتلو «القاعدة» ثلاثة مجمعات سكنية في الرياض، وقتلوا 35 شخصا بينهم تسعة أميركيون.
ويواصل التقرير أن الاستراتيجية الإيرانية في تحريض المتطرفين السنة انقلبت ضدهم بشكل مريع، إذ بدأ هؤلاء بالهجوم على الشيعة المدنيين، والحكومة العراقية التي يسيطر عليها الشيعة. «كانت هذه معاينة للحرب الأهلية التي ستأتي». ونقلا عن دبلوماسي غربي في بغداد: «أراد سليماني أن يستنزف الأميركيين، فدعا الجهاديين، وخرجت الأمور من تحت السيطرة».
ويقول الجنرال جايمس ماتيس الذي كان حتى عام 2003 قائد كل القوات الأميركية في الشرق الأوسط: «من أجل أن ينقذ (الإمبراطورية الإيرانية) في سوريا ولبنان، ساهم سليماني بإشعال نار الصراع السنّي – الشيعي الذي يهدد الآن بإشعال المنطقة لسنين عديدة، وكان يبدو سعيدا وهو يشعل هذه الحرب. كان واثقا بأن إيران هي القوة الصاعدة في المنطقة».
وصلت العنجهية بسليماني إلى أنه بعث عام 2008 برسالة هاتفية إلى الجنرال ديفيد بترايوس عبر هاتف مسؤول عراقي رفيع. قال فيها: «عزيزي الجنرال بترايوس، عليك أن تعرف أنني، أنا قاسم سليماني، أتحكم في السياسة الإيرانية في كل من العراق، ولبنان، وغزة وأفغانستان. تأكد أن السفير الإيراني في بغداد هو جندي في (فيلق القدس) وسيكون كذلك من سيأتي بعده».
ويتذكر كروكر أن نوري المالكي قال له يوما: «لا تعرف الغطرسة إلا عندما تكون عربيا عراقيا لاجئا عند الإيرانيين».
الآن، انهزم الجيش العراقي أمام هجمات «داعش» والسنة. حاول عدة مرات استعادة تكريت. قد يحدث هذا في بغداد، الأمر الذي يستدعي تدخل إيران علنا. كل هذا يثبت عجز سليماني.. أول صدمة فاجأته يوم وجد أمامه أشخاصا مستعدين للموت مثله أو أكثر. والخطأ الأكبر ارتكبه خامنئي باعتماده سياسة تصعيدية. كان يعتقد أنه قادر على إسكات الجميع. استخفت إيران بالعالم السنّي خصوصا في العراق، فإذا بهذا العالم يثور. ثم إن إيران مخترقة بالسنة. هناك الأهواز، وهناك أكرادها الذين سيتبعون أكراد العراق. وهناك أقليات أخرى، ورداء القوة لن يحمي طويلا، لهذا هي في المحادثات مع الغرب لن تتخلى عن النووي، لأن التخلي سيسبب لها المآسي.
تشعر إيران بأن السنة استرجعوا جرأتهم، فها هو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يتخذ قرارا بإلغاء الدعم. تجرأ على عمل لم يقدم عليه أي رئيس مصري قبله. إنها دعوة إلى المصريين للبدء في العمل، وهذا يعني ثقة بالدعم الذي يتلقاه، ويعني أيضا بروز قوة سنّية فاعلة.
بدأت إيران تدرك أن الأرقام تتكلم وهي لا تمثل العشرة في المائة من الشيعة، إنها أقل، ولكن هذا ما يثير قلق كل الشعوب الإيرانية لجهة الاستمرار في معاداة كل العالم. هناك 57 في المائة من الإيرانيين صوتوا لحسن روحاني، أي أن أكثر من نصف السكان صوتوا لعقلية أخرى، للسلام مع العالم، فهذا العالم لديه القوة الإيجابية التي يتطلعون إليها.
بعد الصدمة التي وقعت في العراق (نوري المالكي سمح لإيران بأن تعوم اقتصاديا رغم المقاطعة، من خلال المصارف العراقية، والتحويل يوميا عائدات 200 ألف برميل نفط عراقي إلى الخزينة الإيرانية)، فإن الجناح الآيديولوجي مضطر إلى أن يبدأ هجومه، النيران الإقليمية تقترب من إيران. يتوقع هذا الجناح ثورة الإصلاحيين. يوم الأربعاء الماضي شن هاشمي رفسنجاني هجوما على خامنئي مطالبا إياه بتطبيق التزاماته؛ «فالانتخابات هي حق الناس، وعليك أن تحترم وعودك ونتائجها». لكن خامنئي و«الحرس الثوري» يستعدون لاتهام الجناح الإصلاحي بكل المآسي، وهؤلاء سيردون بأن الهزائم جاءت من الآيديولوجيين. رفسنجاني يعرف أنها معركة، والكل سيغرق فيها. يرى الخطر أمامه ماثلا، يسرّعون في الهجوم على بعضهم البعض، فهم غير متحدين في وجه العاصفة، وعندما تنفجر لن تكون أميركا جاهزة للمساعدة رغم أنها وقفت مع إيران في سياستها تجاه العراق، فالأميركيون هم الأشطر في التخلي عن حلفائهم عندما يفقدون الأرضية من تحتهم.
تستمر إيران في لعن التكفيريين، لكن سليماني هو من أوصل التكفيريين إلى هذه القوة، بعدما كانوا لاذوا بالفرار. صحيح أن ما برز في العراق، إن لم يتم استيعابه، سيشكل خطرا على العالم، لكن لـ«داعش» أولويات أبرزها العراق ثم المناطق النفطية، وبعدها تتحول من الشيعة إلى السنة. إيران تستعد لمواجهة «داعش» في بغداد، هذا قرار استراتيجي، لن تتركها تأخذ كل العراق، وبعد ذلك تقدم على تحريض الشعوب الإيرانية. إيران ستحاول التصدي لها. طائرات الأسلحة تصل يوميا. الغرب دق ويدق ناقوس الخطر، لكنه لن يتدخل، بالنسبة إليه فليواجه السنة والشيعة بعضهم البعض، وعندما يتعبون يواجه هو المنتصر.
في هذه الأثناء ستستمر إيران في المحافظة على برنامجها النووي، إنه أفضل رادع لها. الأسبوع الماضي قال خامنئي إنه يريد 190 ألف طرد مركزي، قد يكون الرقم 190 ألفا زلة لسان، إنما هذا نابع من إدراكه أن المفاوضات لن تنجح، وأن المقاطعة ستسمر، وإيران في فوضى كبيرة.
إذا صنعت إيران القنبلة النووية، فسيزداد شعورها بالقوة رغم كل ما يجري. لكن هذا بالتأكيد سيفتح باب الانتشار النووي حتى لو احتج الغرب، فالقنابل النووية بضاعة موجودة، وكل ما تتطلبه هو تحويل المال.
من الشعارات السياسية البريطانية: لا شيء ينجح مثل النجاح، ولا شيء يفشل مثل الفشل. وهذا ما عرفه سليماني بالتأكيد.
نقلا عن الشرق الاوسط