كانت الأنباء الواردة بشأن إحراق مكتبة السائح الكائنة في مدينة طرابلس اللبنانية من الأمور الصادمة والمثيرة للاشمئزاز. وفي الواقع، إن تلك المكتبة كانت مكتبة لقراءة الكتب وبيعها ومركزا ثقافيا أيضا، مما جعلني أتساءل بشأن كيفية وجوب تحليل هذه الجريمة الثقافية؟ ومن هو المدبر لهذا الحادث؟ وما المبرر لذلك؟ وفي الحقيقة، تعد المكتبات بمثابة بطاقات الهوية للمدن الموجودة في بلادنا. وفي الوقت الراهن، هناك القليل من النقاط الجديرة بالتأمل.
أولا، ليس خافيا بالنسبة لنا كمسلمين ومسيحيين وهندوس والطوائف الأخرى في منطقة الشرق، وعلى وجه الخصوص منطقة الشرق الأوسط، أن هناك عدم اكتراث من جانبنا وغياب الاهتمام الكافي بتراثنا الثقافي.
ثانيا، فمثلما هي الحال في رسم الكاريكاتير الساخر، الذي يظهر صورة لأي شخص ذي رأس يشبه حبة البازلاء وبطن منفوخ مثل كرة كبيرة، باتت السياسة تشغل كل شيء في مجتمعاتنا. والأدهى من ذلك، أنه عقب إضرام النيران في مكتبة السائح وتدميرها، ظهرت الكثير من التصريحات السياسية من قبل جميع الأطراف والحكومات ورجال الدين والسياسيين، وهلم جرا.
والجدير بالذكر، أن الأب إبراهيم سروج، مالك مكتبة السائح، أكد بشكل صريح وواضح – في إحدى المقابلات التي أجريت مع قناة «إم تي في» (MTV) في شهر أكتوبر (تشرين الأول) لعام 2012 – قلقه الشديد قائلا إن مكتبة السائح على وشك الاندثار. وكان عنوان تقرير «إم تي في» هو: «مكتبة السائح الأثرية في طرابلس إلى زوال».
ولم يول أي شخص اهتماما بخصوص هذا التقرير والوضع الخطير الذي تواجهه مكتبة السائح. ووفقا لما يظهر بجلاء، فعندما يعلو صوت الرصاص، يصبح نور الثقافة خافتا وضعيفا للغاية.
وفي المقابل، نجد في مدينة أكسفورد بالمملكة المتحدة مكتبة تاريخية لاستعارة الكتب وبيعها تسمى مكتبة «بلاكويل». وقد تأسست هذه المكتبة، الواقعة في شارع برود، في عام 1869. وتعتبر هذه المكتبة شاملة وضخمة للغاية، حيث يكون الإخفاق في الحصول على كتاب بالنسبة لأي باحث أو طالب أمرا مستحيلا! وتعد هذه المكتبة من إحدى الأماكن التي تميز أكسفورد كمدينة ساحرة ورائعة! وفي مدينة أكسفورد يمكن أن يجد الشخص كنيسة وكلية وحانة جرى تشييدها جميعا منذ أربعة أو خمسة قرون. وتشكل هذه الأماكن جميعا هوية أكسفورد. وعلى الرغم من تاريخنا الذي يمتد لآلاف السنوات من الثقافة والحضارة والتمدن، فإننا مع ذلك ندمر هويتنا ونتجاهل تراثنا. وفي هذا السياق، عندما دمرت منارة أحد المساجد في حلب في إحدى العمليات العسكرية، كتبت هنا في جريدة «الشرق الأوسط»، إن هذه المنارة التي لا تقدر بثمن كانت قيمة أكثر من نظام الأسد.
ثالثا، تتمتع مدينة طرابلس اللبنانية بهوية مسيحية – مسلمة. وأطلق سكان مدينة طرابلس، الذين لديهم روح دعابة قوية، لقب «المسلم – الكاثوليكي» على الأب إبراهيم سروج! وعندما تتحدث مع الأب سروج، يراودك إحساس يجعلك تنسى أنك مسلم وأنه مسيحي، بسبب تجاوز حدود التعريف القياسي للأديان والسمو إلى ما هو أبعد من ذلك. وفي الواقع، أننا نعتقد أن جوهر جميع الأديان واحد. والجدير بالذكر، أن مكتبة السائح، الواقعة في شارع محمود مغربي بمدينة طرابلس، كانت تشتمل على الكتب الإسلامية والمسيحية، والتي جرى وضعها بجوار بعضها البعض.
رابعا، أعتقد أننا بحاجة إلى تأسيس بعض المنظمات غير الحكومية في مدننا لتنظيم بعض الحملات الرامية إلى حماية تراثنا الثقافي. ومن حسن الحظ أننا رأينا الشباب الرائع بمدينة طرابلس وهم يتجمعون في مكتبة السائح في محاولة لحماية الكتب المتبقية. وبعد رؤية هؤلاء الشباب، قال الأب سروج إننا سنعيد بناء تلك المكتبة لتعود أفضل من ذي قبل، حيث ظهر الأمل في كلماته وعينيه.
خامسا، هناك مثل سائر ومشهير غالبا ما أسمعه من أصدقائي اللبنانيين وهو «رب ضارة نافعة!».
وفي حال وضع هذا الحادث المرير في الاعتبار، يمكن ابتكار برنامج لحماية جميع أماكن التراث الثقافي اللبناني. وأعتقد أن هذا التراث الثقافي يؤول وينتمي إلى الدولة والشعب معا، بينما تلعب الحكومات دور الضيف. إن الحكومة ليست هي المالكة للبلاد، ومن ثم فإنها تفضل التضحية بكل شيء بهدف الاحتفاظ بالسلطة والبقاء في مناصبها غير المستقرة. ومع ذلك، فللأسف أن الحكومات لا تنظر غالبا إلى آفاق أبعد، بل تظل حبيسة اللحظة الراهنة. تعتبر فترة الحياة السياسية وجيزة، بيد أن الثقافة هي جوهر الوجود، ولذلك فإنها تظل موجودة لفترة أطول. ويعتبر ذلك الأمر درسا رائعا نتعلمه من التاريخ.
سادسا، يقال إن هناك مبررين وراء إضرام النيران في مكتبة السائح وتدميرها. ويتمثل السبب الأول في ادعاء جماعة غير معروفة بأن الأب سروج، كانت له علاقة بإصدار أحد البيانات المسيئة للرسول، صلى الله عليه وسلم. ومن الواضح بجلاء أن هذا الادعاء خاطئ، لأن الجميع يعرف أن سروج يتفهم أن الأب هو القلب المليء بالحب للأنبياء والرسل كافة. ويمكنني القول إن الأب سروج يعرف ويدرك القيم الروحانية والجمالية للقرآن الكريم أكثر من بعض رجال الدين المسلمين! وبما أن لغته الأم هي اللغة العربية، فإن سروج يدرك مدى روعة وحسن ترتيب الآيات القرآنية. ويقال أيضا إن السبب وراء حادث مكتبة السائح قد يكون تجاريا، حيث أراد مالك المبنى أن يبيعه لتحقيق الربح، ولذا كان من الضروري التخلص من المكتبة! وبناء على ذلك، دبر المنفذون هذا الحادث السيئ بهدف تنفيذ رغباتهم والوصول إلى هذا الوضع الجديد. ويعتبر ذلك الأمر من القواعد القذرة في العالم التجاري.
ليس لدي أدنى فكرة إذا ما كانت تلك الشائعات حقيقة أم لا، ولكن ما أعرفه جيدا هو إمكانية قيام بلدية وعمدة طرابلس، بلعب دور رئيس لتسجيل وحماية جميع المباني الثقافية والتاريخية. وعلاوة على ذلك، يقع على عاتق بلدية وعمدة طرابلس مسؤولية حماية هذه المباني وبقاؤها نابضة بالحياة والحيوية والتأكد من عدم تحويلها إلى مقابر! يجب إعادة بناء وعمل الديكورات للمبنى العثماني الذي تقع فيه مكتبة السائح. أثناء وجودي في بيروت، زرت بعض المباني الثقافية الجميلة والرائعة التي أعاد تزيينها الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الراحل. تعد طرابلس هي ثاني أهم المدن في لبنان، وكانت مكتبة السائح هي العين الذي يمكنك من خلالها رؤية هذه المدينة. وتحتاج هذه العين الجميلة إلى من يهتم بها ويرعاها وليس من يتخلص منها!
منقول عن الشرق الاوسط