فى منتصف ستينيات القرن الماضي، قابلت الكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوار، حين جاءت للقاهرة بدعوة من «جريدة الأهرام» مع الكاتب الفرنسى جان بول سارتر، كتبت مقالا بعد اللقاء نشر بمجلة روز اليوسف بعنوان «ساعة من الصمت مع صانعة الكلمات» عبرت فيه عن خيبة أملى فيها، بدت سيمون دو بوفوار فى حقيقتها أكثر تبعية لسارتر عنها فى كتاباتها، لا شك أن كتابها «الجنس الآخر» من أهم الكتب التحريرية للمرأة فى القرن العشرين، ولها أعمالها الأدبية المهمة، وهناك حملة عدائية (غير موضوعية) لبعض النسويات الفرنسيات ضد سيمون دو بوفوار ، بالطبع تتدخل عوامل كثيرة فى النقد لا علاقة لها بالأدب .
كان يمكن لسيمون دو بوفوار، فى رأيي، أن تكون فيلسوفة أكثر أهمية من «جان بول سارتر »، لكنها تنازلت عن فلسفتها من أجله، وأصبحت تؤمن به وبفلسفته الوجودية الاشتراكية الليبرالية، تغلب سارتر عليها فكريا وعاطفيا، عاشت تذرف عليه دموع الحب الأحادي، وعاش هو متعدد العلاقات، يتنقل كما يشاء بين النساء، معلنا أنه لم يذرف دمعة واحدة على أى امرأة. التناقض واضح فى حياة سارتر وسيمون وكتاباتهما، كان سارتر يكتب عن تحرير الشعب الجزائرى من الاستعمار الفرنسى وتحرير الرجل الأسود من الرجل الأبيض، لكنه كان يستغل النساء ويمارس القهر عليهن، وكانت سيمون دو بوفوار تكتب عن تحرير النساء من القهر السياسى الاقتصادى والجنسي، إلا أنها عاشت مهانة الخضوع والتبعية للرجل.
يلعب الإبداع الأصيل دورا فى إلغاء الفاصل بين الخاص والعام، تعيش المبدعة (أو المبدع) ما تكتب وتكتب ما تعيش، وهذا أمر شاق لا يتحقق إلا نادرا، بسبب الظروف والقيم التى يعيشها الكاتب أو الكاتبة منذ الطفولة. فى طفولتها عاشت سيمون دو بوفوار تحت سيطرة أمها الكاثوليكية المتزمتة، كرهت سلطتها ورقابتها عليها، فأصبحت تلجأ لأبيها وكان يمنحها حرية أكثر، كرهت أمها واعتبرتها رمزا للشر، أحبت أباها ورفعته للمثل الإلهى الأعلي، وجاء «سارتر» حبيبها ليحتل مكان الأب المقدس، وأصبح شبح «الأم» الشريرة كامنا فى اللاوعي، يتبدى لها مخيفا فى الظلام، خارج الزمان والمكان كالشيطان .
أصبح الرجل والفكر الأبوى هو الجسر الذى تسيرعليه الكاتبة سيمون دو بوفوار لتدخل العالم الذكورى وتحقق ذاتها فيه، وقد فعلت ذلك بنجاح كبير، وأصبحت كاتبة مشهورة مرموقة عالميا، إلا أنها عاشت حياتها تجتر الحزن والاكتئاب، تشعر بألم الفقدان، فقدان ذاتها أكثر من فقدان الرجل، تذرف دموع البعد عن نفسها الحقيقية، أكثر من البعد عن سارتر كما توهمت. تقع فى هذا المأزق أغلب النساء المبدعات فى العالم، تتربى البنت لتكون عدوة لأمها، حبيبة أبيها، يجبرها التاريخ والعلم والفن والدين والقيم والثقافة الأبوية على رفع الرجل للسماء، والهبوط بالمرأة تحت الأرض، تصبح كارهة لنفسها ولأمها وكل بنات جنسها، تتغذى بأفكار الطب النفسى الحديث بزعامة سيجموند فرويد، الذى يمجد الأب بحكم موروثه الأبوي، ويصور الأم كالوحش, وأصبحت الأم قاتلة للأب فى اللاوعى الطفولي، وانقسمت شخصية الأم الى جزءين، الجزء الإلهى الطيب الحنون، والجزء الآخر الشيطاني، خلعت البنت على أبيها الجزء الحنون الإلهي، وأصبحت أمها هى عدوتها، تنافس البنت أمها لتكسب حب الأب، ويساعد الأب على اتساع الفرقة بين الأم والابنة ليحظى بالسلطة عليهما (فرق تسد)، وبقيت سيمون دو بوفوار وكثيرات من النساء، حبيسات هذا اللاوعى المنفصم ، تتجمد الشخصية الأنثوية عند مرحلة تأليه الرجل وشيطنة المرأة، ويمكن للإبداع الأصيل المتمرد على القيم المزدوجة، أن يغير اللاوعى الأنثوى والذكوري، لينتج الوعى الإنسانى الأعلي، لكن هذا يقتضى نظما سياسية جديدة وعلاقات اقتصادية واجتماعية وأخلاقية عادلة، تقوم على المساواة والحرية، وتعليم وتربية منذ الطفولة أرقى إنسانيا، تساوى بين الأمهات والآباء، وبين الرجال والنساء، وبين الجماعات والأفراد فى الدول والشعوب والطبقات، يصبح التبادل المتساوى فكريا وماديا هو الأساس، فلا يحدث الانقسام فى الإنسان أو المجتمع، وهذا أمر نادر، لأننا نعيش فى عالم رأسمالى أبوى عنصرى عسكرى ديني، قائم على القوة والظلم والحرب والعدوان والاستبداد، مع الخداع، وكثرة الكلام عن الديمقراطية والعدل والسلام والحب.