عبد القادر أنيس
أواصل في هذه المقالة قراءة كتاب محمد الغزالي (حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة).
تتناول هذه الحلقة العاشرة موقف الفكر الإسلامي من المرأة كما عبر عنه الغزالي في هذا الكتاب.
سبق أن تناولت الموضوع في مقالة سابقة:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=205932
هذه المقالة هي تتمة لها وهي تنطلق من زعم الغزالي بأن الرجل أكثر ابتكارا من المرأة (ص 91) حتى يبني عليه حججه حول دونية المرأة وأحقية الرجل في الولاية والقوامة والسيطرة. وطبعا يبدو أن الغزالي غير مقتنع بالمواقف التي استقاها من الموروث الديني الإسلامي من المرأة بوصفها “مخلوقا” ناقصا عقلا ودينا وهي ناقصة أهلية وما ينجر عنه من حجر على شخصها وخضوعها الأبدي للرجل، فها هو يلجأ إلى فكر (الكفار) بحثا عما يدعم رأيه، والحق ما نطقت به الأعداء كما قال الشاعر العربي، والأغرب أن يعتمد الشيخ على بحث قدمته امرأة وهي عالمة النفس الأمريكية إليانور ماكوبي Maccoby.
نقل الغزالي عنها: “وفي الجزء الأول من بحثها درست الإحصاءات وسجلت الاختلافات العقلية بين الجنسين خلال الأربعين سنة الأخيرة (الغزالي لم يشر إلى تاريخ نشر هذا البحث)- وهي الفترة التي فتحت فيها أبواب التعليم العالي والدراسات الجامعية للنساء”.
“ودلتها دراستها على أن الرجال أكثر إنتاجا وابتكارا من النساء حتى في المجالات الأدبية… وعندما انتقلت إلى ميدان الدراسات العلمية والبحوث زادت الفجوة بين الجنسين أي برز تخلف المرأة”.
“وقالت: “إن عددا قليلا من النساء الجامعيات يندمجن في المشكلات العلمية ويحاولن ابتكار نظريات جديدة وذلك بعد أن درست حالات أربعمائة من الجنسين ممن حصلوا على درجة الدكتوراه”.
“وقالت: “إن نحو نصف النساء من هذه الفئة لم يسجلن بحوثا جديدة ولم تكن عقبتهن الزواج أو ولادة الأطفال لأن الإنتاج لمن تزوجن تساوى مع من بقين بغير زواج”.
وأخيرا ينقل الغزالي عنها: “إن الفتيات يختلفن عن الأولاد في طريقة صقل تفكيرهن ليصرن أكثر ميلا إلى النظرة العامة الشاملة والوقائية، وأقل ميلا إلى الناحية التحليلية… وقد يفيدهن هذا التفكير في حياتهن ولكنه لا يؤدي إلى مستوى ذكاء مرتفع وابتكاري وهو الاتجاه الضروري للعلوم وبحوثها، ولهذا فإن قلة من النساء يحصلن على التفكير التحليلي”.
بعد أن أورد الغزالي هذه الاستشهادات يخرج علينا بسؤال المنتصر لموقفه الإسلامي الذكوري حول دونية المرأة بسبب تخلف عقلها: “ماذا يقول مدعو التسوية المطلقة بين الذكور والإناث في كل شيء أمام هذه المقررات العلمية التي تعرضها امرأة باحثة؟”
قبل أن نواصل، بودي أن أبدي هنا عدة ملاحظات حول مدى بؤس التفكير الإسلامي ممثلا في شيخنا الغزالي:
ففي الوقت الذي يعتمد فيه هذا (المفكر الإسلامي) على أبحاث امرأة باحثة لينتصر لنظريته حول التفوق الذكوري، نلاحظ أنه لا يجد حرجا في كون هذه النتائج قدمتها امرأة مشكوك في عقلها في الفكر الإسلامي حتى جعل شهادتها نصف شهادة الرجل.
ثم، لنفرض أن هذا التفوق الذكوري واقعا طبيعيا فهل يبرر ذلك التمييز العنصري الإسلامي ضد المرأة من حيث الحجر والحجب وتعدد الزوجات والسبي وانتهاك أعراض السبايا والتطليق الذي هو بيد الرجل بمجرد التلفظ بكلمة، أما المرأة فقد تقضي سنوات من أجل التحرر من رجل لا تحبه، وغير ذلك من القوانين التمييزية المعمول بها في مجتمعاتنا المعاصرة ذات المصدر التشريعي الإسلامي.
لكن الغزالي يقع في الحفرة التي حفرها لغيره، وانطبق عليه ما كان قبل أسطر قد اتهم به غيره عندما توقف عند: “ولا تقربوا الصلاة..”
الدكتورة ماكوبي كانت باحثة علمية اعتد الشيخ برأيها عندما قدمت بكل أمانة نتائجها العلمية حول واقع التفوق الذكوري الذي وافق هوى الشيخ وعنصرية دينه، لكن رأيها لم يعد علميا عندما: “أرجعت السبب إلى طبيعة التربية التي تكتنف حياة الفتاة”.
ولهذا انطلق الشيخ في منازلة طويلة ظاهرها علمي أريد به باطل. قال الشيخ: “إنها تزعم أن إشعار الأنثى بأنها أنثى وتهيئتها لتكون في وصاية الآخرين وتوجيهها إلى استرضاء الجنس الآخر وكسب إعجابه هو السبب في أن النساء لا يتساوين مع الرجال كما وكيفا في الريادات والقيادات العقلية والفنية الدقيقة”.
ثم يقول: “وتمضي الدكتورة في خطئها فتقول: “إن النساء في هذا التخلف يشبهن الأطفال المدللين، أي أن الذكور الذين يتعرضون لذات الظروف التربوية التي تتعرض لها المرأة يشبون أدنى إلى النساء”.
المخطئ الأكبر هنا هو الشيخ الغزالي لأنه رهين دين مغلق تجاه الأفكار الأخرى بسبب مطلقيته وتقديسه لموروث بشري متكلس منذ قرون، ولأنه لا يعير انتباها إلى ما حققته البحوث الاجتماعية والنفسانية الحديثة في التربية والسلوك الاجتماعي حققت نتائج باهرة في كل مكان طبقت فيه بحرص ونزاهة ومن أجل مصلحة الأمة وتقدمها ورخائها لا غير. فعندما يوضع إنسان من المهد إلى اللحد أمام ظروف قامعة قاهرة تعمل بشتى السبل على إقناعه بأنه كائن ناقص الأهلية وفي حاجة إلى وصاية أبدية، فماذا نتوقع من سلوكه؟ هذه المؤامرة على المرأة يشارك فيها الجميع عندنا، النساء والرجال، الآباء والأمهات، المسجد والمدرسة وكل وسائل التأثير التقليدية والحديثة، ويتم كل هذا باسم كائن متعال لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. هل نتوقع من هكذا تربية غير تخريج إنسان مستلب الشخصية والعقل؟
من الصعب في مثل هذه الظروف أن يتمكن هذا الشخص مهما أوتي من قوة الخروج بمفرده من هذه الشرنقة، سواء كان رجلا أم امرأة.
وأنا لا أستطيع التخيل كيف يكون رد الشيخ الغزالي لو أننا في عالمنا العربي مثلا أجرينا مقارنة بين المرأة الغربية الجامعية من حيث العطاء والإنتاج والابتكار وبين الرجل الجامعي العربي. كيف يفسر لنا حقيقة كون الجامعيات الغربيات أفضل بمسافات بعيدة من حيث الكفاءة من أداء الجامعي العربي كما وكيفا؟ وبوسعنا، دون مخافة الوقوع في الخطأ، أن نعمم الحكم نفسه على المعلمة والمهندسة والطبيبة والممرضة وحتى ربة البيت من حيث الأداء والكفاءة والنزاهة. لا بد أنه سيجد نفسه أمام حرج كبير للإجابة. هل يلجأ إلى الظروف المحيطة بالجامعي العربي الذي تحتل جامعاته ذيل الترتيب العالمي بين جامعات العالم؟ وهنا سيتناقض مع رأيه حول التفوق العنصري. أم أنه سوف يحكم على العربي، مثلما حكم على المرأة بالتخلف العقلي؟
هل خضع الذكر مثلما خضعت المرأة للتشكيك في عقلها وذكائها وأهليتها خلال قرون وقرون من التوحش البشري والصراع من أجل البقاء والبقاء للأقوى وليس للأعقل؟ كل هذا كان يتم باسم الله وباسم المقدسات بالتحالف مع سلطان القوة الإرهابية. كانت فترات الضعف التي تمر بها المرأة خلال الحمل والنفاس والعناية بالصغار فرصا يستغلها الرجل المتوحش لإخضاعها وعلى مر القرون أضاف المجتمع الذكوري لقوة البطش قوة الترهيب الديني حتى يتضافر وازع القرآن مع وازع السلطان كما يقول فقهاء الإسلام، ومازال بعض البشر المتوحشين يبررون دونية المرأة بسبب هذا الضعف البدني، لكن الغزالي يحاول أن يضفي على هذه الهيمنة طابعا علميا بعد أن بدأ الناس اليوم يشككون في الحجج الدينية التي أنتجتها مجتمعات البداوة والعبودية والإقطاع.
الغزالي لا يوافق على رأي الدكتورة ماكوبي عندما تقول بعد تجارب ومعاينة طويلة: “أما سبب هذا الاختلاف في رجحان الرجل على المرأة فيرجع إلى التربية التي يظهر أثرها على الجنسين”.
ولا يوافقها عندما تقول: “فالأولاد المدللون الذين يحرص الآباء على حمايتهم ينشئون في العادة كالبنات ويكونون بارعين في الأعمال اللغوية الأدبية وضعافا في الحساب. أما الأطفال الذين منحهم آباؤهم حرية التصرف والاعتماد على النفس فقد امتازوا في الغالب بعقليات تحليلية وابتكارية وشخصيات استقلالية “.
ولا عندما تقول: “إن مفتاح هذه الاتجاهات العقلية يظهر في عمليات التربية الأولي، كيف تسمح للطفل وتشجعه على الابتكار وتحمُّل المسؤولية ولا تتيح له فرصة الاعتماد على سواه فيما يبذل من جهد”.
وأخيرا يعارضها عندما تقول: “ففي هذا النشاط الحر تتألف الشخصية الابتكارية المستقلة القليلة التأثر بما يدور حولها، ويظهر هذا في الفتيات ذوات التفكير التحليلي، فهن قلما يكترثن لما حولهن ولكنا نعتبرهن تبعا لمقاييسنا الاجتماعية فقدن صفة الأنوثة”.
ويعارضها آخرا عندما تقول: “وبحكم التقاليد الاجتماعية أيضا يخف الضغط والتجريح للأولاد فينفتح أمامهم باب التحرر العقلي، بل حتى عدم الاهتمام بالآخرين وهذا التحرر هو الطريق إلى العقلية العلمية الابتكارية”.
أمام هذه الحجج الدامغة لا يجد شيخنا سوى القول: “وهكذا تعتذر السيدة عن تخلف النساء”.
هكذا بجرة قلم يحكم الشيخ القروسطي على عالمة قضت حياتها في الدراسة والبحث واستحقت كلمة دكتورة في علم النفس وليس في نواقض الوضوء والاجترار الممل لمئات الآيات والأحاديث التي عفى عليها الزمن (للعلم تخصص الغزالي كان في الدعوة والإرشاد من الأزهر).
ثم يستعرض دكتورنا الغزالي آراء دكاترة حقيقيين آخرين يؤيدون ما ذهبت إليه الدكتورة ماكوبي، ويرد عليهم مرة أخرى بجرة قلم: “إن التربية قد تقوي نماء الشجرة وتهذب امتدادها طولا وعرضا وتظهر ثمارها كما وكيفا ولكنها لن تغير طبيعته أبدا..”
فإلى أية طبيعة تنتمي الشجرة العربية الإسلامية يا شيخ؟ وهي التي ظلت على حالها منذ قرون بلا نماء ولا تهذيب ولا امتداد ولا طول ولا عرض ولا ثمار؟ أما الشجرة الأمريكية فقد بلغت بفضل أبحاث هؤلاء العلماء مرتبة تصدرت بها بلدان العالم قاطبة.
القول الفصل عند الغزالي هو: “أن تشغل المرأة الوظيفة العتيدة المهيأة لها، وظيفة ربة البيت.. وأن يشغل الرجل الوظائف الحيوية في كل ناحية من نواحي الحياة الشاقة ولا يجوز أن تشغل المرأة إحدى الوظائف مع وجود شاب عاطل كفء لها.”
ويقول: “أريد أن أقول في جلاء: إن استخراج المرأة من البيت ليس سدادا لثغرات في ميدان الزراعة والصناعة والتجارة ودعك من ظروف الحرب…”
فهل تم استخراج المرأة من البيت فعلا، أم هي حركة التطور التي تمت رغم أنف الفكر الظلامي الأصولي والتي دفعت بالمجتمعات العربية لمحاكاة الغرب في تعليم الفتاة وخروجها للعمل رغم ما أصاب هذه الحركة من تشوهات بسبب ضغوط الفكر الديني؟ ثم هل شيخنا صادق وهو يقول: “أن تشغل المرأة الوظيفة العتيدة المهيأة لها، وظيفة ربة البيت”؟ أليس كلامه من قبيل الاستغفال والاحتيال؟ هل الحجر على المرأة في البيت يمكن وصفه بالعتيد، ويمكن وصفها هي بربة البيت؟
ثم يقول على لسان (دكتور) عربي آخر هو محمد أبو زهرة: “أما تمكين المرأة من العمل فقد قررنا أن الشريعة لا تعارضه ولكن على أساس أن عمل المرأة في الحياة هو أن تكون ربة الأسرة، فهي تظلها بعطفها وحنانها، ترأم أولادها وتغذيهم بأعلى الأحاسيس الاجتماعية وهي التي تربي فيهم روح الائتلاف مع المجتمع حتى يخرجوا إليه وهم يألفون ويؤلفون”.
وشخصيا لا أطيق مواصلة هذا الهراء المقرف لولا شعوري بواجب التصدي له نظرا للدمار الذي يحدثه في مجتمعاتنا. والمضحك في الأمر أنني عندما كتبت اسم إليانور ماكوبي في محرك البحث جوجل وجدت الكثير من المواقع الإسلامية قد نقلت نفس ما نقله الغزالي عن الباحثة ماكوبي حول تخلف المرأة، وأكثر المواقع امتنعت عن التطرق للأسباب التي تعرضت لها العالمة.
يقول الغزالي: أفضل وظيفة للمرأة هي وظيفة ربة البيت، وأنا شخصيا لست ضد هذا إذا كان نتيجة اختيار حر للمرأة بالتراضي مع زوجها وليس نتيجة غبن أو نتيجة التضحية بحقها في العمل لصالح الرجل كما طالب الغزالي. هذا أولا، أما ثانيا، فأسأله: ماذا كانت تفعل المرأة المسلمة طوال قرون غير القيام بهذه الوظيفة الجحود؟ فهل جنت مجتمعاتنا من هذا الحبس المفروض غير الانحطاط والجمود؟ أليس فاقد الشيء لا يعطيه كما يقول المثل؟ فكيف يطلب منها المساهمة في تخريج أجيال من الرجال الأذكياء الأحرار المبتكرين بينما يعمل المجتمع المستحيل لمنع ذكائها وحريتها وابتكارها من التفتح والازدهار؟ وهل تربية الطفل لا تحتاج إلى ثقافة وخبرة بالحياة وهي خصال كلها لا تكتسبها المرأة وهي قعيدة بيتها؟
أما أسخف ما في هذا الكلام فهو القول: “أما تمكين المرأة من العمل فقد قررنا أن الشريعة لا تعارضه ولكن على أساس أن عمل المرأة في الحياة هو أن تكون ربة الأسرة”. هكذا ربة الأسرة !! فيا له من احتيال وخداع !! هل عندنا مجتمع إسلامي واحد اعترف للمرأة بهذا العمل ومنحها عليه أجرا ومعاشا تجده المرأة عندما تحتاجه أو عندما يطلقها زوجها وربها الحقيقي بكلمة واحدة بشريعة الإسلام: أنت طالق، طالق، طالق؟