خالد القشطيني
كنتُ في مقالتي السابقة قد أتيت على نموذج من أوائل ما حققه سكان سومر في جنوب العراق، قبل ألوف السنين. تتنافس سومر تاريخيًا مع مصر الفرعونية في التسابق حول أوائل المنجزات. وفي البرنامج التلفزيوني الذي أعده الباحث البريطاني كروشانك عن مصر القديمة يعرج في طريقه على بعض نواحي الحياة اليومية لبسطاء الناس. لا يحصر بحثه فيما فعله الملوك وعظماء التاريخ من الفتوحات وجلائل الأعمال، وإنما يتطرق لمناحي حياة الشعب وأفكارهم ومعاناتهم، وهو عمل يلفت النظر ويستحق الشكر والإعجاب في رأيي.
راح ينقِّب فيما شاهده في دير المدينة، فيما يُعرف بوادي الملوك بمصر. لاحظ كثرة ما دوَّنه الناس البسطاء في وصف حياتهم اليومية. وجد فيها الكثير من نواحي السخرية والدعابة والفكاهة. وهل من عجب فيما يخطر لأبناء مصر من طرائف وفكاهات، حتى ولو في ذلك العهد البعيد قبل أكثر من خمسة آلاف سنة؟! لفت نظره منها قطعة حجرية، خُطّت أو حُفِرت عليها في الواقع كلمات شاب عن والده إيتيب، رئيس العمال في المنطقة. يقول بصراحة غريبة: «لقد زنى والدي إيتيب، رئيس العمال بالمرأة تاي، زوجة أحد العمال، كين. ثم زنى أيضًا بالمرأة بندوه، وهي زوجة عامل آخر اسمه هنرو».
ويظهر أن هذا الفتى كان يفخر بصولات والده في دنيا الفسق والمجون، فلم يفت عليه أن ينقش أخبارها على الحجر لتُخلّد ويقرأها الناس بعد ألوف السنين! الخيانات الزوجية والإباحية كانت في عهود الوثنية شيئًا معتادًا، بيد أن الطريف في هذه الوثيقة أن شابًا يعمد إلى تسجيلها حفرًا على الحجر ويرويها بكل بساطة عن والده! وهي، كما يبدو لي، أول وثيقة تاريخية عن الخيانات الزوجية بين الناس. فضلاً عن ذلك فهي أول وثيقة تفضح سطوة السلطة على الجمهور، فها هو رئيس عمال يستغل نفوذه ويستبيح عرض زوجات عماله.
وفي وثيقة أخرى كُتبت على ورقة من ورق البردي وشهدتُها في المتحف البريطاني قبل سنوات، راحت امرأة تخاطب زوجها الغائب عنها في رسالتها، وتحثه على العودة سريعًا للقرية ليصون شرف بناته. تروي له أن عددًا من الفنانين والنحاتين قد بعثهم الملك ليقوموا بأعمال نحتية وتماثيل للمعبد في تلك المنطقة. وقد فتن هؤلاء الفنانون بنات القرية وراحوا يفسدونهن ويهتكون أعراضهن. تقول له: أسرع وأدرك شرف بناتك، إن كنت حريصًا على عفَّتهن.
وقد تكون هذه الوثيقة في الواقع أول شكوى في التاريخ من علاقة الفنانين، ودورهم في دنيا الغرام والهيام. وطالما سمعنا وقرأنا عن أخبارها.
*نقلاً عن صحيفة “الشرق الأوسط”