“أوراق نعوات المسيحيين”

بقلم المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي سورية

لا أعرف متى بدأ اهتمامي بقراءة أوراق النعوات المختصة بالموتى المسيحيين في حلب، ولكنني أتذكر حينها أنني كنت أحاول أن أن أقف على رؤس أصابع قدميَّ لكي أرتفع قليلاً وأستطيع القراءة بشكل أفضل.
كان من العادة – ولا زالت – أن يقوموا بكتابة أسماء زوجة الفقيد (وقد أقتنعت حينها أن كل المتوفيين هم من الرجال فقط) وأبناء الفقيد الى آخره من أقرباء الفقيد، وإذا كان أحد هؤلاء المذكورين في هذه النعوة يقطن خارج حلب، فكانوا يكتبون جانب اسمه، دمشق أو حمص أو اللاذقية أو غيرها من المدن. أما في حال كان مقيماً خارج سورية فهم يكتبون اسم الدولة وكانت فنزويلا تتصدر قائمة الأسماء، ثم تليها أميركا وغيرها.
كنت أنبهر من وجود شخص للفقيد خارج البلاد وأعتبر ذلك ميزة ما بعدها ميزة، وكنت أسرح بخيالي الطفولي الى تلك الدول، وطبعاً كنت أنبهر من ذلك، لأن القليل من النعوات كانت فيها تلك الميزة، أي وجود أقرباء خارج البلاد.
اليوم وبعد خمسين عاماً، ما زلت أمارس هذه العادة، وأنا لا أحتاج أن أقف على رؤوس الأقدام، وقد لاحظت خلال السنوات الماضية تغيراً جوهرياً في تلك النعوات.
بدأت أقرأ للفقيد الكثير من الأقرباء خارج سورية، الى مرحلة أنني صرتُ أقرأ أن للفقيد أبناء خارج سورية، إلى مرحلة قرأت ورقة نعوة أحزنتني جداً، ذلك بأن كل أبناء الفقيد هم خارج سورية.
خلال السنوات السبع من الأزمة السورية، غادر الكثير من الأبناء سورية الى دول المهجر، وكانت أسبابهم تتعدد بين الخوف وفقدان الأمن وعدم وجود العمل وغيرها الكثير، وأنا واحد من أولئك الأشخاص الذين غادرهم أبناؤهم وتركوهم.


أجلس على مكتبي لأكتب لكم مقالتي هذه، وأمامي قصاصة من الورق مكتوبة بخط ابنتي “مي” – التي زارتنا قليلاً وعادت – مكتوب فيها ” بابي رتّب” اي “أبي قم بترتيب طاولتك” لأنها تتهمني بأنني فوضوي ومكتبي تتبعثر فيه الأوراق والكتب.
أجل فأنا فوضوي حتى بعواطفي وعندما أرفع رأسي قليلاً أجدُ هذه القصاصة الملصوقة على رفوف المكتب الصغيرة وأقرأها “بابي رتّب” أبتسم بغصة، فأنا لن أرتب فوضوية حياتي، وقد لامست فوضوية هذه الأزمة.
لن أرتب فوضى حياتي.
ولن أفكر للمستقبل.
ليأخذ البعض ممن يقومون بالشحادة علينا، المال الذين يريدون، وليتباكوا على هجرة المسيحيين، وهم يعلمون أن أكثر من 40 % من الشارع المسيحي السوري، البالغ قبل الأزمة بحدود 1200000 مواطن، قد هاجروا دون عودة.
هم يعلمون أن مشاريعهم في وقت الأزمة – للأمانة – كانت مفيدة، ولكنها لم تمنع الكثير من الهجرة المستمرة حتى الآن – وأنا مسؤول عن كلامي.
كلنا لنا أولاد وأحفاد وأخوة وأخوات وأقارب ومعارف خارج سورية، ونراهم فقط على شاشات أجهزتنا الخليوية.
كلنا لنا مشاكلنا وهمومنا وهي متشابهة في الغربة، وكل يوم نسمع عن فلان أو فلان قد هاجر.
أرفض يا ابنتي أن أنفذ طلبك الذي أقرأه على قصاصة ورق صغيرة بخطك، لن أرتب مكتبي، سأجعل من الفوضى التي تعيث بمكتبي نموذجاً عن الفوضى التي نعيشها في سورية.
لا أعرف إن كانت ورقة نعوتي سيكون فيها أحد مازال مقيماً في سورية، لأنني سأبقى لأكون:
ناطورٌ لمنازلكم
كتابُ تاريخ عن شوارعكم وحاراتكم
شاهدٌ على همجية هجرتنا
عندها سأطلب أن يتم لصق قصاصتك الورقية “بابي رتّب” على هذه النعوات وحينها سأقوم بتنفيذها.
اللهم اشهد اني بلغت

This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.