كامل النجار
حركة أهل القرآن أو “القرآنيون” قديمة قدم الإسلام، فقد ظهرت بالتقريب مع حركة الخوارج. ولكن فقهاء الدولة الأموية ومن بعدهم الدولة العباسية، الذين كانوا يعتمدون على صناعة الحديث لمساندة خلفائهم، اتخذوا من مقولة علي بن أبي طالب لابن عمه ابن عباس عندما أرسله لمحاورة الخوارج (لا تجادلهم بالقرآن فإنه حمّال أوجه بل جادلهم بالحديث) سلاحاً اضطهدوا به أهل القرآن واضطروهم لاستعمال التقية والتخفي خوفاً على أرواحهم. وبما أن الأحاديث قد أصبحت السلاسل التي تربطنا بالماضي السحيق، ولم نستطع حتى الآن الفكاك منها، يصبح تشجيع أهل القرآن ومساندتهم أمراً مستحباً إن أردنا الخلاص من هذا الكابوس الجاثم على صدورنا. ولكن لكي نشجع أهل القرآن فلا بد لنا أن نقرأ في كتاباتهم منطقاً يقنعنا بنواياهم وبوسائلهم العلمية التي يزعمونها في بحوثهم. ولكن حتى الآن لم يقنعني الشيخ الدكتور أحمد صبحي منصور بجدية نهجه في البحث إذ أنه يفترض معنًى معيناً لكلمة ما ثم يحاول أن يفرض علينا اتباع ما يقول دون نقاش. ومما يؤسف له أن الشيخ منصور يقدم لنا أنصاف المعاني التي توافق طرحه ويحجب عنا ما تبقى من معاني الكلمة المطروحة، فيصبح كالذي يقول (لا تقربوا الصلاة) ويصمت.
فلو أخذنا مقاله الأخير بموقع الحوار المتمدن تحت عنوان (إختلاف معنى بعض الألفاظ القرآنية بل تناقضها حسب السياق) بتاريخ 4/11/2011، نجد الآتي:
(اللغة كائن حى يتطور باستمرار، تموت منها ألفاظ وتتولد ألفاظ جديدة ، و بالاحتكاك باللغات الأخرى يتم التلقيح وتوالد واستعارة ألفاظ اجنبية وتعريبها. واللغة العربية بالذات هى أقدم اللغات الحية التى لا تزال موجودة حتى الان قبل وبعد ظهور الاسلام. عاصرت اللغة العربية لغات أخرى تحولت لهجاتها الى لغات مستقلة على حساب تلك اللغة الم التى اندثرت ، مثل اللغة اللاتينية التى ماتت وتحولت لهجاتها الى لغات مستقلة كاللغات الفرنسية و الأسبانية و البرتغالية والايطالية وغيرها، وكل منها اكتملت وأصبح لها معاجمها وقواعدها) انتهى
لا شك أن اللغة كائن حي قد يموت وقد يتطور، ولكن اللغة العربية ليست أقدم اللغات الحية التي لا تزال موجودة. فاللغة السريانية التي اشتقت منها العربية، ما زالت حية في أجزاء معينة في العراق يتحدثها الصابئة. واللغة الحبشية التي استعار القرآن بعض كلماتها ما زالت لغة حية وهي أقدم من العربية. واللغة النوبية ما زالت حية في جنوب مصر وشمال السودان، واللغة الأمازيقية ما زالت حية. كل هذه اللغات أقدم من العربية وقد أدى الاستعمار الاستيطاني الإسلامي إلى حصرها في جيوب معدودة بعد أن حاول العرب المسلمون قتل تلك اللغات. اللغات التي ماتت كاللغة اللاتينية والكلدانية وغيرها فقد انتعشت بانتعاش الإمبراطوريات التي فرضت لغتها على الشعوب المستعمرة، وعندما انتهت تلك الإمبراطوريات انتهت معها لغتها. فإذا انتهت الإمبراطورية العربية الإسلامية في شمال إفريقيا فسوف تموت العربية ويحل مكانها اللغة الأمازيقية.
يستمر الشيخ أحمد صبحي منصور فيقول (لا تزال اللغة العربية حية حتى الآن لسببين : القرآن الكريم و تأدية الصلاة اليومية ) انتهى. وهذا قول لا أوافقه عليه. اللغة العربية والقرآن فُرضا على الشعوب في شمال إفريقيا عندما غزتهم قوات الدولة الأموية وفرضت عليهم الإسلام واللغة العربية. وبما أن الإسلام واللغة أصبحتا وراثيتين يتعلمها الطفل مع تعلمه النطق، أدى هذا إلى ديمومتهما. فالقرآن ليس هو سبب بقاء اللغة العربية حية، ففي باكستان أو الهند أو بنغلاديش يقرأ المسلمون القرآن بلغته لأنهم حفظوه كالببغاوات دون فهم لغته، وفي حياتهم العادية يتحدثون لغاتهم المحلية. فاللغة العربية لغة ميتة عندهم رغم وجود القرآن والصلاة اليومية.
ثم يقول الشيخ أحمد صبحي منصور، دون أي سند علمي (هذا التغير الكمى والكيفى حدث ويحدث للغة العربية بينما يظل القرآن فريدا محتفظا بلغته ومصطلحاته التى لا يمكن فهمها إلا من خلال القرآن الكريم نفسه. ولولا القرآن الكريم لاندثرت اللغة العربية كما أندثرت الآرامية قبلها ، وكما اندثرت السريانية واللاتينية بعدها) انتهى.
أولاً: يظل القرآن فريداً لا لأن لغته فريدة ولكن بسبب التلقين الببغائي والمبالغ الطائلة التي تصرفها السعودية والأزهر لطبع المصاحف وتنقيحها والتأكد من أنها مطابقة للأصل. ولكن رغم ذلك تحدث أخطاء كما حدث قبل عامين عندما أرسل الأزهر آلاف المصاحف إلى دارفور واتضح فيما بعد وجود بعض الأخطاء بها، فأحرقوها عن آخرها وطبعوا غيرها. فلولا توفر المال وتفرغ رجالات الدين الذين تصرف عليهم الدول الإسلامية بسخاء، لتحرف القرآن تدريجياً عن طريق مثل هذه الأخطاء. وثانياً: مصطلحات القرآن ليست هي التي حافظت عليه لأن مصطلحاته هي نفس مصطلحات اللغة العربية، وقد أكد القرآن نفسه هذا القول عندما قال لمحمد (أنزلناه بلسانك). فلسان محمد كان هو نفس لسان قريش ونفس لسان الشعر العربي في الفترة التي سبقت القرآن (الشعر الجاهلي). وقد ظل هذا الشعر، الذي اقتبس محمد كثيراً من أبياته، ما زال يحتفظ بمصطلحاته، وما زلنا نفهمها عندما نقرأ المعلقات. فقوله (لولا القرآن لاندثرت اللغة العربية) قول لا يسنده أي بحث علمي.
ثم يقول الدكتور منصور (ـ هل نفهم هذا القرآن العربى بمعاجم اللغة العربية؟ إن للغة العربية معاجمها المتميزة، و قد تم تدوينها بعد القرآن بقرون ، وهى خير دليل على أن اللغة العربية كائن متحرك تختلف فيها معانى الألفاظ من عصر لأخر ، ومن مكان لأخر. إلا إنه لا يجوز أشتراط فهم القرآن بمعاجم لغوية كانت ترصد حركة اللغة حتى عصرها) انتهى.
اللغة العربية ليست فريدة في هذا المضمار، فكل اللغات الحية لها قواميسها التي كُتبت بعد مئات السنين من بدء تلك اللغات. وما زال أهل اللغات الأخرى يرجعون لمعاجمها إذا استعصى عليهم شيء في اللغة. وكل كتب التاريخ الإسلامي الذي تخصص فيه الدكتور منصور، كُتبت بعد مئات السنين من موت محمد، فهل تعلم الدكتور منصور تاريخ الإسلام من مكان آخر أم من الكتب التي كُتبت بعد مئات السنين؟ وعليه لا يمكن أن نفهم القرآن بدون الرجوع إلى معاجم اللغة التي تشرح معاني تلك الكلمات المستعصية علينا. وهذا ما نفعله مع الشعر “الجاهلي”. والحل الآخر هو الرجوع إلى تفاسير العرب المسلمين الذين عاصروا محمداً كابن عباس وغيره لنعرف منهم ماذا فهم المسلمون ومحمد من كلمات القرآن الغريبة. أما أن يخترع الدكتور منصور معنًى من عنده ثم يقول لنا هكذا قصد الله أن يقول، فلا يمكننا أن نقبل بمثل هذا المنطق
وبدون الالتزام بالنزاهة العلمية يقول لنا الدكتور منصور (ولذلك فإننا اليوم نجد عجبا حين نرجع إليها ،فمعظم مفرداتها اندثرت من الاستعمال فى عصرنا الذى جاء بمصطلحات جديدة من الغرب يتضاعف عددها باضطراد. وحتى فى لغتنا المستعملة المتوارثة تجد بعض المفردات قد اختلفت عما سبق، فكلمة (عميد ) ظلت حتى العصر العباسى تعنى (المريض حبا )، وفى ذلك يقول الشاعر :” وإنى من حبها لعميد..” ، ويقول الفيروز آبادى ، فى معنى كلمة عميد ” هدّه العشق” اى أمرضه العشق. فأصبحت كلمة ( عميد ) اليوم تعنى مرتبة عالية فى الجيش أو فى رئاسة الكليات الجامعية. الخلاصة أن تلك المعاجم تم تدوينها بعد نزول القرآن بعدة قرون لتسجل حركة اللغة العربية فى زمانها وليس زماننا، وقد أصبح أغلب ما فيها من كلمات عربية غير مستعمل فى عصرنا) انتهى .
أولاً: إذا أخذنا اندثار الكلمات فإن أغلب اللغة العربية الفصحى يمكن اعتبارها مندثرة لأننا لا نتحدثها في حديثنا اليومي، وحتى القلائل الذين يستعملونها في نشرات الأخبار وفي الصحف لا يجيدونها ويخطئون في كل جملة وفي كل سطر. فاللغة الفصحى لغة كتابة فقط وليست لغة حديث. ثانياً: الأمانة العلمية كانت تتطلب من الدكتور منصور عندما اقتبس من معجم البلدان، أن يأتي بكل معاني كلمة “عميد” ولا يقتصر على تعريفها بالمحب المستهام. فالقاموس المحيط يقول إن كلمة عميد أصلها ( العَمودُ: وجمعها أعْمِدَةٌ وعَمَدٌ وعُمُدٌ، والسَّيِّدُ،
كالعَميدِ، وـ من السَّيفِ: شَطِيبَتُهُ التي في مَتْنِه، ورَئيسُ العَسْكَرِ،كالعِمادِ، بالكسر،
والعُمْدَةِ والعُمْدانِ، بضمهما) انتهى. فكلمة العميد منذ بداية اللغة العربية كانت تعني زعيم القوم الذي هو كعمود الخيمة الذي يحمل ثقلها، وتعني رئيس الجيش، وتعني كذلك المحب المستهام. فلم يحدث أي تغيير في معنى كلمة العميد كما زعم الدكتور. ويزيدنا ابن سعد في الطبقات الكبرى في معنى كلمة “عميد” فيقول (فأنشدني بعض الجرميين شعرا قاله عامر بن عصمة بن شريح يعني الأصقع * عندما أسلم:
وكان أبو شريح الخير عمي *
فتى الفتيان حمال الغرامه
عميد الحي من جرم إذا ما *
ذوو الآكال سامونا ظلامه
وسابق قومه لما دعاهم *
إلى الإسلام أحمد من تهامه) (الطبقات الكبري، ص 336).
ثم يسأل الدكتور منصور، فيقول (هل نفهم القرآن الكريم بمصطلحات التراث ؟ لقد زاد فى تطور اللغة العربية وازدياد وتعقد مصطلحاتها أن صار لكل طائفة دينية مصطلحاتها الدينية الخاصة بها ، فالشيعة لهم مصطلحاتهم ، وعلى سبيل المثال فان مصطلح (النواصب ) لدى الشيعة يطلقونه على السنة الذين ( يناصبون أهل البيت العداء ) ونفس المصطلح ( النواصب ) له معنى مختلف فى علم النحو إذ يعنى أدوات النصب التى تنصب الفعل المضارع أو الاسم , بل ان كلمة ( النصب ) تعنى التحايل على الناس و( النصب) عليهم، ولا علاقة لهذا ( النصب) على الناس بعلم النحو. بل إن كلمة ( النحو ) فى حد ذاتها مصطلح جديد ،ومثله المصطلحات الجديدة فى إطاره مثل الرفع و الجر و السكون والاعراب و البناء و الفعل و الاسم و المبتدأ و الخبر و الفاعل و المفعول به ..الخ) انتهى
المصطلحات الدينية لم تغير معاني اللغة، فكلمة نواصب مشتقة من النصب المعروف لكل من يتحدث العربية فالنصب يعني الغش ويعني أن نناصب شخصاً العداء. وكون الخليل ابن أحمد أو سيبويه استعمل كلمة نصب وناصب ليرمز بهما إلى علامة الفتحة فوق الكلمة لا يعني أنه أدخل جديداً في اللغة بحيث تغيرت معاني كلماتها. ولولا هذه العلامات التي أدخلها سيبويه (ت عام 180 هجرية) لأصبح من الصعب جداً فهم القرآن لأن الآية (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، لولا علامة النصب التي أدخلها سيبويه لأصبحت الآية تعني أن الله يخشى العلماء، بينما الفتحة وقواعد النحو جعلت معنى الآية أن العلماء يخشون الله.
ويقول الدكتور منصور (ومصطلح السنة يأتي في القرآن بمعني المنهاج والطريقة أو الشرع ،وبمعني الشرع يأتي منسوبا لله تعالي (33 / 38) . وفي العصر الاموى استعمل مصطلح السّنة في معرض الاعتراض علي السياسة الاموية واهمية ان ترجع الي ما كانت عليه سنة النبي ،أي طريقته العادلة فى الحكم .وبها بدأ الاستعمال السياسي لكلمة السنة وقتها) انتهى
ولا خلاف أن كلمة سُنة مشتقة من سنّ أي شرّع، وهكذا كان استعمالها في اللغة العربية وحتى في لغة التراث أي الأحاديث. فمثلاً (أخرج عبد الرزاق عن أيوب. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “من استن بسنتي فهو مني، ومن سنتي النكاح”. (الدر المنثور للسيوطي). فالشرع ليس كله منسوباً لله كما يقول الدكتور منصور. فهناك الشارع المدني الذي يُشرّع دساتير الأمم، وهناك الشارع الديني الذي يستخلص القوانين من الآيات والأحاديث، وهناك الأنبياء الذين استنوا سنناً مختلفة. فمحمد مثلاً استن السواك وقال لولا أن يشق على أمته لأمرمهم بالسواك عند كل صلاة، وهي سنة حسنة يجب اتباعها. أما كلمة سُنة في القرآن فلها معاني كثيرة. (قل للذين كفروا أن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين) (الأنفال 38). فسنة الأولين هنا تعني خسف الأرض بالكافرين أو إرسال الريح العاتية عليهم أو أي نوع من أنواع دمار الشعوب الماضية التي ذكرها القرآن. بينما الآية التي تقول (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا) (الإسراء 77)، أي نفس قصة الأنبياء من قبلك الذين كذبهم قومهم فأرسل الله عليهم العذاب. فهذه هي سنة المرسلين قبلك؟ وفي آية أخرى يقول (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين) (الكهف 55). فسنة الأولين هنا تعني المعجزات. فالذي منع الأعراب من الإيمان هو انتظارهم المعجزات كما حدث مع الأنبياء من قبل. فيظهر لنا هنا أن كلمة سنة لا تعني فقط المنهاج أو الشرع كما يزعم الدكتور منصور
ثم يقول لنا الدكتور منصور (وأصبحت السنة من ناحية الفقه والفروع تعنى المذاهب الفقهية الاربعة المنسوبة للأئمة ابي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل ،هذا في عصر الاجتهاد الفقهي . وفي كتب الفقه السنى اصبح مصطلح السنة يشيرالي درجة اقل من درجات الواجب ،فيقال هذا فرض واجب ،وهذا سنة .اويقال “يسنّ”بمعني يستحسن. ـ ومع كل هذا التطور والتعقد فى المصطلحات التراثية لا يجوز فى المنهج العلمى أن نستعملها فى فهم القرآن الكريم ، ليس فقط لأنها تمت ولادتها بعد عصر القرآن متأثرة بظروف سياسية واجتماعية وفكرية ، ولكن أيضا لأن للقرآن مفاهيمه الخاصة ومصطلحاته الخاصة التى تعارض بل وأحيانا تناقض تلك المصطلحات التراثية المستحدثة.) انتهى
ولا شك أن أهل المذاهب الأربعة من حقهم أن يسموا مذاهبهم سنة أي طريقة أي تشريع لأنهم أتوا بتشريعات أي سنن من القرآن والأحاديث التي استنبطوا منها أحكام مذاهبهم. فاستعمالهم لكلمة سنة هنا لا يخالف معني الكلمة المتعارف عليه. وهناك فعلاً تضارباً بين بعض أحكام السنة وبين القرآن، والسبب في ذلك ليس اللغة وإنما تقديس محمد عند المسلمين الأوائل الذين جعلوا أحاديثه تنسخ بعض صريح القرآن.
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة التي أفند فيها تأويل الدكتور منصور لآيات القرآن