تركي الدخيل
«التعليم في اليابان ليس الهدف منه تكوين أناسٍ يتقنون تقنيات العلوم والآداب، والفنون، وإنما هو تصنيع الأشخاص المطلوبين للدولة»… هذه العبارة قالها أول وزير تعليم في اليابان، أرينوي موري في عام 1885، عبارة تعبر عن الأساس ذاته، التي سار عليها جمع من الدول الآسيوية ذات التكوين الغربي، مثل كوريا الجنوبية، واليابان، وسنغافورة… كلها ذات امتداد تاريخي مع الثقافة الغربية.
يروي الأديب الياباني كينزابورو أوي (1935 – ) عن تشكل اليابان: «نحن غارقون حتى العنق في الثقافة الغربية، ولكننا غرسنا بذرة ضئيلة، وبمثل ما تضرب البذرة بجذورها بالأرض وتنمو، فإننا نشرع في إعادة خلق أنفسنا»… ذلك الأسلوب جعل المستوى الحضاري لليابان بقدر ما له امتداد الغربي، فإن جذوره وعروقه وتربته ذات أصول يابانية بحتة، إنها حضارة استلهام عميق تراكم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان للتعليم وتطويره أبرز دور، للقيام بمهام النهضة الحضارية.
مر على تكون التعليم النظامي بالدول العربية، ما يقارب القرن من الزمان، غير أنه بمجمله تعليم لا يقارب تجارب الأمم الأخرى، التي صقلت مؤسساتها التعليمية، إذ صبغت الجامعات والمدارس بطرق الكتاتيب ولم تتحرر منها، لهذا بقيت أسيرة التلقين والترديد، أكثر من تعليم الإنسان اكتشاف شخصيته. هيمنت أساليب الأسئلة الناجزة، والإجابة المعلبة الجاهزة على المناهج التربوية، واستبعدت الأدوات الفكرية، والصيغ الفلسفية من التأسيس العلمي للإنسان… تجربة اليابان التعليمية، رغم تأخرها عن تجربة العالم العربي، فإنها تفوقت علينا بما لا يمكن قياسه!
يسجّل المؤلف الأميركي باتريك سميث (1927 – 2014) في كتابه «اليابان رؤية جديدة»، مشاهداته وتجاربه في المدارس اليابانية، إذ يلاحظ أن «المديرين في المدارس يتكلمون بحماسٍ عن فضائل التعليم الليبرالي، يعتبر تاشيو إيجيما، مدير مدرسة مينامي الإعدادية، أن الواقع ليس مجرد تجميع الحقائق العلمية، وإنما هو أيضاً كيفية وصول الشخص إلى جوهر هذا الواقع في الحياة اليومية، إننا نريد طلاباً يستكشفون مشكلات في الطبيعة ويجدون حلولاً لها… في أثناء زيارتي لمدرسة سكاي الابتدائية قال لي يوهوسونو، إن واجبي أن أُنشئ التلاميذ، ليصبحوا ناضجين قادرين على تقوية بناء الأمة، ومبدئي الأساسي هو كل شخص يستطيع أن يقوم بأي دور».
كوّن التعليم الرصين، المبني على أسس بناء الشخصية، المجتمعات المتطورة في آسيا وعلى رأسها اليابان، إذ استطاعت تجاوز الانكسارات الكبرى بعد أن سُحقت سحقاً في الحرب العالمية الثانية… نهضت من كبوتها، وتفاعلت مع المحيط ومع الأمم التي هزمتها مثل الولايات المتحدة، وانسجمت مع إرثها، مما جعل الحصيلة النهائية متجليةً بفردٍ دخله عالٍ… تصنيف التنمية البشرية بمستوى رفيع، نهضة اقتصادية، رفاه اجتماعي، وانتظام سياسي، لأن البنية التي أسست المجتمع ليست عرقية، رغم تعدد الأعراق داخل المجتمع بين الصينيين، والكوريين، وسواهم، بل التأسيس قاعدته الصلبة بكلمة واحدةٍ هي «التعليم».
السر الأبرز، لنجاح التعليم باليابان يعتمد على 3 أسس؛ هدف التعليم بناء الشخصية… صناعة التخصصات المنتجة على أرض الواقع… والثالث هو التعليم بالشراكة، إذ يكون الطلاب متعلمين ومعلمين لبعضهم بعضاً في الوقت نفسه، المسافة بين الطالب وأستاذه قصيرة للغاية، مع غرسٍ مبكر منذ الروضة – التي يدخلها قبل الدراسة 90 في المائة من اليابانيين – بأن ما نتعلمه هو لخدمة الأمة العظيمة، وبالتعليم يمكننا تجاوز الأزمات… ذلك هو الشعار، وبالفعل تغلبت على الأزمات الاقتصادية، واستوعبت مع تقادم السنين حتى أخطار الزلازل، التي تتعرض لها اليابان بشكلٍ مستمر بفعل الطبيعة الجيولوجية، كان العلم والتعلم السلاح الأبرز بوجه تلك التحديات!
في عام 1955، كتب العالم الإنثروبولوجي كلود ليفي شتراوس (1908 – 2009) عن العلاقة بين الثقافات: «كلما قل تواصل ثقافة مع أخرى، قل إمكان أن تفسد إحداهما الأخرى، ولكن من جانبٍ آخر، يقلّ كذلك إمكان أن تكتشف ما في الأخرى من ثراء ودلالات، وتنوع، وتلك مفارقة لا حل لها».
اليابان أمة تعلمت وعلمت… بهذا نهضت!. . . . .