كثيرا ما كنت أتساءل، كيف يؤكد فقهاء الدين على المساواة بينما هناك ما يقول بعدمها.. “وميّزنا بعضكم على بعض درجات “.. وفي خضم الحياة نسيت أو تناسيت الكثير من التناقضات الدينية، وأخذت بإيجابيت الديانات، لكي أريح نفسي وعقلي من هذه التساؤلات.. ولكن هذه التساؤلات عادت بقوة خاصة مع إشتعال فورات الغضب الشعبي الذي نراه ونقرؤه يوميا في الإعلام العربي، بصفة خاصة. والإعلام الغربي الذي لا زال يبحث عن جذور هذا الغضب وإلى ماذا سينتهي ومتى ؟.. أكثر ما لفت نظري خلال السنوات القليلة السابقة.. هو تزايد الفجوة الطبقية.. سواء المادية منها أو التعليمية. ولكن الأهم إتساع الفجوة الثقافية في كل المجتمعات العربية.. وبالرغم من أن كل إنتفاضات الشارع العربي، قامت على أكتاف الطبقة الكادحة.. والتي تقل في مستواها الثقافي كثيرا عن الطبقة الأخرى.. وهي الطبقة التي أنجحت تيارات الإسلام السياسي في الإنتخابات الأخيرة.. والتي وكما لقنها فقهاء الدين أن ترى في الدين حلا لكل المشاكل المجتمعية!!
ما أود أن أبينه هنا.. هو أن هذه الفجوة موجودة في كل مجتمعاتنا العربية.. وإن تفاوتت في حدتها.. وأنها إحدى حجرات العثرة التي تقف في طريق التطور الإنساني لشعوب المنطقة العربية.. وحجرة عثرة أكبر في طريق الديمقراطية التي يصر فقهاء الإسلام السياسي على ربطها بالأحكام القضائية الدينية.. ففي مصر، وفي ظاهرة تؤكد إنعدام العدالة الإجتماعية، في تزايد أعداد سكان العشوائيات، وتزايد أعداد اللقطاء بينهم.. تجلّى عمق الفجوة الثقافية بين الطبقتين..قبل سنوات.. في حادثة وقوف الدكتور والد هند الحناوي، إلى جانب حق حفيدته في نسبها لوالدها أحمد الفيشاوي. الذي أنكر نسبها إليه ورفضه.. ففي مجتمع تتعمّق فيه ثقافة رفض مجهولي النسب والهوية. فهم الدكتور والد هند، ما ستتعرض له حفيدته من إضطهاد مجتمعي مستقبلا. وأصر على إجراء فحص الحمض النووي لإثبات النسب.. في السعودية.. إستمرأت التغافل عن هذه التقسيمات الإجتماعية.. إلى أن قرأت قصة المرأة السعودية التي تقدم إخوتها إلى المحكمة بطلب طلاقها بعد 5 سنوات من الزواج.. وإنجاب طفلين لعدم كفاءة النسب.. وكانت صدمتي الأكبر حين قضت المحكمة بهذا الطلاق.. مما إضطرهما للهرب إلى جدة.. حيث ’قبض عليهما… ولكن المرأة رفضت الخروج من السجن فيما بعد، خوفا من إخوتها. والذين بناء على قرار المحكمة، أصروا على تزويجها ممن يرونه أكثر كفؤا لها.. بعدها قرأت قصة العباسة أخت هارون الرشيد للكاتب جورجي زيدان.. والتي قتلها أخوها مع زوجها وطفليها.. بعد تزويجها من الموالي جعفر البرمكي.. لأنها لم تترك الزواج حبرا على ورق كما إشترط أخوها، وأتمته وأنجبت طفلين بدون علمه.. وبناء على عدم كفاءة النسب حيث انها هاشمية قريشيه بينما هو من الموالي… مما اعاد إلى ذاكرتي، قصة سلمان الفارسي الذي لم تشفع له مقولة النبي.. “سلمان منا اهل البيت “.. وإصرار عمر بن الخطاب على رفض تزويجة من إبنته لأنه من أصل أعجمي ؟؟؟ بما يتناقض مع ” لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى “.
ثم مقالة أرجوان سليمان في مايو 2010 تحت عنوان “” تزايد لقطاء ومغتصبات السعودية يفتح المطالبة باعتماد ال دي أن إيه قضائيا”” وذلك بعد الحكم على فتاة حملت من مغتصبها..ورفض المستشفى إجهاضها، بالجلد 100 جلدة بعد الوضع بتهمة الزنا ومحاولة إجهاض الجنين؟؟؟
ما دعاني لإستجلاب هذه القصص، وكلها تتشارك في تساؤل واحد عن العدالة المفقودة.. ما قرأته للتو، عن قصة طلب العديد من مجهولي النسب في الأردن، اللجوء إلى الدول الغربية هربا من واقع الإذلال الذي يواجهونه فيها! وهو ما كتبت عنه سابقا في مقالتي معاناة أيتام الأردن في 26 يوليو من هذا العام
.. والتي كتب أحد المعلقين حينها، إهتمام الملك عبد الله وإيعازة لأخذ الإجراءات الضرورية لرفع الظلم عنهم ؟؟؟ و’افاجأ الآن وبعد ستة أشهر فقط على إستمرار معاناتهم.. وتنكّر ” وزارة التنمية الإجتماعيه لوعودها، والمتمثلة بتأمين وظائف لجميع الأيتام وسكن للإناث بالإضافة إلى إعطائهم الجنسية الأردنية دون تمييز بالرقم الوطني الخاص بهذه الفئة من المجتمع “. المشكلة أكبر من مجرد الحصول على رقم وطني سواء في المملكة الأردنية أم المملكة السعودية أم مصر. وبقية الدول العربية.. المشكلة الأولى تتركز في عزلهم كلقطاء منذ نعومة أظافرهم عن المجتمع من حولهم.. لأنهم وبدون أي ذنب مجهولي النسب أي مجهولي هوية الأب،الذي لفظهم طوعيا بينما هو شريك في العملية الجنسية.. ثم الإصرار على وضعهم في ملاجىء ومدارس خاصة يفتقر القائمين عليها لأبسط قواعد الإحساس الإنساني كما ظهر جليا في برنامج ال بي بي سي العربية قبل أشهر معدودة.. وهو الوضع المعمول به في كل الدول العربية.. المشكلة الثانية وهي الأكبر، هي الثقافة المجتمعية المعمول بها في كل هذه المجتمعات برغم تظاهرها بالتقوى والتديّن.. وإصرارها على البحث عن الأصل والنسب في علاقتها بكل المحيطين حولها.. ’ترى كم من أب وأم، يوافقان على زواج إبنهم من فتاة لا تتساوى معه في النسب والمكانة الإجتماعية؟؟؟ كم من فتاة تتعرض للإغتصاب في مجتمعاتنا..ويرفض مغتصبها الزواج بها ؟؟؟.. ثم كم من عائلة تعطي لطفل مجهول إسمها ولقبها لتمحو عنه العار الذي يلحقه المجتمع بمجهولي النسب تحت مبرر أن “” لا تبني في الإسلام “” ؟؟؟
وأتساؤل هنا أية عدالة هذه التي تجلد إمرأة حامل.. أو تزوّجها من مغتصبها كما يحدث في المغرب والدول العربية الأخرى.. أي عدالة هذه التي لا تنظر لحال الطفل البرىء القادم إلى الدنيا وتحرمه من حقه أن يعيش بكرامة لأنه وكما يطلق عليه المجتمع لقب إبن زنا، وإبن حرام، ولا حق له في نسب. أي عدالة هذه التي تفرّق بين زوجين لعدم تكافؤ النسب. وأين المساواة ؟؟ في مجتمع ’يجرم المرأة في كل الأحوال.. فهل نستغرب حين نقرأ المقالة التي نشرت في إيلاف ي في 12 ديسمبر 2012، تحت عنوان ” المجمع الفقهي الاسلامي يحذر من بوادر الحاد ” وتشكيك في الدين.
بدون الدخول في صلب المفاهيم الدينية وتحليلها وترويج للإيجابي منها.. بدون العودة إلى أنسنتها ومقاربتها للعصر الذي نعيش فية.. بدون ترسيخ وتجذير المساواة الإنسانية بين الجميع..سيؤخذ فكر الإلحاد كوسيلة للهرب إلى الغرب… وسيبقى الباقي في مستنقعات الجهل والتخلّف..
ما طرحه المجمع الفقهي، الذي إنعقد في مكة، كحل للظاهرة في تعزيز مكانة القضاء الشرعي، وبناء على قضية تفريق الزوجين نظرا لعدم كفاءة النسب، أكبر مثال على قصور هذا القضاء على التطور، المرأة التي فضّلت السجن على أن تتزوج رجلا آخر غير زوجها، إختاره لها إخوتها.. الحكم القضائي بجلد المرأة على إعتبار انها زانية، لا ينتمي لأي إنسانية أو تعاطف مع إمرأة مغتصبة.. القضاء بأن تتزوج من مغتصبها في دولة إسلامية أخرى لا يقل إهدارا لكرامتها وإذلالها عن الحكم بجلدها..إعطاء لقطاء الأردن رقم وطني يميزهم ويبين أنهم مجهولو الأب. كله يؤكد بأن مجتمعاتنا مريضة وبحاجة ماسة لعلاج جذري لإعادة صوغ ثقافة الإنسان العربي، مستندا إلى الديمقراطية الحقة التي تعترف بحقوق المرأة وحقوق المواطنة والمساواة بين الجميع.. والإستناد إلى قضاء عادل يجذّر للعدالة الإجتماعية ولا يستند إلى تأويلات بشرية تأخذ من الدين أخلاقياته.. بحيث تعيد إنتاج هذه المجتمعات المريضه.. من المخجل أن نجد أنه كلما هبت عاصفة على شأن ما من شئون مجتمعاتنا..، عرّت العاصفة وفضحت عيوب ثقافتنا…
منظمة بصيرة للحقوق الإنسانية