عبدالله حبه – موسكو
ربما لا يوجد كاتب روسي- سوفيتي يحظى بالاهتمام في الاوساط الثقافية الروسية في هذه الايام مثل اندريه بلاتونوف (لقبه الاصلي كليمنتوف) الكاتب – عامل السكك الحديدية سابقا ، الذي برز نجمه في العشرينيات من القرن الماضي بالرغم من جميع مضايقات الرقابة الحزبية والسلطات السوفياتية. لقد وصفه يوسف ستالين بانه “كاتب موهوب .. لكنه وغد”. ويؤكد النقاد على ان رواياته ” الجن” و” بحر الصبا” و”الحفرة” و”تشيفنغور” من خيرة اعمال الادب الروسي في القرن العشرين. ومما يؤسف له ان هذا الكاتب لا يزال مجهولا بالنسبة الى القارئ العربي.
وقد عمد مسرح – استديو تاباكوف بموسكو الى اخراج عرض يراد به تعريف الجمهور بالكاتب وابداعه، واعتمد فيه على احدى قصصه المبكرة وعنوانها- “هويسات يبيفاني”. في البداية يتوجه احد ابطال العرض المسرحي مخاطبا الجمهور بالسؤال :” من منكم قرأ قصة “هويسات يبيفاني”؟ فيتبين ان اربعة من الحاضرين فقط هم من قرأوا هذه القصة.
ويبدو على خشبة المسرح مشهد قاعة دراسية يجلس فيها على المصاطب الطلاب في صفين، وبينهم سبعة فتيان وفتاتان فقط. بينما عُلقت على الجدران صور الكتاب الذين تعرضوا في الاتحاد السوفيتي للمضايقات والاضطهاد في القرن العشرين مثل مارينا تسفيتايفا وآنا اخماتوفا وشالاموف وسولجينتسين وبرودسكي وغيرهم.
ويقدم في هذا العرض درس حول قصة ” هويسات يبيفاني” التي كتبها المؤلف حين كان في سن 27 عاما. لكن المدرس لم يحضر الى قاعة الدرس بعد، ولهذا انهمك الطلاب في العبث والتحدث بواسط الهواتف النقالة، وتراهم يتدافعون ويضعون على رأس احدهم دلو النفايات ويكتبون على اللوحة عبارة ” بلاتونوف – غبي!” وهلمجرا. وعندما يدخل المدرس يستبدل علامة
التعجب هناك بعلامة استفهام .
في هذا الجو تطرح فكرة القصة المستوحاة من وقائع تاريخية حقيقية. فمن المعروف ان القيصر بطرس الاكبر استدعى المهندس الانكليزي برتراند بيري لانشاء قناة تربط ما بين نهري اوكا والدون في جنوب روسيا. وبدأ المهندس العمل واستقر مع مساعديه في بلدة منسية اسمها يبيفاني. علما ان هذا الانكليزي كان معجبا بشخصية بطرس الاكبر واراد خدمته بكل اخلاص ونزاهة، واراد ان يشارك في نشر الحضارة في البلاد الروسية الغامضة والمتوحشة. وكان المهندس يحلم بالعودة لاحقا الى وطنه حيث كانت بانتظاره خطيبته ماري. لكن المشروع فشل بسبب عدم توافق منسوبي النهرين وطبيعة التضاريس الارضية هناك. وقد كان اهالي البلدة يتوقعون فشل مشروع القيصر وصاحبه الاجنبي هذا وشككوا منذ البداية في نجاحه. فلا يمكن هناك حفر قناة يمكن ان تمر فيها السفن الكبيرة كما اراد القيصر. وكانت النهاية فظيعة حيث امر القيصر بتعذيب واعدام المهندس الانكليزي.
وقد تناول بلاتونوف هذه الواقعة التاريخية كمادة لقصته اعتمادا على معارفه كمهندس في اصلاح الاراضي. ومعروف انه عمل نفسه عدة سنوات في تنفيذ مشاريع السلطة السوفيتية في بناء السدود والقنوات ومحطات توليد الكهرباء. ولهذا جاءت جميع التفاصيل التي يوردها ابطال المسرحية قريبة من الواقع . لكنها كانت في الوقت نفسه تصويرا مجازيا لكثير من المشاريع التي تابع بلاتونوف في العهد السوفيتي تنفيذها وعاصر فشلها بسبب سوء تخطيطها وعدم توفرالدراسات والمواد اللازمة لتنفيذها. ان الرقابة الحزبية وجدت في القصة تشنيعا بالسلطة السوفيتية. وزاد من الطين بلة ان الكاتب نشر عدة روايات وعدة أعمال أخرى مثل ” ماكار المتشكك” و” الحفرة” و” الجن” و”ساكن الدولة” و”قصة موسكو السعيدة”. ان جميع هذه القصص تعكس مواقف بلاتونوف ،عضو “الحزب البلشفي” سابقا، وخيبة أمله بالسلطة التي ما كانت تولي الاهتمام اللازم الى الانسان الكادح ومصالحه. الانسان الذي وصفه كارل ماركس بأنه اثمن رأسمال. بينما كانت هذه السلطات تطالبه بأن يساير خط الحزب المعلن آنذاك والدعاية له بالشعارات فقط عبر وسائل الثقافة.
وعمدت المخرجة مارينا بروسنيكينا الى الاستفادة من لغة بلاتونوف واسلوبه المعقد المطعم بالعبارات السلافية القديمة الواردة على ألسنة ابطال العرض المسرحي في نقل المشاهدين الى عوالم المؤلف السحرية والغامضة وشخصيات الفولكلور الروسي. وربطت المشاهد التاريخية بمشاهد من حياة بلاتونوف نفسه وعلاقته بزوجته التي كان يزورها سيرا على الاقدام عشرات الكيلومترات وسط الثلوج والزمهرير من موقع العمل الى المدينة التي تسكن فيها. وكذلك ربطت اوامر القيصر في تنفيذ مشاريع لا معقولة بأوامر السلطات الراهنة في زمانه في تنفيذ مشاريع غير واقعية لا مردود لها. وترافق المشاهد الاغاني والرقصات الحديثة والعزف على البيانو الكبير. ويجمع العرض بين عناصر الدراما والموسيقى والغناء والرقص. ولهذا حظي العمل بإعجاب الجمهور الذي لا يعرف غالبيته قصة بلاتونوف واعماله الابداعي.
علما ان اندريه بلاتونوف الذي نشأ في فترة قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية، تماهى مع موجة التغيير التي شملت كافة حياة المجتمع ايامذاك. وليس عبثا ان ظهر في تلك الفترة دعاة التغيير في كافة المجالات مثل بولغاكوف وبلوك وشولوخوف وماياكوفسكي ورائد حركة التنوير السوفيتية مكسيم غوركي . لقد كانوا جميعا يصبون الى قيام مجتمع جديد وفق افكار جديدة، ولكنهم انقادوا في البداية الى الطوباوية في غالب الاحيان مما ادى الى خيبة أملهم في الوضع لاحقا. ولهذا نزع اغلبهم فيما بعد ” القناع الثوري” وتحولوا الى اساليب جديدة في التعبير المجازي. ان جميع أعمال بلاتونوف تمضي في هذا الاتجاه ولهذا كانت تثير استياء
مرقد بلاتونوف في المقبرة الأرمنية في موسكو
المسؤولين في مجال الثقافة. فنراه في رواية ” الحفرة” يؤكد على ان بناء الاشتراكية باستغلال اعمال السخرة العبودية يعتبر شيئا مستحيلا وفظيعا في جوهره. بينما يعبر في روايته ” تشيفنغور” عن وضع الطوباوية الاجتماعية بإسلوب ساخر. ففي المدينة يتحول العمل الذي هو أساس تطور الانسان الى احد رواسب الجشع والتلذذ الحيواني الاستغلالي من رواسب المجتمع البرجوازي. وهاجس الكادحين فيها هو الجلوس بلا عمل و” التأمل “. وقال احد النقاد عن المؤلف :” ان بلاتونوف مثقف، لكنه لم يخرج من احضان الشعب”. انه فعلا استلهم الكثير من كتاب روسيا الرواد بوشكين وجوجول وتولستوي ودوستويفكسي وسولتيكوف – شيدرين ، ونراه مفكرا وفيلسوفا وواقعيا وحالما في آن واحد. كما ان مسيرة حياته كمهندس اصلاح الاراضي وباني محطات كهربائية وسدود وما لاقاه من مصاعب في حياته المهنية المأساوية انعكست كلها في اعماله الادبية. ويعيد اهل الادب والمسرح والسينما اليوم قراءة اعمال بلاتونوف بروح وثابة جديدة.