في كل يوم ثلاثاء، تمام الساعة العاشرة مساءاً بتوقيت السعودية، يكون الجمهور العربي على موعد مع برنامج ”الاتجاه المعاكس“ للمحاور فيصل القاسم، الذي يناقش الملفات السياسية الساخنة في الوطن العربي. ما يميّز القاسم، هو أنه يجمع متناقضين على طاولة واحدة، عبر مواجهة تخرج في الكثير من الأحيان عن طورها.
ما لا يعرفه فيصل القاسم، هو أنه قد يجد فيّ، وفي أمي، ضيفتين تلهبان إحدى حلقاته. منذ 15 آذار 2011، تاريخ انطلاقة الثورة السورية، يمكن القول أن استديو البرنامج استقرّ في بيتي، يبث حواراته الساخنة على مدى أربع وعشرين ساعة متواصلة يومياً، بضيفتين ليستا سوى أنا نفسي، وأمي. جولات متتالية، عند تناول الفطور، عند الذهاب إلى السوق، أثناء استقبال الزوار، وحتى قبل النوم، تربطني بأمي، التي أتشارك وإياها المنزل نفسه، ولكن يبدو أننا لم نعد نتشارك الوطن نفسه، كما تتصوّره كلّ منا.
الشعب السوري على اختلاف مذاهبه وطوائفه وتوجاتهه السياسية يتحدث عن التقسيم. هنالك من يخاف من التقسيم الطائفي، وآخر يتحدث عن التقسيم المناطقي، والغالبية مذعورة من التقسيم الإثني… لكن لم يخطر لبال أحدنا، مع بداية الأحداث، أن يمتد التقسيم ليطال بيوتنا. لطلما اعتدنا أنا وأمي على الاختلاف، فلكل منا ذوقها الخاص، آراؤها الشخصية في عدد من القضايا، وهذا ما اعتدنا على تقبله دون أن نتخاصم أو نضطر إلى الصراخ. كان ذلك إلى أن بدأت الأحداث في سورية! أصبحت أنا في نظر أمي ”متآمرة ناكرة للجميل لا تحب وطنها“، كما أصبحت أنا أنظر إليها بشفقة، على أنها ”من الرعيل القديم الذي تبنى نظرية المقاومة والممانعة“ إذ أنها تؤمن تماماً أن “أميركا الله لا يوفقها بدها تخرجني من بيتي وتشنططني آخر عمري”!
في صباح أحد الأيام، بينما كانت تدور كاميرا برنامج ”الاتجاه المعاكس“ في غرفة الجلوس في بيتنا كعادتها، خطر على بال أمي العزيزة أن تطرح عليّ سؤالاً بريئاً: “بس بدي أعرف شو عملك هالنظام؟!”. وكأنها قدمت لي هدية على طبق من ذهب. “فعلاً! ماذا قدم لي هذا النظام؟ لنرَ إذن. أنا بلا عمل، ولا بيت، ولا ضمان صحي… شو كمان؟”. قاطعتني أمي قائلة: “لكنه قدم لك التعليم المجاني والمستشفيات المجانية”. هديّة أخرى! انهلت عليها بغضب وسخرية “ما دام كذلك، لماذا أصرّيتي على تعليمنا في المدارس والجامعات الخاصة؟ ولماذا عندما يحتاج أي أحد منا إلى استشارة طبية، تسارعون إلى مستشفى الجامعة الأميركية ”الإمبريالية“ في بيروت؟!
أعترف هنا، وببالغ النشوة، أنني سجلت هدفاً في مرماها! لكن نشوة النصر، كالعادة، لا تستمر مطولاً. رأيتها صباح اليوم الثاني خارجة للتسوق. سألتني إن كنت أريد منها أن تجلب لي غرضاً معها. كنت أحتاج إلى السجائر فسارعت إلى طلبها منها. الداهية الصغيرة استغلت الظرف ”أحضر لك السجائر إن توقفتي عن كتابة أفكارك طالع نازل على فايس بوك!“. لم يكن أمامي سوى القبول، دون تردد، غير متوقعة ما سيترتب علي بعد هذا الخطأ الفادح. ”نيال المعارضة فيك، إن كان كل مؤيديها مثلك يبيعون قضيتهم من أجل بضع سجائر”. سجّلت هدفاً في مرماي!
رغم طرافة هذه الأحداث الصغيرة، إلا أن فيها ما يؤلم أحياناً. عادت أمي في أحد الأيام إلى البيت والدموع تملأ وجهها، لكنها رفضت أن تخبرني ما الذي حدث معها. استغربت كثيراً، فليس من عادتها أن تخفي عني شيئاً. اتصلت بأختي لأستفسر عن الأمر، علّها تعرف شيئاً. كانت أمي قد تشاجرت مع حاجز للجيش السوري في أحد شوارع دمشق، فتعرض لها بكلمات نابية جرحتها كثيراً. لم تخبرني خوفاً من الشماتة!
هكذا، منذ ما يزيد عن عامين ونصف، وكل منا تدافع عن رأيها بشتى الطرق. كأننا نخوض حربنا الخاصة في بيتنا. أصواتنا تعلو أحياناً، وكلماتنا تتحول إلى أسلحة من العيار الخفيف، التي تخدش، دون أن تؤذي فعلاً. كلتانا ترفض التراجع قيد أنملة عن رأيها، حتى لو ادعينا أحياناً عكس ذلك، لدواعي مجاراة الحياة اليومية. اتفقنا على عقد هدنة، إحدى بنودها كانت ضرورة تركيب جهازي استقبال receiver في المنزل؛ فقضائي لنهاري على قناة الدنيا لم يعد أمراً ممكناً.
في غرفتها، تشاهد على امتداد النهار محطات التلفزيون السوري، التي تصدح بحوارات محللين سياسيين يطربونها بما تريد أن تسمعه، بغض النظر عن دقته أو موضوعيته، وفي غرفتي تلفزيون آخر قد يعرض أيضاً آراءً غير دقيقة وغير صحيحة، ولكن يناسبني أكثر.
المشهد مستمر في منزلنا، وكاميرا ”الاتجاه المعاكس“ خاصتنا تنافس فيصل القاسم في استديوهات الجزيرة.