أضاء الشيخ الشعراوي ملمحًا من صباه يومًا وحكي عن رجلٍ كان يتعمد إحراجه علي الدوام في مجالس القرية بأسئلة غريبة، ذهب الشيخ إلي بيته يومًا، وهناك، عثر علي كتيبٍ مغلقٍ علي الكثير من تلك الأسئلة وأجوبتها التي كانت تكفي لإحراجه مئات المرات لولا الصدفة، وهو لم ينج فقط إنما استخدم الكتيب بعد ذلك كسلاح لصالحه، لقد حفظ كل الأسئلة وأجوبتها، وكان كلما حاصره الرجل بسؤال مثل:
– ما هو القبر الذي مشي بصاحبه يا شيخ أمين؟
تظاهر الشعراوي قليلاً بالاستغراق في التفكير قبل أن يجيب:
– حوت سيدنا يونس عليه السلام!
ويهلل المجلس!
لقد اختطف المعركة برمتها إلي ميدانه هو ولم يترك للرجل إلا الهامش الذي لا يسمح بالمناورة، إنما استقبال اللكمات فقط، عندما عرف الشيخ المصدر!
وفي واحدة من عنترياته الفارغة قال “عبد الناصر” يومًا:
– إن لم نجد سلاحا فسوف نحارب اسرائيل ومن ورائها بالنبابيت!
آنذاك، أفرطت أبواقه ومخابراته في إيهام القطيع بأن الذعر قد اندلع في عواصم العالم لاعتقادهم بتوصل المصريين إلي سلاح سري اسمه النبابيت، ولأنهم يتوقعون الغفلة، لم يبحثوا أصلاً احتمالية أن يسأل المصريون أنفسهم سؤالاً بسيطاً:
– لماذا لا يسأل الأمريكيون أحد المهاجرين المصريين عن الترجمة الإنجليزية لمفردة “النبابيت” في لغته الأم!
وفي سياق شديد الشبه، عندما قال عبد الناصر ردًا علي سؤال خبيث وجهه صحفي إنجليزي عن تأثير هزيمة 67 علي صحته:
– أنا مش (خرع) زي “إيدن” بتاعكم!
لم تفلت الشئون المعنوية الفرصة دون الدعاية لفشل ممثلي الإعلام العالمي في العثور علي مرادف ملائم لمفردة (خرع)، كما أسرفت كل الإذاعات المصرية في الضغط علي الحدث طويلاً، لقد كان العسكر في أضعف حالاتهم، لذلك، تجاوز السفه المبالغة إلي الإحالة عندما جعلوا بأساليبهم المطروقة الفنان “محمد طه” يتغني بتلك (الحكمة الناصرية) التي كانت تذاع علي كل الشبكات عشرات المرات يومياً:
(أنا مش خرع زي إيدن قالها ريسنا)
وطبعًا لازمة “محمد طه” الشهيرة:
– أووي أووي أووي يا عيني..
عنقود طويل من أغاني القاع التي تنتصب كعلامات طريق معتم لا يعني أكثر من دلالة هزيلة علي محنة الوعي حين يغيب، البطل ده من بلادي، أدب ومسامحة يا كفر مصيلحة، هو دا البطل اللي ضحي بالحياة!!
ولا أجد وصفاً لـ “عبد الناصر” ولا لمصر التي في خاطر كل العسكر أكثر عدالة من وصف الحاج “إبراهيم كروم” فتوة حي بولاق!
عندما علم “كروم” بموعد عودة “عبد الناصر” من مؤتمر بالهند ذهب إلي سيرك “إبراهيم الحلو” وطلب استعارة أسدٍ يركبه أثناء استقباله وقوبل طلبه بالرفض خوفاً علي حياة الناس، فاكتفي بأن يركب حصانه ويستقبله بموكب حاشد من أهالي بولاق وكتب علي أكبر لافتة في ميدان عابدين:
(إبراهيم كروم فتوة مصر يحيي جمال عبد الناصر فتوة العالم)
ما أصدق هذا التعبير العفوي علي ضخامته، فتوة الحارة ومنطقه، أنت آمن إذا تواريت في ظله الكبير وأنفقت عمرك في تبجيله والإشادة بكل حماقاته أو تموت، فتوة، لا يستمد شرعيته من الشعب أو الإنجازات إنما من الخداع والأوهام وقوة السلاح!
إنها اللا دولة بكل تجلياتها!
غابةٌ عقيدة إقطاعييها عارية جدًا لخصها “السيسي” في لحظة انسجام يتيمة مع أعماقه في جملة:
– حرية إيه وأنا مش لاقي آكل؟
ليس الفساد في مصر اعتباطيًا يا سادة إنما منظم، وما من شك أن هناك حكومة ظل وظيفتها حراسة بقاء الحياة الشاقة التي تخنق القطيع، وحراسة التعاسة في وجوههم حتي لا يجدوا وقتاً للتفكير في الخروج من ظلال السيد!
والآن، ما هو مصدر حكاية النبوت؟
كان “نيكيتا خورتشوف” متناقضًا، فهو لا يتورع عن التنكيل بقسوة بالذين كانوا يسمونهم أعداء الشعب، وهو أيضًا لا يخجل من أن يرتدي قميصًا أوكرانيًا مزركشاً ويرقص رقصة “جاباك” إرضاءًا لـ “ستالين” خلال حفلات الكرملين!
كان يهلل لكل خطوة يقدم عليها عندما كان حياً، وعندما مات وورث عنه مقعده اشتبكت معه مرحلة عصبية وهزلية من تاريخ الإتحاد كان من أبرز ملامحها تشويه صورة “ستالين”، وإهانة الفنانين التجريديين، وضرب “نيكيتا” منبر الأمم المتحدة بحذائه أثناء مناقشة الأزمة المجرية، كما وصفه “ماو تسي تونج” عند أول احتقان سياسي بين الحليفين بـ “الجزمة القديمة”!
قال ذات مرة لـ “نيكسون” نائب الرئيس الأمريكي آنذاك:
– سوف نريكم أم كوزكين!
عبارة من العامية الروسية تنبض بالسخرية والوعيد، وهي تشبه إلي حد بعيد في العامية المصرية: “فسحوه” أو “آخدك ورا مصنع الكراسي”، وهذا تقليد روسي شائع، يقولون أيضًا ” قالت إذاعة أرمينيا” قبل رواية نكتة، ذلك أن الإذاعة الأرمنية في الخمسينيات كانت تطرح سؤالاً بسيطاً ثم تجيب عليه بطريقة غريبة، ولعلها تشبه عبارة “إسماعيل ياسين” في فيلم “ابن حميدو”:
– إنتَ ما بتعرفش سويسي؟!
ولقد استغل الحزب الحكاية في الدعاية المضللة لمدي الذعر الذي انتاب الأمريكيين لأنهم لم يفهموا مَن هي “أم كوزكين”، وبمن يُهدِّدهم!
إنها المصدر الجذري لنبوت عبد الناصر المقلد!
كذلك..
كان “ماو تسي تونج” يتجول دائمًا في حقول الصين في زي بسيط، ولعل المصريين ما زالوا يتذكرون “حسني مبارك” في بداياته وهو يرتدي زي (قوي الشعب العاملة) ويتجول في زراعات “المنيب” ربما أو ضواحي القاهرة دون أن ينسي أن يضع منديلاً بائسًا بين رقبته وياقة القميص النص كم!
نفس الأدوات، نفس الأساليب، نفس الوجوه الباردة التي لا تتفاعل، ونفس الكتيب الذي نحفظ الآن جيدًا كل فصوله!
المضحك، أن بعض الموظفين لا يخجلون من ارتداء ذلك الزي حتي الآن، المدرسين خاصة!
وبعد كل فوضي الكلام العارمة هذه أجدني الآن أميل أكثر من أي وقت مضي إلي تصديق عبارة “عمر سليمان” الشهيرة:
– المصريون غير مستعدين للديمقراطية!
مع ذلك، هم جميعًا غرف انتظار للديمقراطية لكن كهدية من الإخوان المسلمين، لقد ارتفعت أسوار الخوف ارتفاعًا صادمًا!
محمد رفعت الدومي