تبدأ الحكاية من الجسر.. كان الإعلان في القاهرة، قبل نحو أسبوعين، عن مشروع جسر الملك سلمان بن عبد العزيز بين السعودية ومصر، بل بين آسيا وأفريقيا، إعلانًا غير مباشر عن أول نجاح استراتيجي لولي ولي العهد وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان. الزيارة الملكية سبقتها جهود تمهيدية وتفاوضية ضخمة قادها الأمير الشاب. راوغ الفشل مرارًا. عدة زيارات ولقاءات سرية وشبه سرية إلى مصر، أفضت إلى الهندسة الناجحة للرحلة التاريخية للعاهل السعودي، التي بها سيؤرخ لزمن عربي جديد. بل لعروبة جديدة.
من مفارقات التاريخ أن تتزامن الزيارة مع مشارف الاحتفالات القومية المصرية بتحرير سيناء. خسرت مصر شبه الجزيرة الاستراتيجية ضمن خسائر هزيمة 1967، فكانت سنوات حرب الاستنزاف الثلاث، ثم مشروع روجرز، ثم عبور خط بارليف في حرب 1973، ثم كامب ديفيد، ثم استعادة سيناء، ثم طابا.. ثم جسر العبور الأخير!
مشاريع البنية التحتية والإسكان المرصودة لسيناء، والرهانات المعقودة على الجسر، هو عبور إلى المستقبل، بواحد من أدق مفاصل الجغرافيا السياسية في المنطقة والعالم، واستعادتها من رهانات الإرهاب الذي يسعى لتأسيس موطئ عدوان فيها على أمن مصر وأمن العرب!
في مقابلته مع قناة «العربية»، لتقديم الخطوط العامة لـ«رؤية السعودية – 2030»، حدد الأمير محمد ثلاث مناطق قوة للحضور السعودي، وتوقف بتفصيل لافت عند المكون الثالث، وهو الموقع الجغرافي، مشيرًا إلى فرادة السعودية في تحكمها بأهم 3 مضايق بحرية في العالم، حيث يمر 30 في المائة من التجارة العالمية البحرية. أشار بالاسم إلى جسر الملك سلمان المرشح أن يكون المعبر البري الأهم في العالم، ولمح إلى استراتيجيات موضوعة للاستثمار في الخدمات اللوجيستية، سواء في الطيران أو الموانئ أو المجمعات الصناعية، كما إلى خطط الربط بين دول الخليج ومصر والأردن.
الرؤية أوسع بلا شك. أكثر تفصيلاً. وستزداد اتساعًا وتفصيلاً كلما اقتربت من مراحل تنفيذية دقيقة وعميقة. لكن هذين تفصيلان مركزيان في فهم اللحظة الوليدة في المملكة العربية السعودية. الجسر وموقع المكون الجغرافي في الرؤية.
على نحو ما، نحن أمام مشروع إعادة تأسيس، يقوده الحفيد الأكثر شبهًا بالجد المؤسس، الملك عبد العزيز، بحسب الملاحظة الحاذقة للإعلامي تركي الدخيل.
جسورٌ، وليس جسرًا طور البناء، هو ما سيشهد عليه جيلنا، الذي صار بوسعه الادعاء أننا أمام قائد عربي جديد، بلغته وأسلوبه وأولوياته. من السهل جدًا السقوط في فخ الابتذال في مديح الأمير محمد، وهذا من محاذير الكتابة حول من هم في دائرة الضوء. لكن ما يسهل مهمة الكتابة عنه أنه امتدح نفسه بالحضور والثقة وطاقة توليد الأمل أكثر مما يمكن لقلم أن يضيف إلى رصيده.
لا تنتهي دلالات الجسر! ولاّد معانٍ كيفما وليت وجهك. القيادة نفسها جسر. يعبر القائد بناسه، بأمته، ببلاده، من حال إلى حال. من حيث هم إلى حيث يرغبون أو لا يرغبون. يتوقعون أو لا يتوقعون. السياسي ينقاد لموجبات استطلاعات الرأي العام. القائد يصنع الرأي العام ويُشكله خلف مشروع ورؤية. السياسي يقيم الآن هنا! القائد يقيم في غدٍ قيد الصناعة ومستقبل قيد الإنجاز.
في الداخل، هو جسر بين ثقافتين. يعيد صياغة منظومة القيم في سياق رؤية متكاملة لـ«السعودية الجديدة»، كما وصفها «مانشيت» هذه الصحيفة، الثلاثاء الماضي.
جسر بين ثقافة الصمت وتقديس الخصوصية، وثقافة الشفافية بما تعنيه من تعرض لأشعة الضوء. ليس بغير دلالة مثلاً أن السعوديين أكثر إقبالاً على «تويتر» من «فيسبوك». الأول يتيح للرأي أن يصل من دون أي تنازل عن خصوصية القائل. «فيسبوك» هو في المكان المناقض تمامًا. تزدهر صفحاته بقدر ما تكشف عن خصوصيات أصحابها، صورًا وفيديوهات وأسلوب عيش ومقتنيات وأحوالاً وغيرها!
في «مملكة الصمت»، كما لطالما وصفت المملكة، يطلب الأمير الشاب أن يبقي صحافي «بلومبيرغ» التسجيل جاريًا، خلال المقابلة التي أجريت معه، مقاطعًا طلب مستشاره المالي، محمد آل الشيخ، أن يوقف التسجيل ليدلي بدلوه حول مقادير الهدر في الإنفاق.
وفي مقابلته مع «العربية»، وجه انتقادات واضحة للهدر في الإنفاق العسكري، وأعرب عن عدم رضاه عن تصنيف الجيش السعودي.
وفي الداخل أيضًا، هو جسر بين مكونات الهوية السعودية بعمقها العربي والإسلامي، ومكونات الهوية السعودية الوطنية الحديثة، التي لا يمكن أن تماشي سياسة الاندماج مع العالم من دون إعادة تأهيل القيم، لا سيما ما نُسب منها إلى الإسلام، من دون أن يكون نسبها الإسلامي موقع اتفاق بين الفقهاء والعلماء. وهو يدير معركة التجسير هذه ببراغماتية عالية، كما يدل موقفه من قيادة المرأة للسيارة مثلاً. يحاجج الإسلاميين من قلب الإسلام نفسه، حين يقارن بيسر بين ركوب المرأة للجمال أيام النبوة، وجواز ركوبها «للجمال المعاصرة»، أي السيارات!
هذه معركة على ساحة القيم. كل رحلة فيها بين نقطتين، تتطلب أجيالاً، لكنها مع الأمير محمد تجري في سياق واحد متكامل.
هو الحكاية. حكاية الجسر، بين السعودية والسعودية.
جسر العبور بين أمس المملكة وغدها.
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”