في الدول العادية، أي غير الملهمة بالأفكار الثورية، يذهب حكم في موعده فيرثه حكم آخر. يغيِّر الحكم الجديد الوزراء والسفراء، لكنه لا يغيِّر المشاريع ولا يقلب الدولة ولا يمحو أعمال أسلافه، ولا يلغي أسماءهم عن المباني التي شيَّدوها. يتسلّم الحاكم الآتي الحكم من الحاكم الذاهب في احتفال عام، ويشكر الثاني الأول على ما أنجز. ويتسلم الوزراء الجدد أعمالهم من السابقين. ويعمل الجدد على الاستمرارية، لا على النقض ولا على التدمير.
هذه ليست بطولات خارقة. هذه أعمال روتينية عادية وبسيطة مبسطة. لذلك، يقوم شيء يسمى تراث المقارنة. إذا أردت أن تعرف مقياس النمو تقارنه بالنمو السابق. إذا أردت أن تعرف مدى تحسن العناية الطبية، تقارنه بالمستوى السابق.
هذه بديهيات في فنلندا وفي كوستاريكا وفي بريطانيا. أما الثورات الملهمة فلا تعترف بمثل هذه العادات الخالية من العبقرية والإبداع. لا بد أن تلغي كل ما سبق. ترسله إلى «مزبلة التاريخ»، لتبدأ من جديد. تلغي الاقتصاد، وتلغي الصحافة، وتلغي السياسة، وتلغي الفنون. وبعد أن تنتهي من إلغاء كل ما سبق، تبدأ في إلغاء كل ما لحق، وتصل المسيرة الكبرى إلى نتيجة واحدة: إلغاء الوطن والدولة.
تنمو دول عادية مثل الدنمارك، أو نيوزيلندا، من عام إلى عام. الأولى جاءها 30 ألف طبيب ألماني للعمل. الثانية أكبر مصدِّرة ألبان في العالم. الإكوادور التي كانت رمز التخلُّف، تغري الأميركيين بالتقاعد عندها بسبب تقدمها الطبي. التشيلي دولة بلا ديون وبلا هموم ونموها مثل بيغ بن: إلى الأمام على الدوام.
لا يؤدّي الندم إلى شيء لأن الزمن، وقياسه بيغ بن وضرباتها المهيبة، لا يتوقف ولا يعود. ولكن ماذا لو أن ثورة 23 يوليو (تموز) قررت أن تصرف همها إلى مصر؟ إلى تأميم القناة وتطوير صناعة القطن وإرسال مدرسين إلى اليمن، بدل الجنود وتحويل «صوت العرب» إلى «جامعة مفتوحة» للعرب تعلمهم الجغرافيا والآداب، ولا تدخل في صراعات العراق وسوريا؟ وماذا لو أن «ثورة الثامن من آذار» أبقت على زراعة القمح؟ وماذا لو أن العراق أرسل المزيد من المعلمين والأطباء إلى الأرياف بدل إرسال ضباط المخابرات إلى موريتانيا؟
سوف يقال: ولكنّ هناك واجبا قوميا إلى جانب الواجب الوطني. صحيح. لكنهما متشابهان. كلاهما يقوم على مقياس واحد، هو التقدم الإنساني. هذا الذي يحدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن، هو نتاج ثقافة واحدة قامت على الثورة الإلغائية التي تجيد تدمير كل شيء من دون أن تبني شيئا مكانه. وظيفة الحكم أن يؤمن الاستمرارية بين ما قبل وما بعد. الثورات لا تؤمن سوى نفسها، لا قبل ولا بعد. النتيجة دائما واحدة.
نقلا عن الشرق الاوسط
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- #سورية الثورة وتحديات المرحلة.. وخطر #ملالي_طهرانبقلم مفكر حر
- #خامنئي يتخبط في مستنقع الهزيمة الفاضحة في #سوريابقلم مفكر حر
- العد التنازلي والمصير المتوقع لنظام الكهنة في #إيران؛ رأس الأفعى في إيران؟بقلم مفكر حر
- #ملالي_طهران وحُلم إمبراطورية #ولاية_الفقيه في المنطقة؟بقلم مفكر حر
- بصيص ضوء على كتاب موجز تاريخ الأدب الآشوري الحديثبقلم آدم دانيال هومه
- آشور بانيبال يوقد جذوة الشمسبقلم آدم دانيال هومه
- المرأة العراقية لا يختزل دورها بثلة من الفاشينيستاتبقلم مفكر حر
- أفكار شاردة من هنا هناك/60بقلم مفكر حر
- اصل الحياةبقلم صباح ابراهيم
- سوء الظّن و كارثة الحكم على المظاهر…بقلم مفكر حر
- مشاعل الطهارة والخلاصبقلم آدم دانيال هومه
- كلمة #السفير_البابوي خلال اللقاء الذي جمع #رؤوساء_الطوائف_المسيحية مع #المبعوث_الأممي.بقلم مفكر حر
- #تركيا تُسقِط #الأسد؛ وتقطع أذرع #الملالي في #سوريا و #لبنان…!!! وماذا بعدك يا سوريا؟بقلم مفكر حر
- نشاط #الموساد_الإسرائيلي في #إيرانبقلم صباح ابراهيم
- #الثورة_السورية وضرورات المرحلةبقلم مفكر حر
- هل تعديل قانون الأحوال الشخصية يعالج المشاكل الاجتماعية أم يعقدها.. وأين القيم الأخلاق من هذه التعديلات ………..؟بقلم مفكر حر
- تلغراف: تأثير #الدومينو علی #ملالي_إيران وتحولات السياسة الغربيةبقلم حسن محمودي
- الميلاد آتٍبقلم مفكر حر
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #سورية الثورة وتحديات المرحلة.. وخطر #ملالي_طهران
أحدث التعليقات
- عبد يهوه on اسم الله الأعظم في القرآن بالسريانية יהוה\ܝܗܘܗ سنابات لؤي الشريف
- عبد يهوه on اسم الله الأعظم في القرآن بالسريانية יהוה\ܝܗܘܗ سنابات لؤي الشريف
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر