علي الكاش
كاتب ومفكر عراقي
القضاء لغة يُقصد به الحكم، وكذلك الفراغ، ومن الناحية الفقهية يُقصد به الفصل في النزاعات بين جهتين متخاصمتين وفقا للشرع أو الإجتهاد في حال عدم وجود نص قرآني أو نبيوي صريح أو حالة سابقة مشابهة يُقاس عليها الحكم في النزاع. وقد تولى الرسول(ص) مهمة القضاء في حياته، وعندما تتعسر عليه حالة ما، كانت الملائكة توحي تسعفه بحلها. ونظرا لتوسع رقعة الإسلام فقد أرسل النبي(ص) بعض الصحابة كعمال في الأمصار البعيدة وتولوا مهمة القضاء أيضا كواجب ثانوي، ومنهم معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب. وفي خلافة أبي بكر الصديق تولى عمر بن الخطاب مهمة القضاء، لذا فهو أول قاضِ في الإسلام، وبقي عاما كاملا في منصبه دون أن يفصل بأية قضية مما يدل على النهج العادل الذي سار عليه أبو بكر الصديق. وعمر الفاروق هو أول الخلفاء الذي كتب في القضاء بعد أن أرسل بعض الصحابة إلى الأمصار ومنهم أبو الدرداء وأبو موسى الأشعري. وتعد رسالته إلى الصحابي الأشعري من روائع الكلم لما تضمنته من أحكام ونصح ومواعظ وهي:
“أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له واسٍ بين الناس في وجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه، فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعماءِ. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في نسب أو ولاء. فإن الله سبحانه عفى عن الإيمان ودرأ بالبينات وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر والسلام. (مجلة المقتبس ج45/1 عام1909).
وسار علي بن أبى طالب على نفس النهج العادل لمن سبقوه من الخلفاء الراشدين فقد أوصى عاملة على مصر الأشتر النخعي بمحاسن الكلم” إختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأَوْقَفَهُم في الشبهات، أَّخذْهُم بالحجج، وأقَلُهُم تبرماً بمراجعة الخصم ، وأصبَرُهُم عَلَّىْ تَكَشُفْ الأمور، وأَصرَمُهُم عند اتضاح الحق، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستمليه أغراء، وأولئك قليل، ثم أَكْثِر مِن تعاهد قضائه، وأفسح له من البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.فانظر بذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار، يُعمَّلُ فيه بالهوى، وتُطلَّبُ به الدنيا. ثم انْظُر في أمور عُمَالِكَ، فاستَعمِلْهُم اختباراً، ولا تولهم محاباةً و أِثرة، فإنهم جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الجور والخيانة .وتوخ منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة، والقِدَم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً، و أقل في المطامع أشرافاً وأغلب في مواقع الأمور نظراً. ( نهج البلاغة/ ج 4)
السلطة القضائية من الصعوبة والتعقيد بحيث رفض توليها كبار الفقهاء والعلماء منذ فجر الإسلام مع قوة معرفتهم بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وقدرتهم على القياس والإجتهاد والتقصي، وقد تجلت خطورتها في الحديث النبوي الشريف” القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس عَلَى جهل فهو في النار”. ويحدثنا التأريخ عن إعتذار الكثير من العلماء والفقهاء عن مهمة القضاء، بل إن بعضهم تنكر بمهن غير لائقة لشخصه ليبعد عن هذه المهمة الشاقة. فأبو حنيفة النعمان مثلا ضربه يزيد بن عمر بن هبيرة الفرازي ـ أميرالعراقيين ـ مائة وعشرة أسواط، وكل يوم عشرة أسواط أخرى، وذلك لما أراده لقضاء الكوفة أيام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، فأبى وبقي على الامتناع، وسجنه وتوفي في السجن.
ومن طريف ما يحدثنا به أبو القاسم الحسن النيسابوري” أن رجلاً آلى بيمين أن لا يتزوج حتى يستشير مائة نفس لما قاسى من بلاء النساء فاستشار تسعة وتسعين نفساً وبقي واحد فخرج على أن يسأل أول من نظر إليه فرأى مجنوناً قد اتخذ قلادة من عظم، وسوّد وجهه، وركب قصبة، فأخذ رمحه فسلم عليه وقال: مسألة. فقال: سل ما يعنيك، وإياك وما لا يعنيك! فقلت: مجنون والله، ثم قلت له: أني أصبت من النساء بلاء وآليت أن لا أتزوج حتى أستشير مائة نفس وأنت تمام المائة. فقال: أعلم أن النساء ثلاثة واحدة لك وواحدة عليك وواحدة لا لك ولا عليك فأما التي لك فشابة طرية لم تمس الرجال فهي لك لا عليك إن رأت خيراً حمدت وإن رأت شراٌ قالت كل الرجال على مثل هذا وأما التي عليك فامرأة ذات ولد من غيرك فهي تسلخ الزوج وتجمع لولدها وأما التي لا لك ولا عليك فامرأة قد تزوجت قبلك فإن رأت خيراً قالت هكذا تجب وإن رأت شراً حنت إلى زوجها الأول. فقلت: ناشدتك الله ما الذي غير من أمرك ما أرى قال ألم اشترط عليك أن لا تسأل عما لا يعنيك فأقسمت عليه فقال: إني رُشّحت للقضاء فاخترت ما ترى على القضاء. قلت: وقد فعل ابن الهيثم الرياضي الفيلسوف المشهور مثل هذا وتجانّ ليكون له حرية يتمتع بها في خدمة العلم”. (عقلاء المجانين).
ومع إختلاف الزمان والمكان وتطور المجتمعات البشرية وتغير طبائع البشر، وحدوث الثورات التي أفرزت دساتيرا مهمة للأمم، لم تزل مهمة القضاء عسيرة، بالرغم من صدور قوانين وضوابط تسهل مهمة القاضي إلى أبعد الحدود. وقد تضمنت معظم دساتير الدول نصا بفصل السلطات الثلاث عن بعضها البعض لضمان الإستقلالية في العمل. ورغم أهمية السلطة التشريعية بإعتبارها أعلى سلطة في البلد، لكن الفصل في الخلافات الدستورية أوكل إلى السلطة القضائية. ونظرا بما يتمتع به القضاء من دعم أو نقض قرارات السلطتين التشريعية والتنفيذية، لذلك غالبا ما تغازل السلطة التنفيذية السلطة القضائية لتتلافي معارضتها أو تؤمن جانبها على أقل تقدير.
في العراق المحتل كانت السلطة القضائية واحدة من فصول مهزلة المحاصصة الطائفية التي حاكتها إدارة الإحتلال، وصاغتها ضمن دستور هو أشبه ما يكون بحقل الألغام. مع إن الدستور العليل نفسه قد فصل بين السلطات الثلاث وقضى بإستقلاليتها، لكن الحقيقة هي خلاف ذلك. فالسلطة القضائية والسلطة التشريعية أشبه بمداسين متهرئين تحتذيهما السلطة التنفيذية في العراق. والتجربة القضائية في العراق الجديد تُعد من المضحكات المبكيات. وبقدر ما هي مهزلة فإنها فاجعة في الوقت ذاته. لأنها أحكامها تجافي تعاليم الدين وروح الدستور والقيم الأخلاقية. إن القضاء الذي يعتمد على وشايات المخبر السري ويؤمن له الحصانة التامة، ولا يوجب إحضاره خلال المحكمة أشبه بقضاء قطاع الطرق والمافيات الإجرامية. والمخبرون السريون هم من أرذل وأجهل الناس، إنهم جواسيس الحكومة على شعبها، وظيفتهم الإفتراء والكيد والوشاية على الناس الأبرياء، بعيدون عن رقابة الدين والضمير. رزقهم مغمس بدماء الأبرياء.
كثير من العراقيين ينتقدون السلطة التنفيذية على فسادها المالي والإداري والأخلاقي الذي أزكم الأنوف، لكنهم نسوا بأن السلطة القضائية هي التي كانت وراء هذه المهازل جميعا، وذلك عندما أقصت الكتلة الفائزة في الدورة الإنتخابية الأولى بقيادة أياد علاوي وجيرت الشيك المزور لصالح المالكي. من أول يوم باعت السلطة القضائية جسدها للسلطة القضائية وتصرفت كالبغايا. وتوالت وتكاثرت فضائحها يوما بعد يوم. فهناك عشرات الألوف من المعتقلين الأبرياء يرزحون تحت وأدة التعذيب في المعقلات دون مذكرات قضائية، ولكن برضا السلطة القضائية الساكتة بل والناكرة وجودهم، ووجود السجون السرية والإعتقالات العشوائية والتعذيب والإغتصاب في السجون، والمتغاضية عن حيتان الفساد الكبيرة وحالات التزوير عند النواب والوزراء، وهي تغض النظر عن حرائق ملفات الفساد في مؤسسات الدولة الفاشلة، وتبرأ المجرمين من أمثال حاكم الزاملي وعلي الزناني وخضير الخزاعي وباقر صولاغي وغيرهم من المسؤولين في الدولة.
إن القضاء الذي برأ كريم السوداني وأيهم السامرائي وحاكم الزاملي والمئات من شاكلتهم وحدٌ أسنانه الصفراء الكاسرة على المستضعفين الذي ليس لهم إلا العناية السماوية لا يُجدى منه خيرا. إنه قضاء الحكومة وليس قضاء الشعب. وهذا القضاء المسيس ربما يبدو طبيعيا في الدول الفاشلة والتي يحكمها سفلة المجتمع. لأنه في الدولة الفاشلة يكون بناء السلطة القضائية واهيا مثل خيط العنكبوب يقع في شباكه الصغار ويفلت منه الكبار.
وهذا ما شهدناه في قضائنا المسيس كليا لمالكي وعائلته وزمرته فهم يمتطون القضاء كأنه جحش الحكومة، وكذلك بالنسبة لحزب الدعوة ورعناصره، والمجلس الأعلى وعناصره، وكذلك الصدر واليعقوبي وبقية المجرمين المنضوين تحت أجنحتهم المهيضة. ويمكن القول بصراحة إن القضاء يصطبغ بنفس صبغة الحكومة الطائفية، وهذا ما لاحظناه بوضوح في قضية النائب أحمد العلواني الذي أسره المالكي قبل أن يصدر القضاء مذكرة بحقه، بل جاءت المذكرة بعد الإعتداء عليه كإسقاط حجة لا أكثر! وقُتل أثناء إعتقاله عددا من أفراد عائلته وعناصر حمايته. بالطبع لم بعتقل أي من قطعان المالكي عن جريمتهم النكراء. الطريف إن اللجنة القانونية في البرلمان تشير إلى الإزدواجية في احكام القضاء بقولها” مشعان الجبوري كان قبل مدة من المطلوبين للقضاء كونه يمتلك قناة تشجع على الارهاب، لكنه الان سيشارك في الانتخابات القادمة بعد ان تمت تبرئته من هذه التهم، بعد تقربه من الحكومة”. قاعدة ديمقراطية جدا في دولة القانون وهي: كلما تقربت من الحكومة، كلما أمنت جانب القضاء!
لا غرابة في الأمر! فخلال الأيام الماضية قامت مفوضية الإنتخابات وهي ذات صفة قانونية بإستبعاد بعض النواب والنائبات الحاليين من الترشيح للإنتخابات القادمة لإفتقارهم إلى الأدب والأخلاق، مع إنها حالة طبيعية لا تقتصر على هولاء الفقط، ففضائح مجلس النواب والحكومة لا يضايها سوى فضائح القضاء نفسه والمرجعية الدينية! وهناك العشرات من الأفلام الداعرة المنتشرة في المواقع يمكن من خلالها معرفة الإنحدار الأخلاقي الذي وصلوا إليه زعماء العراق الجديد والمرجعية الدينية. ولكن العارفين ببواطن الحكومة والقضاء إستهزأوا من القرار لمعرفتهم بالنتيجة، وفعلا لم يمضِ سوى ثلاثة أيام فقط، وإذ بالقضاء يتقض بسرعة البرق القرار ويسمح بترشيحهم. عليكم اللعنة ثلاثة أيام وتنقضون القرار! وهناك المئات من المعتقلين والمعتقلات لم يعرضوا على المحكمة أو ينتظرون قرار المحاكم بقضاياهم منذ عشر سنوات!
بلا شك إن أي قرار يصدره القضاء سريعا يكون مفتقرا لروح العدالة، واذا ألغاه بنفس السرعة، فهذا ما يسمى بتخبط العدالة. لا خيرفي قضاء يتسع صدره للأقوياء ويضيق صدره للضعفاء، ولا خير في قضاء كانت الناس تفزع إليه طلبا للعدالة واليوم تفزع منه طلبا للأمان. يحكى بأن حمارا هرب من غابته إلى غابة أخرى فلما سألوه عن سبب هروبه! قال لأن قاضي الغابة قرر قتل كل الذئاب. قالوا لكنك حمارا ولست ذئبا؟ قال هذا صحيح! لكن من يستطيع أن يفهم القاضي هذا الأمر! نترك تفسير الحكاية لمدحت المحمود من قبل المالكي ومدحت المذموم من قبل الشعب. ونقول له: لا نخشى الذئب اذا صار أرنبا! ولكن نخشى الأرنب إذا صار ذئبا!
لقد ظلم القضاء في العراق الجديد الآلاف من الأبرياء، وتجاهل القضاة الذين نامت ضمائرهم تحت ردم التهاون وإنعدام البصيرة بأن هناك ربأ عظيما يرصد أفعالهم، ربٌ جبار عادل، يحب المظلوم بقدر ما يكره الظالم، ويستجيب لدعاء المظلوم، ويلبي دعوته على الظالم. وقد صدق الشاعر بقوله:
لا تظــلمنَّ إذا مـا كنـتَ مُقْتَــدِرًا
فالظلـم ترجـع عُقْبَاهُ إلى الـنَّـــدَمِ
تنـام عيـناك والمظلـوم مُنْتَبِـــــهٌ
يـدعو عليـك وعَيـنُ الله لم تَـنَــمِ
يا قضاة العراق! لقد إستخففتم بتعاليم الله تعالى كما جاء في سورة النحل/90 (( إن الله يأمر بالعدل والإحسان)). وبقوله تعالى في سورة الأنعام/152((وإذا قلتم فأعدلوا ولو كان ذا قربى)). وبأحاديث رسوله المصطفى(ص)” إيها الناس! إنما هلك من قبلكم، إنهم كانوا إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”. وبقوله” العدل أحلى من الشهد، وألين من الزبد، وأطيب ريحا من المسك”. وأستخففتم بدستوركم العاق، وبالمباديء الأخلاقية، وبحقوق المواطنين. فكنتم بحق أولاد إبليس البررة. ضُعتم وضًيعتوا غيركم. يا ويلكم من عذاب لم تحسبوا له حسابا!
علي الكاش