مرت ساعات النهار ثقيلة, ولم يأتي زبون واحد لمحل الاسكافي أبو علاء, الكائن في سوق حي النصر, احد أكثر أحياء بغداد فقرا, وسوق حي النصر يذكر كل من يشاهده بأسواق قريش ودهاليز الحيرة, كأن التطور توقف عند حدود بغداد, ولم يتقدم مترا باتجاه حي النصر, فهو سوق ولد في سنوات البعث, واكتمل نموه الشاذ في سنوات التغيير, كل شيء فيه يدلل على القهر والفوضى, شوارعه المتموجة, ودكاكينه العشوائية, وقذارته التي لا ينظف منها, وتزاحم المساكين ممن نساهم السلاطين, ليعيشوا بين حفر الفقر والحاجة.
تعب الاسكافي من الانتظار, نظر الى أدواته المبعثرة بشكل فوضى عارمة, فقرر أن ينظم محله ويرتب أدواته, رمى بباقي سيكارته الرخيصة على ارض المحل المتربة, ونهض من كرسيه بالدعاء وطلب العون الإلهي (يا الله), وبدا بجمع قطع الجلد والأحذية المثقوبة والمفتقة, لكن أفزعه جرذ قفز من بين كومة الأحذية, لينطلق نحو دكان الألبان لجاره في السوق, فتحسر لأنه لم يقتله.
بقي يفكر في سبب مزاحمة الحيوانات الشريرة لبيوت الفقراء, وعدم دخولها بيوت الوزراء والأثرياء, فهل يعقل أن في بيت صالح المطلك فئران, أو في قصر ظافر العاني جرذ, ولا اعتقد أن في غرفة نوري المالكي أبو بريص, فقد تكون جواسيس عالم الشر, وقد تكون هذه المخلوقات تعرف أننا فقراء فتسكن معنا, لأنها تحتقر الأغنياء ولا يطيب لها العيش معهم,أي تتحسس أن قصورهم وطعامهم من حرام.
جلس صامتا على كرسيه العجيب, الملفوف بقطعة قماش سوداء متسخة, واحد أرجله مكسور, وقد وضع مكان الكسر حجر كبير, أفكاره تتنقل بين دينٌه الذي لا ينقضي, وفي سقف البيت الذي يحتاج لصيانة, وفي هوية الأحوال التي فقدها منذ أشهر, هموم لا تحلها إيرادات المحل البائسة, بصق في الأرض ولعن الساسة فردا فردا, بعضهم شتمه بصوت عال وبعضهم لعنه بخفوت, فالخوف يكاد يخنق حنجرته, انه الخوف الذي يطارده منذ طفولته, والى اليوم وهو ناهز الخامسة والأربعون.
قطع حبل أفكاره طفل يهرول وهو يبكي, ورجل ضخم كبير السن يهرول وراء الطفل وهو يصيح:
– ابن الكلب, قف, ابن القحبة لقد وسخت حذائي أيها الداعر.
وتزحلق الرجل الضخم في الوحل, ليتشبع ذلا وقهرا, وغاب الطفل عن أنظارنا, لقد أفرحني سقوط هذا البرجوازي اللعين في الوحل, انه نتاج الفوضى التي رفعت بعض الحثالات, انه نظام لعين الذي يرفع السفهاء, ويزيد من تعاسة العقلاء والفقراء.
أشعل سيكارة أخرى, وسحب نفسا عميقا, بقي يفكر : ( كنت دوما اتسائل عندما تموت أرادة شعب ما, هل تتدخل السماء لتحقيق العدل, أم تترك الشعب الفاقد للإرادة يسحق ويموت أكثر), سكتت أفكاره عن الحركة, شاهد فارا قريب من طعامه, أسرع بقذف حذاء مفتت فولت هاربة, صارح نفسه وهو يشعر بانكسار: (أن الأفكار الوطنية نتاج البطالة, لو كنت ألان اعمل لما أعاني من التفكير بالوطن والمجتمع وسر غياب العدل).
حيرني بالأمس ابن أخي الطالب الجامعي عندما نعتني بالسايكوباتي,وخجلت من بشاعة مقصده, فالسايكوباتي هو شخص سريع الغضب ويمكن إثارته بسهولة ولأتفه الأسباب, وعنده دوافع جنسية الى حد لا يصدق, فهل أطلقها علي بعد أن شتمته وكدت اصفعه, بسبب كسره لأناء جدتي الأثري, أو أطلقها علي لأنه يعلم بعلاقاتي المتعددة بسهير وتماره وسعاد ونورة.
فجاء ظهر زبون, وانتهى قطار الأفكار, وعادت الروح لعالم الواقع.
– السلام عليكم, كيف حالك أبو علاء؟
أشرق وجه أبو علاء فلقد كسر نحس اليوم, وها هو أستاذ حسن معلم الرياضيات في المدرسة الابتدائية زبونه الأول, ( يا الله أن حظي تغير ألان ).
– وعليكم السلام, أهلا بالأستاذ حسن.
نزع أستاذ حسن حذائه المثقوبة, طالباً أصلاحه, فيصعب على المعلم شراء جديد, بل يحتاج الى جدولة مصاريف راتبه الشهري, قبل الشروع بهكذا خطوة جبارة.
– أبو علاء, أرجوك أصلحه بحيث يعود لائقا, صار عمر الحذاء سنة واعلم أن عمره الافتراضي انتهى من زمان, لكنها حياتنا التعيسة التي لا مهرب منها, والتي خطها لنا الساسة, كسجن كبير من دون قضبان.
– سأفعل ما يطيب خاطرك, فقط اشرب هذا الشاي المهيل, من زمان لم أرك.
تنهد المعلم طويلا, الهم يخنقه, كان يبدو عليه التعب, عينه بلون الدم ووجه شاحب, مما اثأر التساؤلات في داخل الاسكافي:
– يبدو عليك التعب والسهر, هل هناك أمر ما, أنا صديقك القديم, اخبرني؟
– الراتب لا يكفي والتزامات عائلتي تتوسع, والحكومات دوما لا ترحم, بل هي هم أخر علينا تحمله والصبر عليه.
أكمل ترقيع الحذاء, أعطاه للأستاذ حسن ليلبسه, ثم أشعل سيكارة ونفخ دخانها في فضاء الدكان, والتفت للأستاذ حسن:
– انه سجن كبير, وعلينا تنفيذ أدوارنا بدون اعتراض, فالكل في عملية سحق منظمة, مثلا ها أنت براتب بائس, بالكاد يسد احتياجاتك, بالمقابل نائب الرئيس العاطل عن عمل لان منصبه تشريفي, يستلم عشرات الملايين شهريا, هكذا نعيش زمن الغربة والظلم, أتعرف أن حجي عذاب توفي فقط لأنه لا يقدر على شراء العلاج, ومقابل هذا الظلم, هنالك سياسي ثري عالج مؤخرته بستين مليون دينار وعلى حساب الدولة, فانظر لعظيم الظلم الذي يحيط بهذه الأرض, أنها مهزلة, أحيانا أقرر أن اسكت فالكلام يثير الجراح, ومواطن الألم كثيرة.
– نعم أنها ماساتنا الأبدية, نموت وهي لا تموت, شكرا على الشاي,كان لذيذا, ما شاء الله لقد عادت الحذاء كيوم خروجها من المصنع, بوركت يداك.
قاربت الشمس على المغيب, وانتهى يوم من حياة السوق, جمع أبو علاء حاجياته, عد دنانير إيراده فكانت سبعة ألاف دينار فقط, بقي غارق في حساباته, ( طماطة بألف دينار, خبز بألف دينار, وألف دينار لشراء بصل, وشريط حبوب الصداع بألف دينار, وألفين اجمعها لإيجار المحل, وإلف أحفظه للطوارئ) صمت وقال (طوارئ بألف أي طوارئ تحل بألف دينار) وقهقه عالياً, أغلق باب محله وأسرع يحث الخطى في درابين السوق الغارقة بالوحل, يحاول أن يحل طلاسم الحياة العجيبة, التي قدرت له ولأمثاله الحظ السيئ دائماً.
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- #سورية الثورة وتحديات المرحلة.. وخطر #ملالي_طهرانبقلم مفكر حر
- #خامنئي يتخبط في مستنقع الهزيمة الفاضحة في #سوريابقلم مفكر حر
- العد التنازلي والمصير المتوقع لنظام الكهنة في #إيران؛ رأس الأفعى في إيران؟بقلم مفكر حر
- #ملالي_طهران وحُلم إمبراطورية #ولاية_الفقيه في المنطقة؟بقلم مفكر حر
- بصيص ضوء على كتاب موجز تاريخ الأدب الآشوري الحديثبقلم آدم دانيال هومه
- آشور بانيبال يوقد جذوة الشمسبقلم آدم دانيال هومه
- المرأة العراقية لا يختزل دورها بثلة من الفاشينيستاتبقلم مفكر حر
- أفكار شاردة من هنا هناك/60بقلم مفكر حر
- اصل الحياةبقلم صباح ابراهيم
- سوء الظّن و كارثة الحكم على المظاهر…بقلم مفكر حر
- مشاعل الطهارة والخلاصبقلم آدم دانيال هومه
- كلمة #السفير_البابوي خلال اللقاء الذي جمع #رؤوساء_الطوائف_المسيحية مع #المبعوث_الأممي.بقلم مفكر حر
- #تركيا تُسقِط #الأسد؛ وتقطع أذرع #الملالي في #سوريا و #لبنان…!!! وماذا بعدك يا سوريا؟بقلم مفكر حر
- نشاط #الموساد_الإسرائيلي في #إيرانبقلم صباح ابراهيم
- #الثورة_السورية وضرورات المرحلةبقلم مفكر حر
- هل تعديل قانون الأحوال الشخصية يعالج المشاكل الاجتماعية أم يعقدها.. وأين القيم الأخلاق من هذه التعديلات ………..؟بقلم مفكر حر
- تلغراف: تأثير #الدومينو علی #ملالي_إيران وتحولات السياسة الغربيةبقلم حسن محمودي
- الميلاد آتٍبقلم مفكر حر
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #سورية الثورة وتحديات المرحلة.. وخطر #ملالي_طهران
أحدث التعليقات
- عبد يهوه on اسم الله الأعظم في القرآن بالسريانية יהוה\ܝܗܘܗ سنابات لؤي الشريف
- عبد يهوه on اسم الله الأعظم في القرآن بالسريانية יהוה\ܝܗܘܗ سنابات لؤي الشريف
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر