كم هي مشاهد مؤلمة تلك التي رأيناها في تفجير الكنيستين في طنطا والإسكندرية. أطفال مبتهجون تمزقت أجسادهم أمام ناظري آبائهم وزوجان متماسكا الأيدي ودماؤهم تنزف، وشرطية تقف بسلام وفي لحظة تنتهي حياتها وتخسرها عائلتها للأبد.
آلام فظيعة خلّفها الاٍرهاب ليس على عائلات الضحايا ولكن على نفسية المجتمعات التي يضربها. من أسوأ اللحظات عندما يدفع أفضل البشر وأطهرهم حياتهم ثمنا لأكثر الناس لؤماً وشراً. السبب في كل ذلك، رغم كل محاولات التشويش والخلط، هو واحد: التطرّف. هو الرحم الوحيد الذي يولد منه الإرهابيون. بدون أن يُعالج هذا الوباء من جذوره ويجرّم مروّجوه ويجرّون إلى المحاكم، سنرى هذه الشياطين المتلفعة بالتقوى تتسلل إلى المساجد والكنائس والأسواق والمطارات وتحوّل أسعد اللحظات إلى أتعسها.
ولكن من المؤسف رغم كل التنديد بهذه العمليات الإرهابية، أننا نتعثر بسهولة بالأفخاخ الداعشية التي زرعها المتطرفون بطريقنا وفِي أحيان كثيرة من دون أن نعرف. من هذه الأفخاخ المتداولة هي الجملة يرددها البعض كحجة على المتشددين لكراهيتهم للمسيحيين – مثلا- يقول أحدهم: “ولكني أعرف صديق مسيحي على خلق رفيع وتهذيب عالي”. هذا الرد رغم ظاهره الدفاعي إلا أنه في حقيقته رد ملتبس ومجرد ذكره والاستشهاد به يؤكد على صحة أفكار المتطرفين الذين ينزعون الاستقامة والنزاهة من طوائف وأديان بعينها. وجود أفراد طيبين فيها هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة. بمعنى آخر، إذا كانت هناك قناعة كاملة ومترسخة بأن المسلم لا يختلف عن المسيحي، فليس هناك من الأساس داع للمحاججة أن هناك أشخاصا مسيحيين طيبي القلب لأن ذلك سيكون تحصيل حاصل.
هذا المستوى من الحوار والجدل في حقيقته يؤكد على أننا ندور في فلك الخطاب المتطرف حتى لو قمنا بانتقاده لأنه هو الذي وضع القواعد العامة للتفكير. هذا الخطاب يعتمد على رؤية الآخرين من خلال العدسات الدينية أو الطائفية وليست الإنسانية.
نقول إن هذا المسيحي أو اليهودي أو السني أو الشيعي طيب القلب وعذب اللسان، بينما الحقيقة أن هويته الفعلية التي تجمعنا به هي الهوية الإنسانية وهي الهوية الأساسية، وهي التي تجعلنا نشعر بالأسى لموته لأنه إنسان أولا وأخيرا. ولكن الخطاب المتطرف يرى في الآخرين فقط هوياتهم الدينية فقط وهو تعميق وترسيخ للانعزال والانقسام النفسي والشعوري ليس فقط نحو مجتمعات بعيدة، ولكن داخل ذات المجتمع الواحد الذي حتى في أشد الأوقات بحاجة للتماسك والالتحام، يقول أحدهم إنني أعرف مسيحيا طيب القلب ورفيع الخلق.. وهل في ذلك شك؟!. حتى عندما يموت الشخص نتيجة عمل إرهابي فإننا نصنفه على أنه مسلم أو مسيحي أو يهودي ميت، ولكن الحقيقة أنه الإنسان الذي مات.
عبارة “أعرف مسيحي” مثال فقط على عبارات كثيرة منتشرة، ولا يمكن أن تسمعها في ثقافات تجاوزت هذه النظرة الضيقة وتبنت القيم الإنسانية. عندما ارتكبت الجريمة الإرهابية في السويد لم نعرف ماهي ديانات وطوائف الضحايا لأن الدماء البشرية الحمراء التي أريقت على الأرصفة أو الشوارع هي واحدة، ولا توجد دماء دينية أو طائفية خضراء أو زرقاء. المتطرفون يجرّوننا حتى دون أن نعلم إلى حواراتهم ونرسخ بذلك أفكارهم الخاصة. حتى في الوقت الذي نعتقد أننا نندد بجرائمهم وأفكارهم، نقوم بترسيخها وبثها.