من قلب الفوضى إنبثقت الكينونة ، من العدم جاءت جايا ( آلهة الأرض )، أول ما ستفعله جايا ، أو آلهة الأرض هو أنها ستخلق اورانوس ، إله السماء ، ليؤنس وحدتها ويُبدد وحشتها ويشبع شبقها .
ستزني جايا ( الأرض ) بإبنها اورانوس ( السماء ) ، سيضاجعها اورانوس ، سيعتليها ، سيحيط بها ، إنها السماء تعتلي و تضاجع الأرض وتطوقها بإحكام من جميع الجهات ، لن تفلت منها إطلاقا .
ستقذف السماء بذورها في باطن الأرض ، وستحبل جايا من اورانوس سِفاحاً بالآلهة ( الجبابرة ) ، ستكون الآلهة أبناء زنا المحارم ، ولن يسمح لهم والدهم اورانوس بالخروج من باطن أمهم جايا خشية أن ينافسوه وينازعونه في الوهته ، سيُبقِي اورانوس قضيبه في أحشاء جايا وسيلتصق بها طيلة الوقت ليمنع أبناءه ( الجبابرة ) من الخروج من بطن أمهم جايا ، ولكن جايا تتألم من بطنها المنتفخ وتريد كذلك أن ترى أولادها ، فتوعز لهم بقتل أبيهم وتغريهم بالخروج إلى عالم النور ، فتمنح أحد أبناءها ( كرونوس ) منجلاً معدنياً ، و عندما يأتي والده ليضع قضيبه داخل أمه سيمسك ذلك الابن بقضيب أبيه بيده اليسرى وسيقطعه ( من لقاليقو ) بالمنجل ، وسيخرج هو وإخوته الجبابرة من بطن أمهم وستبتعد السماء عن الأرض ، أو اورانوس عن جايا ، وينشأ المكان ، وستُلعَن إلى الأبد اليد اليسرى التي قطعت قضيب الأب اورانوس ، وستُدمَغ بأنها يد الشيطان ، رغم أنها كانت يد أحد أبناء الآلهة .
وتستمر القصة المشوقة ويستمر الالهة في التناسل وتستمر كذلك الخصومات بين تلك الكائنات الإلهية لمختلف الأجيال ، حيث يعيد التاريخ نفسه ويتمرد على الجبابرة أبنائهم الأولمبيون كما تمردوا هم على أباهم اورانوس ، حتى يعهد الأولمبيون ل( زيوس ) أصغر آلهة الاولمب أن يفرض على الكون نظاما نهائيا ، ويسود النظام الكون في عهد زيوس ونأتي نحن . تلك كانت بإختصار قصة الميثولوجيا اليونانية القديمة التي رواها الشاعر هزيود في ملحمته ( أصل الآلهة ) ، عن كيف جئنا وما هي قصتنا
ولكن هناك قصة أخرى ، أخبرنا بها علماء الفيزياء والفلك والكيمياء والجيلوجيا والبايلوجيا ، بدت تلك القصة مملة حينما بدء اولئك العلماء في روايتها لنا ، بدءوا برص أرقام مملة وكتابة معادلات معقدة وصيغ ومصطلحات صعبة النطق ، نقبوا الأرض وحللوا عناصرها ، جمعوا بقايا أسلافنا العظمية وإقتفوا آثارهم ومخلفاتهم ، سافروا إلى السماء وراقبوا مئات الالاف من الكيلومترات من الفضاء ، ولكن المحصلة التي رووها لنا في النهاية قصة لا تقل إثارة وتشويقا بل وشاعرية وجمالية وروحانية من قصة هزيود عن أصل الالهة .
قال لنا هؤلاء العلماء بأن ما نعرفه عن قصتنا بدأ هناك بالأعلى ، بقلب النجوم العتيقة وليس من الأرض جايا ، اباءنا عمرهم ملايين السنيين ، اباءنا هناك في السماء ، لم يكونوا آلهة ، لكن كانوا نجوما بالمعنى الحرفي للكلمة ، نجوم طيبة لدرجة أن تضحي بنفسها من أجلنا ، طيبة ومعطاءة لدرجة أن تنفجر وتنشر شظاياها بالفضاء ، فلو لم تنفجر تلك النجوم وتفيض علينا بكرم وجذل بما في لُبِّها من الكربون والنيروجين والأكسجين والحديد لما كنا هنا الان .
نعم إنظر إلى أي عضو من أعضاء جسمك وستجد أنك تنظر إلى أجزاء من نجوم مختلفة وعديدة عمرها ملايين السنوات ، فالعديد من الذرات التي تتكون منها أجسامنا قد تخمرت في قلب نجم تفجر منذ ملايين السنيين ، نعم الحقيقة الأكثر شاعرية وجمالية هي أن جسمك يحتوي على بقايا كونية من لحظة ميلاد الكون .
لم تكتفي السماء بأن منحتنا اباء يضحون من أجلنا بحياتهم كالنجوم ، وإنما إستمرت أعطياتها وهداياها لتساعدنا على الوجود والبقاء ، فأرسلت لنا قبل 65 مليون سنة نيزكا ضخما يرتطم بأرضنا ويقضي على الديناصورات وعلى 75% من الحيوانات ليمهد الطريق للثدييات ، لأسلافنا ، للسيطرة على الأرض
ولكن لم تكن تلك الطيبة لتستمر ، فكما أراد اورانوس لأولاده أن لا يروا النور ، وأن يظلوا في جوف جايا ، بدا كما لو أن السماء لا تريدنا أن ننعم بأحضان جايا ، فالسماء ظلت تقصف الأرض وعلى مدى مئات الالاف من السنيين بالمذنبات والنيازك والكويكيبات ، وإلى اليوم نحن تحت تهديد 1400 كويكب كالذي تسبب في إنقراض الديناصورات تهددنا اليوم في كون يعج بالفوضى ، نجوم ومجرات تتصادم ، كون مليئ بانفجارات أشعة جاما القاتلة ، وثقوب سوداء تلتهم بشراهة ونهم كل ما في طريقها ، وملايين النجوم التي تنفجر سنويا ، و إنفجارات مفاجئة للبراكين على سطح الأرض ، إندلاع الزلازل ، تحرك الصفائح التكتونية ، الإنجرافات القارية ، التوهجات الشمسية ، العواصف المغنطيسية ، الأمطار الحمضية ، العواصف الرملية ، حرائق الغابات ، العصور الجليدية ، الفيضانات التي غمرت سطح الأرض ، بدا وجودنا اليوم بما يتضمنه من سلسلة المصادفات والصراعات التي خاضها أسلافنا تحدي سافر للسماء ، تحدي وقح للإرادة الكونية المشبعة بالمخاطر .
بدا وكأن الكون لا يرغب بوجودنا فأكثر من 70 % من العالم غير صالح لنعيش فيه لأننا لا نستطيع ان نعيش بالماء ولا نستطيع تحمل الضغط تحت بضعة عشرات الأمتار
بدا أن نسبة الإنقراض على الأرض منذ تواجد الكائنات الحية فيها تُقلص فرص وجودنا بشكل رهيب ، حيث يحدث إنقراض نوع واحد كل أربع سنوات ، أي أن 99% من أنواع الكائنات الحية التي عاشت على كوكب الأرض إنقرضت ومن الوارد جدا أننا كان يمكن أن نكون من ضمنها .
سلم زمني ضخم تطورنا خلاله إستغرق 3.7 مليار سنة تحركنا فيها من أصول وأشكال أولية للحياة على الأرض حتى نكون اليوم هنا بشر معاصرين نسأل عن كيف جئنا وإلى أين نمضي ، خاض أسلافنا صراعات ومعارك مع الطبيعة ، مع المفترسات ، نافسوا للحصول على قرين يضمن لهم الحفاظ على جيناتهم ، لتأتي أنت ، ملايين الأشخاص تعاونوا ، كافحوا ، تضاجعوا ، نجوا ، لتأتي أنت .
فلولا وجود والديك وتعاونهما لانجابك لما كنت هنا الان ، ولولا وجود والديهما لما كنت هنا
لن تستطيع بسهولة أن تجمع ديون الأسلاف ، فكلما رجعت للخلف ستتضاعف ديونك ، وسيزيد عدد من أنت مدين لهم بوجودك ، عد الى 200 سنة وستجد أن هناك أكثر من 250 شخصا يعتمد وجودك على زواجهم ، إرجع لما قبل 400 عام وسيكون لديك 16.384 من الاسلاف تناقلوا المادة الجينية التي أدت إليك في النهاية.
منذ 20 جيلا كان عدد الناس الذين تناسلوا لصالحك 1.048.576 شخص
منذ 25 جيلا كان وجودك معتمد على تعاون 33.554.432 شخصا
منذ 30 جيلا كان وجودك معتمد على تعاون 1.073.741.824 شخص
منذ 64 جيل زمن الرومان كان وجودك معتمد على تعاون مليون ترليون شخص
كان من الممكن أن لا تكون هنا الان لولا نجاة إحدى القوارض التي كانت تحمل جيناتك منذ ملايين السنيين من هجمة ديناصور أراد إلتهامها ، الاف بل ملايين الحوادث التافهة والمصادفات المستحيلة كان لها دور كبير في وجودك هنا والان ، بل لم تكن لتوجد لولاها ، إن بقاءك اليوم يحكي قصة كفاح ومعاناة ونجاة لعدد من الأنواع والكائنات .
لا داعي لتشطح بعيدا ، فقط عد بضع عشرات من السنيين للوراء ، من بين 300 مليون حيوان منوي قذفهم والدك في أحشاء أمك وصل 1000 حيوان منوي الى الغشاء ، ثم تسابق ال1000 حيوان منوي بسرعة خيالية (10 ميل في الساعة ) لإختراق البويضة ونجح واحد فقط منها وهذا الواحد من أصل 300 مليون ستكون أنت ، وباقي الحيوانات المنوية ستموت .
لو قمت بحساب إحتمال أن يقابل أمك أبوك وأن يتزوجا ، ثم قمت بحساب أن هذا الحيوان المنوي بالذات سيتقابل من تلك البويضة هي إحتمال ا إلى 400 كوادريليون (400 مليون مليار ) عمم تلك النسبة الضيلة على جميع أسلافك الذي يعتمد وجودك على تزاوجهم والبالغ ترليونات الملايين من الأشخاص وستجد أن إحتمال وجودك ببساطة هو صفر ورغم ذلك أتيت .
رأيت النور بمعاناة وجهد أكبر بكثير من قطع قضيب اورانوس ،رأيت النور لأن أسلافك كافحوا وقاتلوا وتنافسوا وغامروا ونجوا . أنت قصة أجيال وأنواع وكائنات سطرت تاريخك الجيني بمداد من الحب و البذل والعطاء والجهد والتضحية.
كثيرة هي القصص والملاحم التي صاغها البشر عبر تاريخهم الفلسفي القصير في سياق محاولة الكشف والبحث والتأمل في أصول نشأتهم ونشأة كوكبهم ، وجميعها تتنافس في الإثارة والتشويق والمتعة والجمال ، لكن تظل القصة الأكثر دقة وجمالا بنظري هي تلك التي يرويها لنا ذوو المعاطف البيضاء والنظارات السميكة والأرقام المملة والمعادلات المعقدة والصيغ والمصطلحات صعبة النطق ، فقصتهم تبدوا منسجمة مع الكون ، ويبدو أن الكون معجب بها لذلك فهو يدعمها عندما نحاول إختبارها وفحصها ، تبدوا لي هي القصة الأكثر نفاذا وعمقا في نسيج الحقائق الكونية ، والأهم من ذلك تبدوا لي هي القصة الأكثر روحانية إذ تجعلني أقشعر كلما نظرت إلى يدي وأتخيل نفسي أنني أنظر إلى جزء من ذلك الإنفجار العظيم الذي إنبثق منه الكون .