“سيادة الرئيس الدكتور بشار حافظ الأسد، اليوم فقط تأكدت أننا كعلويين مجرد أرقام لا قيمة لها في دولتكم! فرحت لتحرير الراهبات من قلبي وأشكر المسلحين لعدم اشتراطهم إعدام ألف علوي مقابل الراهبات!! لم يعد لدي شك أنكم كنتم فكرتم بالأمر. أين علويو عدرا؟ أين علويات الساحل سيادتكم، هم أكثر من 176 امرأة وطفلة! أم أننا بتنا لمسؤوليكم مجرّد أرقام لا قيمة لها؟ هل نحن مملوكون لأشخاص لا نعرفهم سيادتكم؟
أخبرونا الحقيقة! هل لديكم طابو أخضر (ورقة ملكية) بنا كعلويين؟ نحن من دفع ويدفع الثمن فخامة الرئيس! اعذرني سيادة الرئيس إلا أن سياستكم باتت تشكل خطراً وجودياً حقيقياً على العلويين! نحن بشر سيادتكم! لدينا أحاسيس ونبكي أيضاً! صدقني نحن كالجميع. خلال تاريخ العلويين منذ القرت الثالث الهجري ولغاية الساعة لم يتعرض العلويون إلى هكذا إبادة وممن؟ من دولة رئيسها علوي!!”.
ذلك المقطع الذي تنتهي عباراته كلها بعلامتي التعجب أو الاستفهام، كتبه أحد الموالين لنظام الأسد على صفحة “فايسبوك” موالية أيضاً. وربما تكون ردود الأفعال حول إطلاق سراح الراهبات المختطفات، ومبادلتهن بنحو 150 معتقلة بينهن أطفال، أهم من العملية ذاتها. ردود أفعال المتفرّج والمعني، معارضاً كان أم موالياً. يبدأ ردّ الفعل منذ إطلاق الفيديو الذي يظهر عملية إخلاء سبيل الراهبات. ذلك الفيديو ليس مقطعاً من فيلم روائي. لقد حصل في يوم من الأيام، في بلد تدعى سوريا، أن يحمل أحد عناصر “جبهة النصرة” راهبة عجوزاً غير قادرة على المشي ويضعها في إحدى السيارات التي ستقلّهن إلى مكان “الصفقة”. ليس فيلماً ذاك الذي شاهدناه.
يحدث في سوريا، أن يبادل نظام الأسد الراهبات المحتجزات لدى عدوّه، بنساء معتقلات لديه. كما حدث قبل أشهر مع صفقة تبادل أسرى إيرانيين ولبنانيين. انطلاقاً من هاتين الصفقتين، يعبّر ذلك الموالي عن إحساسه بالغبن والوحدة. النظام الذي “يحمي الأقليات”، عاجز عن حماية أبناء طائفته. “صدقني نحن كالجميع”، ألا تذكّر العبارة هذه بالجملة الشهيرة التي أطلقها أحد المتظاهرين بداية الثورة: “أنا إنسان مو حيوان، وهالعالم كلها مثلي”؟
في نهاية يوم غير عادي كغيره من الأيام غير العادية، عندما يخيّم الظلام ويجلس ابن الساحل مع نفسه، قد، وربما، ومن الممكن، أن يستفزّه كلام المذيعة على القناة السورية الرسمية وهي تصف الصفقة بـ”التاريخية”! وهنا تجوز إشارة التعجّب هذه وربما تعجز الإشارة الصغيرة عن الاستفاضة بالتعجّب والدهشة والوجع. من جهة، تفقد الأرقام أهميتها، فيصبح الرقم 13 معادلاً للرقم 150، ومن جهة أخرى يستعذب نظام الأسد إهانة الكائن السوري عبر مبادلته بإيراني أو لبناني. ثم تخرج المذيعة المتأنّقة لاستقبال الراهبات على الحدود السورية- اللبنانية، لتصف الصفقة بالتاريخية، مستعذبةً هي الأخرى إهانة السوريين. وليسوا أي سوريين، بل الموالين للنظام، ممن قدّموا أبناءهم في سبيل بقاء أشخاص، وكأن وجودهم مرتبط بوجود عدد قليل من الأشخاص، يحمونهم فيحمون أنفسهم.
لو أن المذيعة كانت على دراية بما سترويه الراهبة بيلاجيا سياف، بعد وصولها مع الراهبات إلى منطقة المصنع الحدودية، لكانت ربما اكتفت بتغظية عادية للحدث “التاريخي”. وربما لو أن نظام الأسد كان على دراية بما سيلحق عملية التبادل من تصريحات، لكان تراجع عن فكرة تغطيته إعلامياً. المذيعات المحترفات في القنوات السورية الرسمية واللبنانية الموالية، قمن بواجبهن وأكثر.
حاولن قدر المستطاع تلقين الراهبة بما ينبغي عليها أن تصرّح به. إلا أن الراهبة خذلت تقاريرهن الإخبارية فشكرت في جملة واحدة “العصابات الإرهابية المسلحة” و”السيد الرئيس بشار الأسد” و”أمير قطر الشيخ تميم بن حمد”. شكرت الجميع فساوت بين جهودهم! لم تقل إنها نجت من أيدي الإرهابيين التكفيريين مغتصبي النساء. شكرت “الجماعات الإرهابية” على حسن الضيافة. ونفت اعتقاد المذيعة بأنهن خلعن الصلبان غصباً عنهن. قالت ببساطة إنهن لم يجبرن على فعل شيء وإنهن سكنّ في عمارة مجهّزة بكل المستلزمات وإن الجماعة الخاطفة عاملتهن بتهذيب ولباقة وحسب الأصول (أصول الاختطاف). لتنقسم بعدها ردود أفعال الموالين إلى طرف مغبون وطرف شبيح. طرف يهاجم النظام “حامي الأقليات” الذي لم يبادل المعتقلات لديه بمعتقلين ينتمون إلى الطائفة العلوية، أو على الأقل إلى الطائفة الموالية سياسياً. وطرف قادته الدهشة إلى تشبيح رخيص يصف الراهبات بأوصاف غير لائقة مستهجناً صراحتهن.
لم تعد تقارير الإعلام الرسمي أو العربي الموالي لنظام الأسد، قادرة على إخفاء بديهيات ما يحدث. وتصريحات وزير الإعلام السوري بأن الصفقة تمّت من دون تدخل قطري وأن العدد الحقيقي للمفرج عنهم هو 25 وليس 150، باتت ضرباً من الخيال. ثمة شريحة موالية، لا نعرف اتساعها، لم تعد تحتمل العيش في ظلّ نظام ينتمي إليها طائفياً، لكنه يبيعها سياسياً كما يبيع باقي الشعب السوري من كل الطوائف. حتى وإن كان لا يرميهم بالبراميل أو يقصفهم بالكيماوي أو يعتقلهم، إلا أنه يستخدمهم كدروع بشرية رخيصة، من دون أن يفاوض لأجلهم أو يحميهم.
“أدمن نوار بدي قول كم كلمة بصفحتكم الكريمة.. بس بتمنى ما تحذف كلامي لأن في قلبي وجعاً كبيراً. أنا من صافيتا وعلوي ويا سيدي معارض.. رح تقلي ليش معارض، رح قلك لأنو نحن دروع بشرية لعائلة واحدة… في أي قاموس بالدنيا، تموت طائفة كاملة مشان عائلة واحدة؟ رح تقلي خطفوا وقطعوا رؤوسنا، رح قلك هذه المقاطع المسرّبة عن تعذيب المعتقلين بتخلي الواحد يقوم من قبره ويصير متطرفاً. نحن أغبياء وفكرنا أنه حامينا وعم نقله منحبك! ولك عشو بدي حبك؟”.