وليد فكري : رصيف 22
مصطلح “حروب الرِدّة” يُطلَق عادة على تلك الحروب التي اندلعت واستغرقت مدة لا بأس بها من عهد الخليفة المسلم الأول أبي بكر بن أبي قحافة المعروف إسلامياً ب”الصدّيق”.
و”الردة” تعني في اللغة “التَراجُع” أما في المصطلحات الدينية فهي تعني “تخلي المسلم عن إسلامه”.
إشكالية المصطلح وتفسيره
القارىء في الوقائع التاريخية التفصيلية لتلك الحروب يدرك قصور ذلك الوصف “الردة” عن تغطيتها من حيث الأسباب والنتائج ودوافع أطرافها المختلفة.
ولإعادة النظر في هذا الوصف أهمية كبيرة، فهو من ناحية يمثل كسراً لفكرة “القوالب التاريخية الجاهزة” التي توضع فيها قسراً بعض الأحداث مما يضر بالدقة العلمية التاريخية.
ومن ناحية ثانية فإن المحرك لتلك الحروب لم يقتصر على “ارتداد بعض القبائل أو العشائر عن الإسلام” بالمعنيين اللغوي والديني وإنما تنوعت المواقف بين ردة صريحة أو ادعاء البعض للنبوة أو امتناع البعض الآخر عن دفع الزكاة والصدقات للسلطة المركزية في المدينة لتقوم بتوزيعها.
التسليم لمصطلح الردة وصفاً لكل تلك المواقف إنما يصب في مصلحة الفكر التكفيري الذي يعتبر أي مخالفة لمعتقده الديني أو حتى السياسي بمثابة “ارتداد عن الإسلام”.
كمثال لذلك تصنيف بعض مدارس فرقة “الخوارج” أنهم مرتدون، أو استخدام تنظيم “ولاية سيناء” الإرهابي مصطلح “جيش الردة” للإشارة للجيش المصري، وغيرها. بالتالي فإن نفض التراب عن الظهور التاريخي الأول لهذا المصطلح يمثل أهمية كبيرة.
تنوع مواقف القبائل والعشائر المتمردة
تنوعت مواقف القبائل والعشائر المتمردة، فمنها من ظهر فيها مدعون للنبوة.
كان أشهرهم مسلمة بن حبيب الحنفي، المعروف بمسيلمة الكذاب، في اليمامة، والأسود العنسي في اليمن، وسِجاح بنت الحارث في قبيلة تميم، وطليحة بن خويلد في بني أسد، ولقيط بن مالك المعروف بـ”ذي التاج” في عمان… ادّعى هؤلاء أنه قد شارك النبي محمد فيها في حياته، كالأسود العنسي ومسيلمة، أو أنه قد ورثها بعد محمد كباقي المتنبئين، وإن كان المتنبئون قد تمسك كل منهم بمبدأ الوحدانية والاعتراف بالبعثة المحمدية إلا أنه بعضهم قد اختلق لنفسه قرآناً-كمسيلمة وطليحة وسجاح، وقام ببعض التبديلات والالغاءات لبعض الطقوس والمحرمات الإسلامية.
ومن القبائل ما تمثل تمرّدها في رفض دفع الزكاة للمدينة، فكان منها عبس وذبيان وبنو عامر وتميم، بل وحاولت بعض تلك القبائل غزو المدينة لإجبار الخلافة على إسقاط الزكاة عنها.
فالزكاة كان يتم جمعها ثم تقوم السلطة المركزية بتوزيعها، الأمر الذي كانت بعض القبائل والعشائر تأنف منه باعتباره “وصاية عليها” أو باعتبار أن الزكاة هي مجرد أتاوة لا فرض ديني.
فكانت وفاة الرسول محمد فرصة للمطالبة الجماعية التي تمثلت في التعهد بإقامة الصلاة فقط دون إيتاء الزكاة، وهو الأمر الذي رفضته المدينة.
رسم لِما كانت تبدو عليه المدينة المُنوَّرة خِلال أواسط القرن التاسع عشر الميلاديّ من كتاب
Richard Francis Burton
وهناك قبائل أخرى ارتدت عن الإسلام بشكل صريح، بل وقام بعضها بقتل من ثبتوا من أبناءها على الإسلام، منها غطفان وأسد وبني عامر وسليم وكذلك بني بكر بن وائل في البحرين.
والمدقق في أسماء القبائل التي تنوعت أشكال تمردها يلاحظ أن بعضها جمع بين الارتداد الصريح وإدعاء النبوة أو منع الزكاة.
وتفسير ذلك أن بعضها كان يطالب أولاً بإسقاط الزكاة عنه ثم يرتد إثر رفض طلبه، أو كان يرتد ثم يتبع مدعٍ للنبوة، وهكذا. مما يشير إلى أنّ المسألة لم تكن عقائدية أو دينية بل كانت سلطوية بحتة من جانب المتمردين.
دوافع موجة التمردات على الدولة الإسلامية الناشئة
الدوافع تعددت: فـ”مانعو الزكاة” كان السبب الظاهري لرفضهم إرسالها ماليّ بحت، ولكن محركه كان النظر للزكاة والصدقات باعتبارها “أتاوة” والشعور بالإهانة للاضطرار لتقديمها للمدينة.
ففي ذلك الوقت لم يكن الإيمان بالمعتقد الإسلامي وما يرتبط به من عبادات قد تشرب في نفوس الناس، بل كان انضواؤهم تحت الحكم الإسلامي بمثابة تسليم بالأمر الواقع لقوة وزعامة ناشئة مسيطرة، ولذلك نظروا للزكاة لا باعتبارها أمراً تعبدياً وإنما باعتبارها أتاوة أو ضريبة هم مضطرون للتسليم بها للرسول محمد.
فلما مات وخلفه أبو بكر رأى البعض أن من كان “يستحق” ولاءهم قد مات فلا حق لمن يخلفه، خاصة وأن النظرة “القبلية” لأبو بكر اعتبرته ضعيف البنية والعشيرة ولا قوة له على الإمساك بزمام الحكم.
تمثل ذلك في قول قرة بن هبيرة، وهو من زعماء بني عامر المتمردين، لعمرو بن العاص: “إن العرب لا تطيب لكم نفساً بالأتاوة”.
أو كقيام مالك بن نويرة من “تميم” بمنع إخراج إبل الصدقة من قبيلته وقوله “إن هذا الرجل قد هلك، يعني النبي محمد، فإن قام قائم من قريش بعده نجتمع عليه جميعاً إن رضى منكم أن تدخلوا في أمره ولم يطلب ما مضى من هذه الصدقة أبداً، ولم تكونوا قد أعطيتم الناس أموالاً أنتم بها أولَى وأحق!”
إذاً فهذا القطاع من المتمردين لم تكن مشكلته في انضوائه تحت زعامة موحدة وإنما في ممارسة تلك الزعامة لوظيفتها الفعلية وقيامها بدور مركزي خاصة في أمر حساس كالأموال.
في المقابل كان قطاع غيره مشكلته الأساسية في خضوعه لحكم من خارج قبيلته/عشيرته، فكما كانت بعض العشائر القرشية مثل بني أمية وبني مخزوم تأنف، في بداية الإسلام، من اتباع نبي هاشمي، كانت بعض القبائل تأنف من اتباع زعامة قرشية.
صحيح أن قريش كانت القوة الأكبر آنذاك وتمثل هذا في قول البعض عند استخلاف أبو بكر “لن تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش”، إلا أن بعض القبائل العربية كانت ترى نفسها أحق بالزعامة.
فلما انتقل الحكم من نبي قرشي لخليفة قرشي تمردت، وإن تمثل هذا التمرد غالباً في اتباع بعض المتنبئين، بالتالي فقد تقاطع دافع “القبلية” مع الدوافع الشخصية لمدّعي النبوة في تحقيق الزعامة لأنفسهم أو لعشائرهم في محاولة لـ”تقليد” تجربة “النبي القرشي”.
بدا هذا في موقف البعض ممن اتبعوا مدّعي النبوة، فـ”عيينة بن حصن الفزاري” فور علمه بوفاة الرسول قال لعمرو بن العاص: “يا عمرو استوينا نحن وأنتم!”
وقال لقومه “والله لأن نتبع نبياً من الحليفين، يعني قبيلتي أسد وغطفان، أحب إلينا أن نتبع نبياً من قريش، وقد مات محمد وبقي طليحة، فطابقوه على رأيه!”
وكانت قبائل فزارة وغطفان وأسد متحالفة قبل الإسلام، فلما خرج طليحة بن خويلد الأسدي وادعى النبوة قال عيينة ذلك.
جدير بالذكر أن عيينة بن حصن لما أُسِر بعد ذلك وأُخِذَ للمدينة قيل له “أعدو الله أرتددت؟” أجاب: “وهل كنت قد أسلمت لأرتد؟”
مما يعكس حقيقة أن كثيرًا ممن وصفوا بـ”المرتدين” لم يكونوا قد أسلموا “عقائدياً” وإنما خضعوا للدولة فقط وأسلموا “شكلياً”.
كذلك فعندما أعلن مسيلمة المعروف بـ”الكذّاب” دعوته في اليمامة قال له بعض زعماء قومه “إنك كاذب وإن محمد لصادق ولكن كذاب ربيعة (كناية عن اليمامة) أحب إلي من صادق مضر (كناية عن قريش)”.
ومسيلمة نفسه قال للرسول محمد في رسالته إليه “إن لنا نصف الأرض ولكن قريش قوم يعتدون!”
و”عبهلة” المعروف بـ”الأسود العنسي” في رسالته لعُمّال الصدقات الذين أرسلتهم المدينة لحمل صدقات وزكاة اليمن خاطبهم بـ”أيها المتوردون على بلادنا”
وسِجاح التميمية حاولت أولاً غزو اليمامة، ثم تعاهدت مع مسيلمة الذي قال لها “أتزوجك فنأكل بقومي وقومك الناس”.
“إن لنا نصف الأرض ولكن قريش قوم يعتدون!” عن النزاع على السلطة، خارج الإطار الديني، في بدايات الإسلام
دوافع السلطة للرد بقوة
الموقف على الأرض كان عصيباً بالنسبة لسلطة المدينة ممثلة في الخليفة أبو بكر، فالتمرد كان واسع النطاق إلى حد أنه لم يبق على “الطاعة” سوى المدينة ومكة والطائف وبعض المناطق المحيطة، وكذلك “جيوب” من القبائل والعشائر التي ثبتت على ولائها هنا أو هناك وسط بحر من المتمردين.
وهو ما وصفه بعض الصحابة بقوله “إن الأرض كافرة”، كذلك فقد تعرضت المدينة، عاصمة الدولة آنذاك، لمحاولة غزو من بعض القبائل المانعة للزكاة، في محاولة لفرض موقفها على السلطة بالقوة.
سارع أبو بكر لإرسال نحو 11 حملة، معظمها متزامن، للنواحي المتمردة، وبعيداً عن القراءة “الدينية” للتاريخ التي افترضت أن هدف تلك الحملات كان دينياً بحتاً متمثلاً في “إعادة المرتدين للإسلام”، فثمة هدف سياسي/إداري تمثل في إدراك السلطة في المدينة أن هذه الحركات هي الاختبار الأول لقوة السلطة المركزية واستجابتها للانشقاقات.
فكان لا بد من اتخاذ موقف قوي لمواجهة الأزمة، كذلك كان يوجد بُعدٌ “شخصي” لا يمكن إنكاره.
ففي نظر قطاع كبير من الخارجين عن السلطة لم يكن أبو بكر هو الرجل القوي الذي يجب أن يهابوا الخروج عليه، فكان عليه أن يثبت لهم العكس، وهو ما تمثل في قوله عن مانعي الزكاة “لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه”.
رغم أن بعض الصحابة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب مستشار أبي بكر، كانوا يرون أن طالما بقيت تلك القبائل من منعوا الزكاة، على الإسلام وبقيت فيها إقامة الصلاة فلا داعٍ لمحاربتها، خاصة وأن الزكاة أمر تعبدي بحت.
البُعد الديني لا يمكن إنكاره خاصة مع قول أبو بكر “لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة”، ولكن لا يمكن تعميمه على كل دوافع السلطة المركزية للتعامل مع الأزمة، خاصة وأنه من الطبيعي في تاريخ نشأة أية دولة قائمة على “توحيد القبائل/العشائر/المدن”، أن تتعرض فكرة الحكم المركزي أو الحكم الموحد للاختبار الذي يبين مدى صلابة وتماسُك هذا الحُكم.
ختاماً، لم يقتصر الواقع التاريخي إذاً على النظرة السطحية له “قبائل ارتدت عن الإسلام وتمت إعادتها إليه” والتي يعتنقها الكثيرون ويروج لها أصحاب القراءة “المُدَيَّنة” للتاريخ، وإنما كان أعمق من ذلك بكثير.
ومن هنا يجب توخي الحذر في التعامل مع هذه الفترة من التاريخ لئلا يُسمح بأن تتحول إلى وقود لمن يعميم صفة “الردة” على أية تنوع أو مخالفة لمنظور ضيّق للدين، ويضم إليها أي اختلاف فكري أو سياسي عن النظام التأسيسي لأول دولة إسلامية.
إضافة للتدقيق التاريخي العلمي، يبقى من الضروري تحليل الصورة التاريخية من المسلمات الجامدة.
المصادر: البداية والنهاية، ابن كثير؛ تاريخ الأمم والملوك، الطبري؛ تاريخ الخلفاء الراشدين، د. محمد سهيل طقوش؛ أطلس تاريخ الإسلام، د. حسين مؤنس؛ حركات الردة، د. زينب عبد الله كرير؛ اليمن في التاريخ الإسلامي الباكر، د.عبد المحسن المدعج.