ماجد كيالي: الحياة: النسخة: الورقية – دولي الثلاثاء، ٢ أغسطس/ آب ٢٠١٦
ثمة أسئلة عديدة وعلى غاية من الأهمية طرحت نفسها منذ اندلاع الثورة السورية (في آذار/ مارس 2011)، لكنها لم تجد إجابة عنها حتى الآن، حتى أن قيادات المعارضة لم تتطرّق اليها، أو لم تتوقّف عندها، لا في خطاباتها وبياناتها، ولا حتى في الندوات وورشات العمل الكثيرة التي عقدتها، والتي يفترض أن مهمتها الاشتغال على هكذا أسئلة.
مثلاً، منذ البداية طرح شعار إسقاط النظام، وهذا مفهوم بالنظر إلى عفوية الثورة السورية، وفي سبيل التعبئة والتحشيد وكتحديد للهدف، بيد أن هذا شيء وتحويل هذا الشعار إلى واقع شيء آخر، لا سيما بعد أن بات لهذه الثورة كيان سياسي يعبر عنها، أو يفترض أنه كذلك (المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني)، إذ بات الأمر منذ ذلك الحين يستلزم من الكيانات السياسية المعنية الإجابة عن السؤال: كيف يمكن إسقاط النظام؟ أو هل يمكن إسقاطه بإمكانات الشعب الذاتية؟
طبعاً لا يمكن الإجابة عن السؤال في شكله الأول، إذ يتعذّر التنبؤ بمآلات الثورات وبتداعياتها، كما التيقّن من نجاحها أو فشلها، لكن السؤال في شقّه الثاني يبقى مشروعاً، وضرورياً، والإجابة عنه بمسؤولية تقع على عاتق الجهات المقرّرة في الثورة، التي يفترض أن تدير الصراع بأفضل وأقوم ما يمكن.
ربما أن ما غيّب الإجابة عن هذا السؤال في الأشهر الأولى للثورة شيوع نوع من الشعور بأن العالم، أو القوى الدولية الفاعلة، لن تترك السوريين مكشوفين إزاء بطش النظام، وأن ثمة نوعاً من التدخل الدولي سيحصل ما يسهّل عليهم إسقاط النظام. بيد أن هذا الشعور، الذي تأسس على تجارب مماثلة، وعلى تشجيعات دولية وإقليمية وعربية، أهمها تصريحات الرئيسين الأميركي والفرنسي، ورئيس الوزراء التركي (في حينه)، ومواقف جامعة الدول العربية التي جمدت عضوية النظام، ما لبثت أن تكشفت عجزها عن توفير الحد الأدنى من الإسناد الدفاعي، المتمثل بوضع حد للطلعات الجوية والقصف بالبراميل المتفجرة وبالقذائف الصاروخية.
الآن لنفترض أن ثمة خذلاناً للثورة السورية، وتخلّياً عنها، أو لنفترض أن ثمة تلاعباً ما، لأغراض معينة، من قبل هذه الدولة أو تلك، لحرف ثورة السوريين، أو تحميلها ما لا تحتمل، ألم يكن من الأجدى في حينه، أي بعد أن تكشفت أوهام «التدخّل» الخارجي، مراجعة الطريق، واجتراح معادلات سياسية جديدة تجنّب السوريين الأهوال التي عانوا منها، والتي سهلت للنظام تدمير عمرانهم وتشريد الملايين منهم، سيما أننا نتحدث عن المرحلة التي تلت صفقة الكيماوي (في آب/أغسطس 2013)؟ وفي الواقع فمنذ هذا التاريخ كان يفترض في المعارضة السورية تقديم الإجابة عن السؤال: هل يمكن إسقاط النظام بالإمكانات الذاتية؟ فإذا كان الجواب على ذلك نعم، فقد كان يلزمها ذلك التوضيح: كيف؟ وبأية قوى؟ وهل الكيانات السياسية والعسكرية والمدنية على هذه الدرجة من التوحد والنضج، السياسي والعملياتي ما يؤهّلها لذلك حقاً؟ ثم هل لديها الإمكانات العسكرية الذاتية لحسم هذا الأمر؟
في المقابل إذا كان الجواب بالنفي، فما العمل؟ ومثلاً، هل كانت قيادات المعارضة تملك الجرأة السياسية والأخلاقية لمخاطبة شعبها في شأن هذا الواقع، والتوجّه نحو تخفيف وتائر الفعاليات الثورية، وضمنه تخفيف الصراع المسلح بدل تصعيده، للحفاظ على طول نفس الثورة، وتجنيب البيئات الشعبية مزيداً من الكوارث، وحتى التصرف على أساس أن الثورة في هذه المرحلة أثبتت ذاتها بخروج الشعب إلى الشوارع، إلى مسرح التاريخ، في مواجهة النظام للمرة الأولى، وفي تعبيره عن ذاته في صيحته: «الشعب يريد إسقاط النظام»؟ ألا يمكن اعتبار كل ذلك مرحلة أو «بروفة» بانتظار مرحلة قادمة أنسب؟
أما في حال كان الجواب بالنفي يأتي في إطار قناعة، أو معاندة، تفيد بضرورة تعزيز اعتماد الثورة وزيادة ارتهانها للخارج، على القوى الدولية والإقليمية والعربية، أو ما عرف بالدول «الصديقة»، فعلى المعارضة حينه أن توضح لشعبها من هي الدول التي تعوّل عليها؟ وأن تفسّر لماذا ينبغي الاعتماد عليها، في حين أنها لا تستطيع أن تقدم الإسناد الملائم لمواجهة النظام، ولا حتى على صعيد مضاد طائرات، ولا فرض مناطق «آمنة»؟ نقول ذلك وقد تبيّن أن كل دولة من هذه الدول تشتغل وفق أجندتها الخاصة، وأنها تريد أن تأخذ، أو توظف الثورة السورية وفق مصالحها، علماً أنها كلها تشتغل تحت السقف الذي تحدده الإدارة الأميركية.
وفي الواقع فإن المعارضة سكتت عن هذا السؤال، أو أزاحته من دائرة النقاش، لأنها بين أمور أخرى كانت ضعيفة إزاء املاءات الدول «الصديقة»، أي أنها تصرفت بطريقة دونية مع هذه الدول، حتى في بنائها لهيكليتها، وفي خطاباتها، وفي سكوتها عن التدخلات الفجّة والمضرة بالثورة، بخاصة في تشكيلات أو تفريخات الألوية والكتائب العسكرية، وفي تجميد «الجيش الحر» وإضعافه، لمصلحة دعم جماعات عسكرية ذات أيديولوجية معينة، ما أضر بالثورة وبصورتها، في العالم وإزاء السوريين، من دون أن تستطيع أن تشكل فرقاً في مواجهة النظام وحلفائه في الصراع الدائر.
هذا ينقلنا إلى السؤال التالي: هل اعتماد المعارضة السورية على المساندة الدولية والإقليمية، أو ارتهانها لها، زاد الثورة قوة أو أفادها، أم أنه أضعفها وقيّدها ونمّى أوهامها وأدخلها في مغامرات غير محسوبة وجيرّها لحساباته المتباينة؟ هذا السؤال كما سؤال إسقاط النظام، يبدو سؤالاً راهناً، ويفترض الإجابة عنه، وكلما كان ذلك أبكر، كلما كان أفضل، لاستنباط الدروس والعبر، ولتجنيب السوريين مزيداً من الخسائر والكوارث.
وربما يفيد هنا أن نذكّر بقضية ربما تفوت كثيرين مفادها أن شعار إسقاط النظام لم يعد في التداول، من الناحية العملية، بدليل المفاوضات الجارية، التي تدور على تشكيل هيئة حكم انتقالية، ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، تتشكل من المعارضة وأطراف من النظام (من الذين أيديهم غير ملوثة بالدماء)، أي أن هذا الشعار بات يقتصر على الانتهاء من حكم بشار الأسد وعائلته، لكن هذه النقلة يجري التعتيم عليها، مع إنها على غاية في الأهمية.
ثمة سؤال آخر برسم المعارضة، أيضاً يفترض أن تناقشه وأن تجيب عنه، وهو: هل تستطيع هذه المعارضة أن تقول إنها نجحت في إدارة أوضاعها، وفي إدارة الصراع ضد النظام؟ أو هل هي راضية أو تعتقد أن الاستمرار على ذات الطريق، وبالبنى والمفاهيم نفسها، سيوصلها إلى الهدف المنشود؟ والمعنى أن هذا السؤال من شقين، أولهما يتعلق برؤية المعارضة لذاتها كقيادة لثورة السوريين، ما يتطلب منها مراجعة أوضاعها سواء في علاقتها بشعبها، أو في ما يتعلق بطبيعة بناها ومؤسساتها، بعد مضي كل هذه السنوات، وكل هذه التجربة. فهل هي راضية عن نفسها؟ وهل قدمت أقصى وأفضل ما عندها؟ أم أن ثمة ثغرات كبيرة، تفترض منها اجراء مراجعة ومحاسبة لتطوير أحوالها؟ أما الشق الثاني فيتعلق بمستوى إدارة المعارضة في صراعها ضد النظام، وضمنه في إدارة المناطق المحررة، فهل هي حقاً استطاعت إحراز نجاحات على هذا الصعيد؟ ولماذا ما زالت الفجوة كبيرة بين الأطر العسكرية والسياسية؟ ولماذا لم تنجح المناطق «المحررة» في تقديم نموذج مناسب وجاذب وواعد وبديل للنظام؟
ثمة سؤال أخير رابع، وهو يتعلق بخطابات المعارضة إزاء مكونات الشعب السوري، الدينية والمذهبية والأثنية (لا سيما بما يتعلق بالكرد)، إذ إن الخطابات الأولية للثورة، والمتعلقة بكون سورية بلداً لكل السوريين، المتساوين والأحرار، وبقيام دولة مدنية ديموقراطية تعددية، باتت ضعيفة لمصلحة الخطابات ذات التوجه الديني أو الطائفي أو الأيديولوجي. والحال فإن هذا الأمر يضع علامة شك حول قدرة المعارضة على تمثيل كل السوريين، كما على صدقيتها في بناء دولة مواطنين، فضلاً عن أن ذلك يريح النظام، ويسهل له تقديم نفسه كحامٍ لـ «الأقليات»، ما يجعله يكسب على حساب المعارضة. وبديهي أن هذه المسألة تأخذنا نحو تأكيد أهمية الصراع على الخطاب في المشهد السوري، بين النظام والمعارضة، والملاحظ أن المعارضة لم تنجح في ذلك، لا إزاء العالم، ولا إزاء شعبها، مع خطاباتها المضطربة، علماً أن الكيانات السياسية خضعت لابتزاز بعض الجماعات العسكرية، التي أدخلت الثورة السورية والشعب السوري في مواجهات غير مدروسة وغير محسوبة، وساهمت في وصول الوضع إلى ما وصل إليه مؤخراً، مع حصار داريا وحلب. أي أن المعارضة السياسية هنا بدل أن تعزز اجماعاتها، وبدل أن تجذب الكيانات العسكرية لخطابها، بدت ذات خطابات غير حاسمة، ومضطربة، ونحت نحو مجاملة خطابات الجماعات الإسلامية المتعصبة والمغلقة، وذات المرجعيات الخارجية.
هذه مجرد تساؤلات أو ملاحظات نقدية، مع التأكيد أن ثمة أسئلة كثيرة أخرى تستحق النقاش والمراجعة، وتتطلب من قيادات المعارضة السورية، وكياناتها المختلفة صوغ إجابات مناسبة عنها، لمعرفة كيف تستمر الثورة أو كيف تتراجع، أو كيف تلتقط أنفاسها؟ مع التأكيد أن القيادة الحكيمة والمسؤولة هي التي تعرف متى تسير وكيف تسير وإلى أين تسير، بأقل الأكلاف وبأفضل ما يمكن.
* كاتب فلسطيني