وقّعت روسيا وثيقة «جنيف 1»، ثم اختلفت مع بقية الدول الكبرى على تفسير بنودها. وبعد عام وأربعة أشهر، وافقت على تطبيق الوثيقة من خلال قرار صدر عن مجلس الأمن الدولي بالإجماع رقمه «2118»، بيّن آلية تطبيق الوثيقة، تقول مادته السادسة عشرة «التطبيق الشامل والفوري لوثيقة (جنيف 1) بدءا بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية برضا الطرفين تتولى إقامة بيئة محايدة تتكفل بنقل سوريا إلى النظام الديمقراطي». هذه الآلية أتت على ذكرها رسالة الدعوة التي وجهها بان كي مون إلى رئيس «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السياسية» والنظام الأسدي، وقال فيها إن «تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية» سيكون موضوع مفاوضات جنيف بين الطرفين.
قبِل النظام دعوة بان كي مون من دون اعتراض على موضوع المفاوضات المقترح، وعلى آلية القرار «2118» الذي اعتبرها ملزمة للطرفين تحت التهديد بتطبيق «الفصل السابع». وكان النظام قد أعلن مرات عديدة قبوله وثيقة «جنيف 1»، لكن بعض مسؤوليه أبدوا من حين لآخر تحفظات جدية على ما ورد فيها حول حتمية الانتقال من النظام الحالي إلى نظام ديمقراطي بديل، اعتبرته رسالة أمين عام الأمم المتحدة بدورها موضوع تفاوض رئيسا، وهدفا يلزم السلطة والمعارضة.
افترض من يتابعون الشأن السوري أن هناك هوة بين الموقف الروسي، الذي قبِل بنود وثيقة «جنيف 1» من دون تحفظ والقرار «2118»، وبين موقف الحكومة السورية، التي أعلنت رفض مفهوم وبالتالي خطة الانتقال وتحفظت بشدة على آلية القرار «2118». هذا الافتراض، تبين خلال مؤتمر جنيف أنه كان خاطئا، فقد تطابق الموقف الروسي تطابقا تاما مع موقف النظام إبان مفاوضات جنيف الثانية، وتبنى آلية مخالفة لآلية القرار «2118»، أصرّ عليها وأراد فرضها خلال التفاوض، ثم أدخل موضوعا لا ذكر له في وثيقة جنيف وبالتالي في القرار الدولي.. جعل «مكافحة الإرهاب» موضوع التفاوض الوحيد، وركز على وقف العنف باعتباره نتاج تدخل دول عربية في الشأن السوري، فلا بد أن يكون إذن موضوع التفاوض الرئيس، بما أنه ستنتفي بوقفه الحاجة إلى انتقال سوريا من نظامها القائم إلى نظام ديمقراطي بديل، وبالتالي إلى تشكيل «هيئة حاكمة» تتولى إنجاز هذا الانتقال.
فاجأ الروس العالم بموقفهم المخالف لتوقيعهم على وثيقة «جنيف 1» وآلية القرار «2118»، الذي كان لافروف قد زعم أنه صيغ في مكتبه، وأكدوا تأييدهم التام لموقف النظام، ووضعوا المعنيين بالشأن السوري أمام ضرورة تقديم إجابة واضحة عن سؤال محرج يطرح نفسه عليهم، وهو: ما العمل إذا كان نظام دمشق يرفض تطبيق قرارات واتفاقيات دولية بمعونة ودعم روسيا؟ هل نطوي صفحة التفاوض ونتخلى عن الحل السياسي، أم نفتح الباب الذي أغلقته موسكو ودمشق بوسائل وأدوات جديدة من شأنها إرغام الأولى على التقيد بما وقّعت عليه من وثائق وقرارات، والثانية على قبول آلية القرار «2118»، التي تقول إن بدء العمل يجب أن يكون «تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية»، التي ستنقل سوريا إلى النظام الديمقراطي البديل؟
هذا السؤال هو اليوم موضوع السياسة الدولية حيال سوريا، فهل يتخلى العالم – والعرب – عن الأدوات والوسائل التي عجزت عن وقف قتل السوريين، أم يطور أدوات ووسائل جديدة يلوي استعمالها ذراع موسكو ويلزمها بما وقّعته وبالتالي بمواقف تختلف عن موقف نظام دمشق من جهة، ويرغم الأسد على ترك السلطة من جهة أخرى، بعد أن يحرمه من هوامش المناورة التي يتيحها له الدعم الروسي، ويحول بينه وبين أن يحبط بمعونته الحل السياسي المطلوب دوليا، وما تم التوافق عليه بين الدول الكبرى وفي مجلس الأمن؟ يضع موقف موسكو ودمشق المشترك عقبات يصعب تخطيها أمام وقف العنف، ويحول دون استعادة الأمن والاستقرار إلى منطقة واسعة وحيوية مهددة بالفوضى، تقع بين حدود روسيا الجنوبية وما وراء الخليج، ويطلق العنان لتدخلات خارجية متنوعة في شؤون سوريا، التي ألحقت دمارا كارثيا بدولتها ومجتمعها.
والآن: هل سيقرر العالم حقا بلورة أدوات يستطيع بواسطتها فرض حل سياسي يحفظ حقوق ومصالح شعب سوريا، وإحداث تبدل جدي في موقف روسيا والأسد من مشكلة توشك أن تدخل عامها الرابع، تتفاقم بسبب قيام الكرملين بمنع تطبيق وثيقة «جنيف 1» والقرار «2118»، وما أبداه في جنيف من مقاومة للتوافق الدولي الجامع الذي كان قد التزم به، ومن دعم لنظام مارق يقتل شعبه ويهدد الأمن والسلام الدوليين؟ وهل سيتعامل العالم والعرب مع روسيا بوصفها جزءا من الحل، بينما أثبت «جنيف» أنها جزء من المشكلة؟
نحن أمام لحظة مفصلية، سيظهر بعدها، وخلال فترة قصيرة على الأرجح، ما إذا كنا سنخرج من العزوف الدولي والعربي عن إيجاد حل لمشكلتنا مع النظام الأسدي، وما إذا كانت أزمتنا ستستمر لعام جديد، أم أن موسكو ستغير موقفها من المعضلة السورية، أم أن جهة ما، ليس من الضروري أن تكون دولية أو أجنبية، ستساعدنا على إخراج موسكو من صراع نحن ضحاياه.. كان دورها أساسيا في الطريقة العنيفة والإجرامية التي عولج بها، تعتقد أنها والنظام سينتصران فيه، إن هما منعا تطبيق «جنيف 1» والحل السياسي النابع منه!
نقلا عن الشرق الاوسط