علي سالم
من منا لم يكذب على الناس عندما كان صغيرا ويكذب على نفسه بعد أن أصبح كبيرا، وخاصة عندما وقع في العشق لأول مرة في حياته، عاشقا لأنثى أو لسلطة أو لآيديولوجيا أو لحزب أو لجماعة أو لحزمة أفكار متصلبة مرضية. لست ألوم طفلا يكذب، فهو لم ينضج بعد بما فيه الكفاية ليدرك مدى خسارته مع كل كذبة، وهو أيضا مخلوق ضعيف محاط بكبار كل منهم في حجم النخلة أو الجبل الصغير، وعليه أن يحمي نفسه منهم باختراع أشياء لا وجود لها. في تلك المرحلة من الطفولة كانت هناك جملة واحدة تتردد على أسماعه كثيرا، وهي أن «اللي بيكذب بيروح النار»، وهو أمر يشعره بالرعب غير أن صوتا بداخله يقول له: أنت بالذات لن تدخل النار لأن أكاذيبك بيضاء لا تضر أحدا، ومع مرور الزمن بغير تكوين صحيح للضمير أو ما نسميه (الأنا العليا) لن تختفي حكاية النار هذه، غير أنه سيكتسب مناعة ضد المقولة نفسها، كل من يكذب على يقين من أنه لن يدخل النار لأن نيته عندما مارس الأكاذيب كانت طيبة، أو أنه كفر عن كل ذنوبه، ومنها أكاذيبه بالطرق التي يعترف بها بقية البشر، صادقين وكاذبين.. أبتعد الآن عن أنواع الكذب لأتناول بعض الحقائق.
آخر أزمات السياسة في مصر هذه الأيام، هي أزمة مستشار في رئاسة الجمهورية تمت إقالته لأسباب لم يوضحها أحد بالقدر الكافي، وبعد الإقالة كما يحدث عادة سكت الصمت وتكلمت البطولة تعلن على لسانه في كل البرامج الفضائية والجرائد في مصر وخارجها، حقيقة النظام وهي أنه ليس شفافا وليس وليس وليس وليس، إلى آخر الليسات التي تعرفها وتلك التي لا تعرفها، وبدأت حرب البيانات والبيانات المضادة في حرب بسوسية طاحنة. بيان واحد أثار اهتمامي وهو أن إقالة المستشار ليس لها صلة بعضويته في حزب النور، ولكن لأسباب تتعلق بشخصه. كما فهم المتابعون أيضا أن الرئاسة تتهمه باستغلال نفوذه بما يسيء لسمعة القصر الجمهوري، غير أنها لم توضح طبيعة أو أبعاد هذه التهمة.. هي كما ترى مباراة رائعة في إضاعة الوقت، وقت الرئاسة ووقت الإعلام ووقت الناس، للتغطية على السؤال الوحيد والمهم.. ماذا كانت فعلا وواقعا وحقيقة وظيفة الرجل في القصر الجمهوري؟
اسمح لي أن أجيب بسرعة عن هذا السؤال لكي أتفرغ بعد ذلك لإثبات صحة الإجابة: فعلا وواقعا وعملا وحقا هو لم يكن يمارس عملا من أي نوع في القصر الجمهوري. كان مستشارا مع وقف الاستشارة، لم يستشره أحد ولن يستشيره أحد حتى لو ظل هناك إلى الأبد، والذي قام بتعيينه هناك، عينه لأنه ليس في حاجة إليه، وأكبر دليل على ذلك هو أنه لم يكن يعطيه مرتبا مقابل عمله بمعنى أدق مقابل لا عمله، حتى إن الرجل أوضح أنه لم يكن يحصل على بدل مواصلات.
ومن هذه الإجابة التي تبدو متطرفة ينشأ سؤال: لماذا لم يهتم أحد بسؤاله عن طبيعة عمله في الرئاسة، هو مستشار لشؤون البيئة، ما الاستشارات التي طلبتها منه الرئاسة ومدى قربها أو بعدها عن البيئة، وبماذا أشار عليها، وكيف اكتسب خبرته واهتمامه بشؤون البيئة؟ هل هو مهتم بحزب الخضر في ألمانيا مثلا؟ هل من الممكن أن تعطينا نسخة من استشاراتك وإشاراتك ومشوراتك التي قدمتها للرئاسة لكي ننشرها في عصر الشفافية الذي لا يشف إلا عن خناقات وصدامات فقط؟
لا أحد سأل عن ذلك، لأن الإجابة تتعلق بشيء وحيد لم يعد أحد يهتم به في مصر وهو العمل.. الشغل. لا أحد سأله وماذا كان عملك يا سيدي؟ وفي الثلاثة أشهر التي حاولت فيها عبثا مقابلة رئيس الجمهورية، هل كنت تريد الحديث معه عن أنجح الطرق في القضاء على تلوث مصادر المياه في مصر؟ أم عن طريقة القضاء على السحابة السوداء، أم عن عوادم السيارات العاجزة عن السير في شوارع القاهرة. ليغضب مني أهلي وأرجو أن يغضبوا مني عندما أقول، لا أحد منشغلا بفكرة العمل في مصر، بل بفكرة الوظيفة والفرق بينهما كبير. وهو مرض قديم جدا، فقد حدث مع بداية الانفتاح أن فوجئ أصحاب المصانع بأن العمال يتركونهم ليعملوا بربع المرتب في الحكومة، وهو سلوك طبيعي، لا أحد في مصر يطلب عملا، بل وظيفة حكومية تتيح له أن يتخذ موقعا يبتز به الناس، ويتيح له فرصة الحصول على رزق حرام وفير. وهو الموقف الذي عبر عنه ابن رئيس الجمهورية الشاب بعد أن اعتذر عن قبول وظيفة سمينة وثمينة وذلك عندما تساءل.. ماذا أفعل لكي أحصل على (وظيفة) في بلادي؟ هو كمعظم الشبان في مصر يطلب وظيفة، هو لا يطلب عملا. بغير مواجهة هذه الحقيقة بشجاعة سنعجز عن تحقيق أي شيء في مصر.
تماما كما حدث مع المتحدث الرسمي، خرج من مكانه في القصر الجمهوري بعد أن اكتسب خبرة طويلة في نفي كل شيء، ليحصل على وظيفة حكومية خاصة بالإدارة والمعلومات، هكذا وللمرة الألف بعد الألف نضع إنسانا في مكان لا يعرف عنه شيئا. وكأنه من العار أن يقوم الإنسان بأداء عمله الذي أنفق في تعلمه سنوات عمره.. الرجل طبيب، ما الخطأ في أن يعمل طبيبا في عيادته وبقية مستشفيات مصر؟ ما المؤلم في أن يعمل الطبيب طبيبا والمهندس مهندسا؟
خداع الذات لم يعد يمثل حالات فردية منعزلة، بل أسلوب عمل، كل المستشارين الذين عينوا ثم أقيلوا أو استقالوا لم تكن الرئاسة في حاجة إليهم، كانت كذبة على النفس والناس الهدف منها هو إقناع الجماعات السياسية بأن لها نصيبا في الكعكة.. لكي لا تقولوا إنني أحكم بمفردي وإنني لا أستمع لكم.. تعال يا أخي، هل تفهم في البيئة.. لا.. جميل لقد عينتك مستشارا لشؤون البيئة.. وأنت يا أخي، أنت تحب السمك، لذلك سأعينك مستشارا لشؤون البحار والمحيطات، وأنت يا أختي، لم أفهم شيئا من كتاباتك، لذلك سأقوم بتعيينك مستشارة لشؤون الوضوح والشفافية.. هي كما ترى ليست من أكاذيب الطفولة غير الضارة، ولكنها خداع للذات ومن أكاذيب الكبار التي تورث الخسارة والضياع.
إذا كان هذا المثال يمثل أسلوبا في الإدارة، فمعنى ذلك أنك سترى نائبا عاما ليس نائبا عاما، وقاضيا ليس قاضيا، وضابط شرطة ليس ضابطا للشرطة، ووزيرا ليس وزيرا، وينتهي بك الأمر إلى الوصول إلى بلد ليس بلدا، ودولة ليست دولة، بل بحيرة من الأكاذيب الصاخبة والعنف.
* نقلا عن “الشرق الأوسط” السعودية