من المفترض أن ينتهي غدًا الاثنين في لبنان ما وُصف بـ«الشغور الرئاسي» عبر اقتراع مجلس النواب للنائب ميشال عون وتنصيبه رئيسًا للجمهورية. وهكذا، يُملأ المنصب الذي شغر منذ يوم 25 مايو (أيار) 2014 بسبب مقاطعة «حزب الله» وتوابعه من الكتل النيابية جلسات الانتخاب المتعاقبة إصرارًا منه على تسليم الرئاسة لعون. ومن ناحية ثانية، ترتسم في شمال غربي العراق وشمال سوريا وغربها خرائط جديدة تتداخل فيها أطماع إيران ومطامح الأكراد وحسابات تركيا.
التطوّر اللبناني، مهما قيل عنه، ومهما سوّق من مبرّرات للوصول إليه، يشكل انتصارًا آخر للمشروع الإيراني في المشرق العربي الذي بدأ مع إدارة أميركية جمهورية، وثبّتته ورعته وتعهدته إدارة أميركية أخرى ولكن ديمقراطية هذه المرة. غير أن «انتصار» إيران الجديد في لبنان، رغم احترام سيادة الوطن المُغيَّبة ومقام رئاسة الجمهورية فيه، يظل مجرّد نقطة في بحر ما تفعله ميليشيات إيران ذات الأسماء العربية داخل العراق وسوريا. فللأسف بات لبنان ورئاسته وبرلمانه وحكومته أمورًا تفصيلية تافهة لا تعني شيئًا في المشهد الإقليمي الكبير، الذي يتجّه باتجاه التهجير الديني والمذهبي هنا، والتطهير العرقي هناك. ووحدهم بعض المسيحيين الموارنة ما زالوا يأخذون المسألة بجدّية غير مستحقّة، ويرفضون الاقتناع بالغاية التي دفعت إيران – عبر «حزب الله» – إلى ترشيح عون، وبمباركة واشنطن غير المباشرة لترشيحه.
رئيس الجمهورية الجديد في لبنان، بكل صراحة، لن يكون «رئيسًا» بما أن لبنان لم يعُد «جمهورية». ذلك أنه حاليًا مجرّد جزء من شاطئ إيران على البحر المتوسط ومخيمّ عسكري كبير لميليشيا دينية مكلّفة بمهمة إقليمية أسقطت الحدود السياسية المرسومة دوليًا عام 1920. ومن لا يريد أن يرى الحقائق كما هي ليس عليه إلا النظر إلى المهام التي ينهض بها «حزب الله» في سوريا واليمن والعراق والخليج، بل حتى في شبه جزيرة سيناء المصرية. ثم يتابع تبلور مسيرة الميليشيات الشيعية العراقية، ابتداءً من تنظيماتها الفردية تحت مُسمّيات «عصائب أهل الحق» و«فيلق بدر» و«لواء أبو الفضل العباس» و«النجباء» وغيرها… ووصولاً إلى صيغتها الجماعية «الحشد الشعبي» التي «شرعنتها» حكومة حيدر العبادي. نعم، العبادي الذي برّر ظهور قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني، على الجبهات العراقية بأنه «مستشار» للحكومة.
طبعًا، في هذه الأثناء، يتكامل التنسيق الثلاثي بين ما تبقى من نظام بشار الأسد من جهة وإيران وروسيا من جهة ثانية، وكان لقاء موسكو خلال الأسبوع المنصرم محطة أخرى في تأكيد «الوصاية الثنائية» الإيرانية – الروسية على «سوريا المفيدة». الروس والإيرانيون يواصلون دعم النظام في مشروع التهجير الديني والمذهبي على امتداد «سوريا المفيدة» في غرب البلاد، بما فيها محافظتا حلب وإدلب شمالاً. وفي الوقت نفسه يواصل النظام وميليشيات إيران «تحصين» دمشق وتهجير الغوطة، بينما يحافظان على التهدئة في الجولان لضمان إيجابية الدور المُضمر لإسرائيل في التعايش مستقبلاً مع الشقّين السوري واللبناني من المشروع الإيراني.
التفاصيل تختلف في باقي شرق سوريا وشمال شرقها، حيث يلعب الأكراد والأتراك دورًا محوريًا تمتد انعكاساته وارتداداته إلى داخل العراق. وبالأمس، في إعلان فظيع الدلالة أعلنت ميليشيا «الحشد الشعبي» – المرعيّة والمدعومة حكوميًا – أنها بعد إنجازها «تحرير» مدينة الموصل من قبضة تنظيم «داعش» الإرهابي ستتوجّه إلى القتال في سوريا دعمًا لنظام الأسد.
ما هو معروف أن سجلّ «الحشد الشعبي» في أعمال العنف الطائفي الانتقامي يتكلم عن نفسه في كل مكان انتقل إليه مسلحو هذه الميليشيا، من الفلوجة والرمادي إلى المقدادية إلى محافظة صلاح الدين. وبالتزامن مع الجرائم الطائفية التي ارتكبتها هذه الميليشيا بإشراف قائدها الفعلي الجنرال سليماني – أو «المستشار الحكومي» – صدرت تباعًا عن وجوه مكوّنات «الحشد» من أمثال قيس الخزعلي وهادي العامري ومن جر جرّهما كلام يفضح الحقد المذهبي الدفين المدمّر لوحدة العراق والقاضي على أي فرصة للتعايش فيه. ومن ثم، فإن جرائم «الحشد» وخطب رموز تنظيماته وتهديداتهم الانتقامية المريضة دفعت حتى واشنطن «لنصح» حكومة بغداد برفض السماح لهذه الميليشيا المأفونة بالمشاركة في مهاجمة أكبر مدينة عراقية عربية سنّية. غير أن المساعي الأميركية لم تحقق النجاح الذي كانت ترجوه مع سلطة ليست سوى واجهة لطهران، الحليف الإقليمي الجديد لواشنطن، بل أعلنت ميليشيا «الحشد الشعبي» إصرارها على مهاجمة سهل نينوى، ثم دخول بلدة تلعفر ذات الغالبية التركمانية السنّية.
في شمال العراق، كما في شمال وشمال شرقي سوريا، تعتبر تركيا أنها معنيّة من ناحيتين: الأولى حماية الأقلية التركمانية، والثاني منع قيام «كردستان الكبرى». وهي بعد إطلاقها عملية «درع الفرات» في المنطقة الواقعة بين حلب والحدود التركية غرب نهر الفرات لحماية التركمان ومنع وصل «جيب» عفرين ذي الغالبية الكردية غربًا مع باقي مناطق الكثافة الكردية في شمال سوريا وشمال شرقها، فإنها تنظر بقلق إلى مصير التركمان في شمال العراق، وإلى مطامح الأكراد الانفصالية الاستقلالية.
وحقًا هناك ما يبرّر القلق التركي في الشأن العراقي كما في الشأن السوري؛ إذ إن موضوع كركوك (بمكوناتها التركمانية والكردية والعربية) خلافي جدًا مع الأكراد، والسعي الكردي المعلن للاستقلال الكامل عن العراق يهدّد بتداعيات في شرق تركيا ترفضها أنقرة، ثم إن إيران حققت بالفعل اختراقًا للأكراد في معسكر جلال طالباني ومعقله السليمانية.
وعليه، فإن آخر ما يريده الأتراك الآن على حدودهم نشوء تحالف عربي شيعي – كردي برعاية إيرانية ضد السنّة العرب والتركمان المتروكين لمصيرهم في ظل التفاهمات العريضة بين واشنطن وطهران.
وفي هذه الأثناء، يتضاءل الوجود المسيحي في العراق وسوريا ولبنان، لأن الكثير من قيادات المسيحيين أخفقت خلال العقود الأخيرة في اعتماد استراتيجية حكيمة داخل كيانات مضطربة، ومع نخب حاكمة تفتقر إلى الشرعية، ودفعت ولا تزال تدفع ثمنًا باهظًا لاطمئنانها الساذج إلى حماية غربية وهمية تحرّكها المصالح وحدها.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”