تذكرت مصر هذا الأسبوع مرور أربعين عاما على غياب «عميد الأدب العربي». أو لعلها، بالأحرى، لم تتذكر. لا تريد أن تتذكر.
إنها غارقة في السياسة والخوف السياسي أكثر من أي مرحلة في تاريخها. هو كان يؤنبها على هذه العادة السيئة منذ أن أخذ في البروز، بداية العشرينات. العلم.. ماذا عن العلم؟ هل يجوز أن تكون باريس أكثر اهتماما بآثار مصر أكثر من القاهرة؟ كل مخلوق مهتم بـ«عدلي يكن» و«سعد زغلول» وأي اهتمام بالعلم والأدب مؤجل.
لكن نقد طه حسين ونداءاته ذهبت سدى، ولم يغفر لنفسه أنه غرق في الجدل السياسي هو أيضا. عندما عطلت الدولة صدور «الأهرام» قال إن قدر الصحيفة التي يكتب فيها، هو أن تضطهد من الظلام لأنها لن تكف عن الدعوة إلى النور، وفيما سارت مصر بحماس خلف سعد زغلول، رفض الانضمام إلى سلوك الجماهير، مصرّا على أن زغلول زعيم حزب، لا زعيم أمة. لم يهادن، لا في السياسة ولا في الأدب. انتقد في شدة ترجمات مصطفى لطفي المنفلوطي، ومحمد حسين هيكل لبعض الأعمال الفرنسية الكبرى. الأرجح أنه حجة اللغتين. اتهمه البعض، آنذاك، أنه يتعاطى النقد الأدبي من برج عاجي، واعتقد أنه كان على حق. ليس من عبث كان «عميد الأدب العربي»، مع أن الآداب لا عمادة لها ولا نقباء، ولكن ذلك البصير كان عملاقا أعلى، في عصر يذهل عدد العمالقة فيه. كانت أطروحته الدكتوراه في «السوربون» عن ابن خلدون، أحد مؤسسي علم الاجتماع الكوني. وسوف تلمح الأثر الخلدوني في كل أعماله، وهو كان مكتبة لا كاتبا. قد يبدو أسلوب طه حسين اليوم، خصوصا في الرواية والسيرة الذاتية، بعيدا عن الأسلوب الذي تكون بعد جيله، لكن قلة سجلوا زمنهم كما فعل، وقلة من أترابه أتقنوا اللغة كما أتقنها ذاك الأزهري، الذي من خلف ظلمة البصر، أصر على البحث عن النور.
المفارقة أن زوجة فرنسية هي من ساعده ومن شجعه في دأبه اليومي على نشدان العمق اللغوي. العنصر الدرامي في حياته لم يكن تلك الطفولة الصعبة التي حدثنا عنها في «الأيام» بل في مرحلة التعرف إلى الرفيقة الفرنسية التي سوف تغرم بطالب أعمى وتتزوج منه، تاركة حياة البرجوازية المريحة في باريس.
اخترق الرجل الضرير الحياة الأدبية والفكرية في مصر. وأصر على أن يقارع جميع الكبار الذين كانوا يتلألأون في سمائها خلال تلك العقود الذهبية التي سميت، مجتمعة، عصر النهضة. وإذا كان حقا عصر نهضة، فقد كان هو عميده أيضا، واضعا مصر في النثر حيث وضعها أحمد شوقي في الشعر. هنا إمارة ساحرة، وهنا عمادة عبثا يحاول رفاقه منافسته عليها. عبثا حاول أن ينهى مصر عن ضحالة العمل السياسي، وأن يدفع بها إلى المصانع والمزارع والمختبرات. ولو أصغت إليه لما تركت السياسيين يوصلونها إلى ما هي فيه اليوم.
منقول عن الشرق الاوسط